صبحي حديديصفحات ثقافية

تقنيات انتحال معلَن

null


صبحي حديدي

أعمال القاصّ والكاتب الأردني فايز محمود تُعدّ بالعشرات، وموقع وزارة الثقافة الأردنية يحصي له 18 عملاً، بين مجموعات قصصية ودراسات فلسفية وأبحاث تاريخية ومقالات منوّعة، وذلك حتي العام 1998. ومؤخراً صدرت أعماله الكاملة، الأمر الذي يرجّح أنّ لائحة مؤلفاته قد تجاوزت الـ 20… بكثير ربما، مدّ الله في عمره وشحذ قريحته. بين هذه نجد عناوين ثقيلة مهيبة، مثل الحقيقة: بحث في الوجود ، أو مشكلة الحبّ: العناء الإنساني دون جدوي ، أو الحرّية والضرورة: في مجتمعات الإنسان والنمل

لماذا يلجأ كاتب من هذا العيار، في تقدير وزن المؤلفات الكمّي علي الأقلّ، إلي انتحال كتابات الآخرين؟ وإذا كان السؤال عتيقاً متكرراً مكروراً، انطبق وينطبق علي مئات الكتّاب قبل فايز محمود وبعده، فإنّ التتمة اللاحقة هي التالية: لماذا يلجأ كاتب مخضرم، يخطو نحو العقد السابع من عمره، إلي الانتحال علي هذا النحو الفاضح، المثير للشفقة قبل الإستغراب أو السخط، خصوصاً حين تنطوي مادّة الانتحال علي مجازفة كشف المنتحل دون كبير عناء، بسبب من محتوي المادّة المميّز أوّلاً، ونتيجة ألعاب تمويه الانتحال ذاتها ثانياً؟

في الملحق الثقافي لصحيفة الرأي الأردنية، عدد الجمعة 4/4/2008، نشر فايز محمود مقالة بعنوان الأسطورة والمعني (شتراوس) ، بلغت 965 كلمة، في إحصاء جهاز الكومبيوتر الذي أستخدمه، لم يكن له فيها، تأليفاً، سوي أقلّ من… 60 كلمة! ما خلا هذه، فإنّ النصّ منسوخ بأكمله عن كتاب الأنثروبولوجي الفرنسي الشهير كلود ليفي ـ ستراوس الأسطورة والمعني ، الذي تشرّفت بترجمته إلي العربية، وصدرت طبعته الأولي سنة 1985 عن دار الحوار ، اللاذقية.

باديء ذي بدء، لا يشير فايز محمود إلي الترجمة العربية ولا إلي اسم المترجم (وهذه ليست كارثة طبعاً، في قياس معايير الأمانة التي تعتمدها معظم وسائل الإعلام، والكثير من الدوريات العلمية المتخصصة، في العالم العربي)؛ ولكنه أيضاً لا يشير إلي أيّ أصل أجنبي، فرنسي أو إنكليزي أو سنسكريتي، ينقل عنه أقوال ليفي ـ ستراوس. إنه يكتفي بهذه الجملة، التي أنقلها حرفياً ودون أيّ تدخّل طباعي: سنرافق فيما يلي المفكر المعاصر (كلود ليفي شتراوس) احد أشـــــهر الفلاسفة في هذا المجال ـ في اجابته علي هذا الــــسؤال والذي ضمنه كتابه الاسطورة والمعني .

والحال أنّ فايز محمود لم يرافق الرجل، بمعني توفير حقّه في الحدّ الأدني من أمانة النقل أو التعليق، بل تعمّد تمزيق النصّ إلي فتات وشذرات، اختار منها ما يصنع عدد الكلمات المطلوبة لفبركة مقال، ولم يكترث حتي ببذل جهد بسيط في توزيع هذه الاقتناصات العشوائية علي فقرات ذات منطق ما، أو التخفيف قليلاً من فظاعة تلصيقها اعتباطياً. فهو ينقل جملة واحدة من صفحة في فصل يتـــــــــــــــــــناول سؤال العودة إلي الفكر الأسطوري، ليلصقها مـــــــع جملة تالية من صفحة أخري في فصل يتناول التفكير البدائي والعقل المتحضّر، وما بين هذه وتلك يدسّ جملة ثالثة عن كيفية انقلاب الأسطورة إلي تاريخ، وهكذا

المستوي التالي في شطارة الانتحال هي أنّ فايز محمود لا يستخدم علامات الإقتباس البتة، في المطلق، بحيث أنّ القاريء لا يعرف متي يبدأ كلام صاحبنا، ومتي ينتهي؟ وهل يؤلّف، أم يقتبس، أم يولّف؟ وما العلامة أنّ جملة مثل ساد الاعتقاد بأنّ العلم لم يرسّخ اقدامه إلا بإدارة ظهره لعالم الحواس: العالم الذي نراه، نشمّه، نذوقه، وندركه.

لقد كان الحسيّ عالماً خادعاً، بينما تمثّل العالم الحقيقي في النسب الرياضية التي لا يمتلك ناصيتها سوي المثقف… هي من تأليف ليفي ـ ستراوس، أم من بنات أفكار فايز محمود؟ ومَن الذي يقول ماذا، في نهاية المطاف؟

غير أنّ طراز الشطارة الثالث هو الأدهي والأمرّ في الواقع، ليس لأنّ فايز محمود يمعن أكثر في الانتحال، بل لأنه يتدخّل لكي يضيف من عندياته عبارة تشوّه المعني الذي يريد ليفي ـ ستراوس إيصاله. علي سبيل المثال، كتب الأخير: حاولت تبيان حقيقة أنّ هذه الشعوب التي نعتبرها خاضعة كلياً لحاجة إشباع جوعها، لحاجة الإستمرار في القدرة علي البقاء ضمن شروط مادية شديدة القسوة؛ وهي شعوب تمتلك قدرة تامة علي التفكير اللانفعي، إنها تتحرك بدافع الحاجة أو الرغبة في فهم العالم المحيط بها… . فماذا فعل فايز محمود بهذه الفقرة؟ نسخها بالحرف، أوّلاً؛ ثمّ أضاف إليها من أفكاره النيّرة الفعل يثبت بدل الفعل الأدقّ يحاول الذي استخدمه الأنثروبولوجي الفرنسي الكبير من باب التواضع العلمي؛ كما حشر العبارة العبقرية التالية في تقريظ مفهوم التفكير اللانفعي: وهو التفكير الذي يدلّ علي حضارة الإنسان !

صحيح أنّ تقنيات فايز محمود في انتحال ليفي ـ ستراوس إنما تنتهي، بالفعل، إلي خلط الحابل بالنابل، أو الناقل بالقائل؛ ولكنّ هذا التغييب، مثله مثل الكذب في المثل الشعبي الشائع، حبله قصير للغاية، وإذا نجح في الخداع بعض الوقت، فإنّه لن ينجح كلّ الوقت. وأغلب الظنّ أنّ مشاعر الشفقة لن تكون وحدها حصيلة الموقف من انتحال كهذا، معلَن مشوِّه مشوَّه!

القدس العربي

07/04/2008

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى