إســلام ومـذاهـب
سليمان تقي الدين
قطعت المملكة المغربية علاقاتها الدبلوماسية مع الجمهورية الإسلامية في إيران، وفي توضيح الأسباب تحدث البيان المغربي عن المساس بوحدة العقيدة السنية المالكية التي يرعاها الملك.
كانت المذاهب في الإسلام واحدة من أهم مظاهر الحراك الثقافي والفكري، وخاصة في علوم الدين. وطوال عهد الأمويين وشطر من العهد العباسي كان الفقهاء يجتهدون ولم يفكر أحد بتقييد رأيهم بمذهب معيّن، إذا ما استثنينا المنصور الذي ألزم العمل في موطأ الإمام مالك، الأمر الذي لم يوافقه عليه الإمام نفسه. وحين تولى أبو يوسف صاحب أبي حنيفة القضاء في بغداد أيام هارون الرشيد فما كان يشير إلا بتولية القضاة من أتباع أبي حنيفة. لكن بعض نواحي الدولة كالأندلس كان قضاتها على مذهب الإمام مالك، والشام كان بعض قضاتها على مذهب الإمام الأوزاعي. ثم ساد المذهب الشيعي في بلاد المغرب ومصر والشام إبان دولة الفاطميين. وفي عهد المماليك حل المذهب الشافعي في مصر والشام فترة إلى أن عادت هذه وتلك إلى المذهب الحنفي في العهد العثماني. ومن المغرب انطلق الإمام عبيد الله إلى مصر ليؤسس المذهب الفاطمي. والدولة الإيرانية كانت على مذهب السنة منذ أربعمئة سنة. وفي البلاد العربية الآن، وخاصة في الخليج العربي، هناك العديد من المذاهب الفرعية كالزيود والإباضية والشافعية وهناك المذهب الوهابي الحديث العهد (بحدود مئتي سنة). وفي القرن الماضي ظهرت مذاهب جديدة كالسنوسية والإدريسية والختمية والنقشبندية والبكشتاتية، وهي متفرعات من الطرق الصوفية الإسلامية.
وحين انطلقت حركة الإمام الصدر في لبنان أواسط الستينيات قال إنه لا يريد أن ينظم مذهباً بل حركة ثقافية في الإسلام. وإذا كنا نريد أن نقرأ تاريخ الإسلام بغير بتر لهذا الغنى والتنوع والتعدد، الذي يحيل الإسلام إلى «طقسية جامدة» تأخذ بجزء منه وتلغي الجزء الأكبر، لوجب علينا الاعتراف بكل الحراك التاريخي والثقافي والفكري إنصافاً لهذا التراث الحضاري. فإذا درجنا على تجسيد الإسلام أو تعليبه في أحد مذاهبه فإن هوية «السنّة» نفسها تتشظى إلى هويات مذهبية سواء في مذاهبها الكبرى الأربعة أو الألوان المشتقة منها. علماً بأن الكتاب والسُنة هما الأساس الذي لم يخرج عنهما أي مذهب إسلامي، بحيث لا يجوز منطقياً أن تكون «السنّة» مذهباً في الإسلام بل أصلاً جامعاً ومشتركاً.
إن انغلاق المسلمين على مذاهبهم على نحو ما هو حاصل اليوم يؤدي إلى تغليب الفرع على الأصل، وإعلاء الفرع الاجتهادي الإنساني فوق ما يفترض أنه الأصل المسلَّم به كمصدر للتأمل والتفكير فيه وإعمال العقل في أبعاده الكبرى المترامية. لقد ازدهر الإسلام في «الجدل» وفي الآفاق المتنامية المتطورة للعقل الإنساني. وفي المسائل المذهبية، كما لاحظنا، تبدلت الاتجاهات والانتماءات ولم يغيّر ذلك في الثقافة العامة للأمة وارتباطها بالقيم الكبرى المتعلقة بالعدل والحرية وبالطموح إلى بناء مجتمع إنساني يستخلف الله في الأرض.
حققت المملكة العربية السعودية الشهر الماضي خطوة إيجابية بمشاركة مذاهب السنّة الأربعة إلى جانب المذهب الوهابي في مجلس العلماء المسلمين. فما عاد ممكناً، ونحن نرفع الحظر عن حوار الأديان والثقافات التي يتبعها الملايين من البشر، أن نظل نرفع الحواجز بين مذاهب المسلمين أنفسهم ونجعل منها كيانات سياسية. فأين هي أمة الإسلام والمسلمين إذا كان الانتماء الأصلي والأول هو لمذهب من مذاهب الإسلام وقيام السلطة السياسية على قواعده الفقهية وحدها دون سواها!؟ إنه ببساطة لأمر يشكل خروجاً عن ثقافة الأمة واستغراقاً في ثقافة العصبية، والعصبية ذات منشأ قبلي، والإسلام أول ما نبذ القبلية وسعى في تجاوزها.
نحن الآن في العالم العربي لا نتمسك بالتراث بل نتمسك بالعصبية. نحن لا نستلهم ما كان خصيباً من النتاج الفكري الذي انطلق من مناخ الحرية، بل نذهب في اتجاه «تصنيم» الأفكار وقولبتها وتحنيطها خلافاً لإرادة أصحابها أنفسهم الذين كان فضلهم الأكبر أنهم اجتهدوا وتأمّلوا وتفكّروا وأبدعوا وألقوا علينا سيف الحجج العقلية ولم يقفلوا خلفهم أبواب المعرفة، بدليل أننا ما زلنا نفكر ونعقل.
وخلافاً للدعوة التي أرادت الخير وتوحيد الأمة وقد رفعت شعار «إسلام بلا مذاهب» نحن ندعو إلى إسلام تعددي بلا تمذهب (أي تحزب). هذه الدعوة هي جزء من التحديات المعاصرة التي فرضت على المسلمين أن يقبلوا أفكاراً من خارج بنية الإسلام التاريخي، والأحرى أن يقبلوا بالضرورة نفسها أفكار المسلمين وهم ينتجون تجارب متعددة ما زالت قيد الاختبار خاصة على صعيد بناء الاجتماع السياسي الحديث.
السفير