أكرم البني
إبراهيم غرايبة
منذ عدة شهور وأنا أؤجل هذه المقالة مؤملا أن يفرج عن الأستاذ أكرم البني. وكان يراودني شعور منذ نشر خبر اعتقاله أنه سيفرج عنه قريبا جدا. لكن شعوري خاب، وطال اعتقاله، وبدأنا نفتقد جوار الأستاذ أكرم في صفحة آراء في «العرب»، وفي صحف «الغد» الأردنية، والحياة اللندنية، والنهار اللبنانية، والجزيرة نت.
فقد كان الأستاذ البني كاتبا نشيطا يحظى باحترام وتقدير القراء على اختلاف تياراتهم وانتماءاتهم الفكرية والسياسية، وكان أيضا، بعد 20 سنة من الاعتقال المتواصل، يعتمد في حياته على الكتابة بالقطعة. واليوم، وبعد أن فقد مهنة الطب التي درسها وعمل فيها بعض الوقت بسب الاعتقال المتواصل، فإنه أصبح مهددا بافتقاد مصدر رزقه وعمله برغم صعوبته وقسوته، فربما يكون أسوأ اختيار للعمل في الوطن العربي هو العمل كاتبا صحافيا بالقطعة. وتزداد الصعوبات المادية والنفسية المحيطة بحياة الرجل باعتقال أخيه المحامي أنور البني.
قبل أن يُعتقل أكرم البني بفترة وجيزة، علمت أن ابنته الأستاذة بيسان، وهي محامية درست في دمشق ثم حصلت على منحة دراسية في لندن وتكتب أيضا في الصحافة العربية، تتصل بأبيها كل ساعتين تقريبا، وإذا فقدت الاتصال معه لفترة أكثر تصيبها حالة من القلق والخوف عليه من الاعتقال. فهذه الصبية التي أمضت جزءا كبيرا من حياتها وأبوها في المعتقل، لم تعد تحتمل أن يعتقل والدها مرة أخرى. والذين يعرفون العمل السياسي ومشكلاته، يعرفون ويقدرون مثل هذه الحالة، فهي منطقية تماما، وتكاد تصيب المواطنين المشتغلين بالعمل العام بحالة من الاكتئاب وفقدان الثراء الروحي، لأن أسرة كل إنسان، وبخاصة في مجتمعاتنا العربية والشرقية، هي مركز حياته ومحور اهتمامه وتضحياته، وعندما يزج بها في معركة يجب تجنبها، وعندما تشارك في احتمال التضحيات والخسائر دون سبب منطقي لذلك فإن الإنسان يشعر بأنه يدخل معركة هائلة غير متكافئة وغير عادلة، وقد يندفع إلى العزلة أو التطرف أو الحزن الشديد والشعور بأنه يضرب ظلما وابتزازا في الصميم، ويدفع إلى الإهانة وعدم الشعور بالكرامة. وهي حالة تضر بالمجتمعات والسلطات والأفراد لمدة زمنية طويلة، وتنشئ فجوة هائلة في المجتمعات والطبقات والفئات السياسية والاجتماعية والثقافية، ستكون كلفتها على الجميع باهظة وعميقة، لأنها ستفشل وتضرب بقسوة كل برامج التعليم والتماسك الاجتماعي والوطني والثقافة المنشئة للأوطان والأمم والمجتمعات ومكونات الانتماء والمشاركة، والثقة بالمشروعات الاقتصادية والتنموية، بل ومنظومة الثقة بعامة التي تقوم عليها الحياة المعاصرة من الاقتصاد والأمن والرفاه والخدمات. وهي ليست فقط مكتسبات معنوية وترفيهية، لكنها في الحقيقة سلع وموارد إنتاجية واقتصادية تقوم عليها الأعمال والمصالح والعلاقات التجارية والاقتصادية والاجتماعية.
لم يعد مفهوما اليوم في حالة التخلي النهائي لجميع أو معظم الأحزاب والأفراد عن العمل العنفي والتطرف، لماذا تتواصل عمليات اعتقال الناس بسب آرائهم السياسية والفكرية، أو بسبب مقالة تكتب أو مقابلة صحافية. فلم يعد ذلك يضر بالحكومات والأنظمة السياسية، بل يزيدها شرعية ورسوخا واستقرارا، ولم يعد ذلك أيضا منطقيا في مرحلة من التواصل الإعلامي والمعلوماتي والاتصالاتي العالمي، أصبح فيها الاتصال والتواصل عملية سهلة ومتاحة لم تعد الدول ولا المؤسسات قادرة على احتكارها والسيطرة عليها. فقد تحول الإعلام والتواصل العالمي إلى نشاط شخصي فردي، يكاد يقدر عليه كل فرد في العالم بلا تكاليف تذكر، ويكاد يكون اليوم من حق كل إنسان، بل ومن هويته الشخصية، أن يكون له موقع على الإنترنت أو مدونة تقدم بالنص والصوت والصورة للعالم كله آراءه ومنتجاتها المادية والثقافية، فالإعلام والتعبير اليوم أو المعرفة هو مورد لجميع الناس، ولم يعد نشاطا سياسيا.
نتمنى على الحكومة السورية أن تفرج عن المفكرين والمثقفين السوريين المعتقلين، فذلك يفيدها أيضا ويفيد الاقتصاد الوطني السوري. فهؤلاء المثقفون مواطنون منتجون، وتشكل أعمالهم ومنتجاتهم الثقافية صادرات وطنية تعود بالفائدة على الاقتصاد الوطني، كما أن اعتقالهم يزيد الكلفة على الموارد الوطنية ولا يفيد النظام السياسي بشيء، بل يضره ويهز مصداقيته أمام المواطنين والعالم أيضا.
إبراهيم غرايبة