مهرجان دبي الدولي لـلشعر في نـسخته الأولى: ألف شاعر والتجربة تحتاج الى إنـضاج
دبي العائمة تحتفي بالشعر. في مدينة جميرة تم تخصيص ركن للإحاطة بالقصيدة. ربما لأن المائيّة من سمات الشعر، كما هو الظمأ والفيضان والدلتا وأهواء التيارات البحرية، وتماما مثلما هو البحث عن الضفاف. تسعى دبي من كوة القصيدة، الى أن تفتح الباب الثقافي كل يوم إنشاً إضافيا، ريثما يتشرّع على مصراعيه. نأى جدول أعمال “مهرجان دبي الدولي للشعر” الأول الذي أقيم بمبادرة من “مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم”، عن وشوشة الأزمة المالية وخبرياتها ومقياسها الحراري. كانت دبي ضيفة الشعر تماما مثلما الشعر ضيفها، يحاول كل طرَف منهما الانتصار للثاني.
تتحدّث البطاقة الصحافية المزيّنة بشعار المهرجان والتي تتدلّى من أعناقنا، عن ألف شاعر، وذاك طموح بلا سقف وقول بالأرقام، يناسب حدّ التماهي الأحجام الأسطورية التي لكل ما نتعثّر به في هذه الزاوية من المنطقة العربية. أصوات مختلفة من قارات بعيدة وأقرب، ومن حساسيات أليفة وأقل إلفة، إلتأمت تبحث في القدرة الشعرية على اختلاف جذرها. المشاركة اللبنانية توزّعت بين شعراء أربعة هم جمانة حداد وعبده وازن وزاهي وهبي وشوقي بزيع، لم يتحلّقوا حول تيمة موحّدة وأمسية جامعة وإنما استبقي كل صوت على حدة، ليتلو من قصائده. قبالتهم أمسيات شعرية وليال خصّصت للخيّام وأبي القاسم الشابي ومحمود درويش والشعراء الإماراتيين والعرب.
الشعراء الأطفال الكبار السذّج
مفردات إبتكارية واحدة جلبت هذا الحشد، من أوروبا وافريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية، الى مهرجان ارتفع جبينه بالبذخ ورصد لأبجديات البوح الشعري. أتى الجميع ليختبر نجاح النسخة الأولى أو فشلها، مرفقا بقصيدة، تعبر الى الإجهار حينا، والى الانخطاف أحيانا. غير ان القصيدة في المحصلة وأيا تكن، بقيت “منتجا استهلاكيا” على قول الشاعر جنوب الإفريقي بريتان برايتنباخ في افتتاح التظاهرة. في وسط أضواء “مركز دبي التجاري العالمي”، استعان برايتنباخ بهذه المعاينة الملموسة ليحدد ماهية شعر نحن في صدده. قبل ان يستعيد حواره مع محمود درويش الذي اتخذ هيئة لغات عدة وانفلش خلال سنوات عدة واختتم نظريا في فرنسا، أسابيع قبل رحيل الشاعر الفلسطيني. على إثر الغياب المادي، كان ان استُكمل الحوار بين شِعر الرجلين.
هذا في الإفتتاح، أما حول مائدة صباحية على هامش اللقاءات الرسمية، فواصل برايتنباخ الإحاطة بهذا التبادل ودرويش. تحدّث الشاعر الجنوب إفريقي الذي اعتقل في زنازين النظام العنصري “أبرتايد”، عن هشاشته وعدم انتمائه إلى بلاد محددة، وعن مقاربته الوطنية مرضا طفوليّا خطيرا. رأيه هذا الخاص جدا، لم يرغب في فرضه على الآخرين، غير انه جعله يقول في إحدى قصائد الحوار الثنائي مع درويش ان لا جدوى من استخدام الأعلام خلا لصنع القمصان! في دردشتنا العفوية أكّد برايتنباخ ضرورة ان تصير المهرجانات الشعريّة “مصحّا للمجانين تأوي الشعراء الأطفال الكبار السذّج”. بل أكثر، تمنّى ان يشجع مهرجان دبي على المضي في هذا المسلك. في حين يأخذ في الحسبان ثقل التقليد الشفوي في العالم العربي، يدرك برايتنباخ ان ثمة لقاءات شعريّة سابقة في التاريخ العربي، غير انه يدرك أيضا ان نمطها كان مختلفا. يعتبر إقامة “مهرجان دبي الدولي للشعر” في هذين المكان والتوقيت، محصّلة إرادة سياسية، ويقارب انعقاده في خضم الرغبة في التموضع، في إطار ما صار ثنائيّة، طرفاها العالم العربي في ناحية، وباقي العالم في ناحية ثانية.
يقرّ الشاعر الجنوب افريقي ان الحضور الى بلد معين يحتّم إدراكاً خاصاً للأمور. يستعيد في هذا المجال الرقابة التي فرضت على المشاركين في إحدى دورات مهرجان ميديين في كولومبيا. آنذاك، تم جمع الشعراء، بناء على طلبهم، ببعض السكان الأصليين الوافدين من الجبال ليقصّوا ما يتعرّضون له. وما كان من أحد مسؤولي المهرجان الذي تولّى الترجمة، سوى اقتطاع جزء من روايتهم. غفل عن تجاوزات “الفارك” مستبقيا القتل الذي تمارسه السلطات فحسب. على نسق كل المهرجانات، وعى المنظّمون تماما ما يفعلونه، رغبوا في تقديم صورة محدّدة ومقاربة نابعة من إيمان شخصي.
يدرك برايتنباخ بالخبرة أكان في جنوب أفريقيا أم في إسبانيا أم في أميركا اللاتينية ان ثمة خطوطا حمرا دوما. ثمة تقاليد وحواجز يجب تلقّفها والتموضع استنادا اليها، هي موجودة أينما كان. يقول انه وصلته أخبار عن رفض بعض قصائد إحدى الشاعرتين الروسيتين المشاركتين في المهرجان بسبب إيروسيتها، غير انه لا يؤكد الخبر، ليردف ان الشعر هو أقل الأنظمة صلة بالديموقراطية ويزيد باقتناع تام: “لا يمكن احتجاز الشاعر، في النهاية سيجد وسيلة للخروج كما تفعل القطط!”
سارتوريوس الألماني
الانتقال بين أمكنة النشاطات المختلفة خلال برنامج المهرجان كان محفوفا بالفساحة. تفرض خريطة الطريق الى أمسية أو حفل تكريمي، أو جلسة نقديّة، في غالبية الأحيان، الإنتقال بالمركب بين ضفة المدينة والأخرى. في خيمة ملاصقة لتلك التي أوت المركز الصحافي، كان المتنفس الوحيد لأولئك الذين يعانون تبعات قانون حظر التدخين في الأماكن العامة. هناك التقينا الشاعر الألماني يواخيم سارتوريوس الذي شغل منصب الأمين العام لـ”معهد غوته” وهو المدير العام لـ”مهرجانات برلين” منذ 2001. نظرة سارتوريوس ملتبسة الى صيغة مهرجان دبي. ففي حين يلفت الى قيمة المبادرة التي أضافت نكهة ثقافية الى نكهة دبي التجارية وخصوصا في خضم التهميش الذي يعانيه الشعر، لا ينفي بعض الشوائب التي طبعت النسخة الأولى. يروق لسارتوريوس الذي تُرجم الى العربية، وترجَم الشعر الأميركي المعاصر والإنكليزي، أن يُنكّه قصائده ببعض الفرنسية. هذا ما نمّت عنه قصيدته “تونس” حيث بان جليّا تأثره بأصوات شعرية بالفرنسية من قبيل بيار جان جوف وسان جون برس. سارتوريوس ممتنّ أيضا للشعراء الأتراك المقيمين في ألمانيا لأنهم، على ما يقول، مدّوه بأنماط جديدة من المقاربات.
تنعطف قصائد سارتوريوس، التي قرأها خلال المهرجان، صوب الإسكندرية مدينة الكتّاب الأثيرة، وصوب الميثولوجيا الرومانية. عن تلك الخصائص يعيدنا الى فعل الترجمة أكثر القراءات دقة في رأيه، ذلك انها تجعل المترجم قارئا نقديّا وقارئا هاوياً للنص الذي في متناوله. يكتب الشاعر الألماني في قصيدة “وجه” التي أهداها الى التشكيلي مروان الذي يقيم في برلين ويرصد حياته لرسم البورتريهات: “لم يعد هناك اختلاف بين الزجاج والمرآة”، فهل تلك مسحة ميتافيزيقية؟ يعدّ سارتوريوس هذه القصيدة منوطة بوجوه التشكيلي مروان كما يعاينها، وبانعكاس النفس في المرآة. يحاول من خلالها تناول الموضوعات الأبدية كمثل مرور الوقت وهشاشة الأشياء. في ألمانيا، غالبا ما تتم معاينة شعره شهوانيّا أكثر منه تثاقفيا، وهذه القسمة، على ما يذكر، حبل السرّة الذي يصله بالشعراء العرب الذين لا يهابون “الكلمات الكبيرة”.
يانغ على أعتاب نوبل
لقاء شعري إضافي رفدنا به المهرجان، من طريق الصيني يانغ ليان وهو أحد أفراد عصبة “الشعراء المبهمين” التي ناهضت تضييق الثورة الثقافية، والإسم الذي نقل الى لغات عدة، وأدرج في مختارات لشعر بلاده. وقوفا خارج “مسرح الجميرة” الذي استضاف عددا من أمسيات المهرجان، وفي الوقت المستقطع بين قراءة شعرية وأخرى، استجاب يانغ ليان، أحد أصوات الصين في المنفى منذ 1989، الى تمرين الإجابات من خلف سنواته المخبوءة خلف وجه طفولي. قصيدته الطويلة “نولانغ” حملت إسم شلاّل في التيبيت واتهم في أعقابها بإخضاع شعره للعقائدية، فماذا عن الشعر في حلبة العقيدة؟ يجد يانغ ان السلطات السياسية في الصين دمّرت الشعر ودمّرت فهمه خلال الحقبة الشيوعية، في إطار القضاء على الثقافة التقليديّة. كانت نهاية الثورة الثقافيّة كمثل ايقاظ لزمن الشعر، أحد أجزاء الحياة. يضيف: “عندما شرعت أكتب الشعر حاولت ان استخرج مشاعري الشخصية ولكن بلغتي الخاصة. قصيدة “نولانغ” من بين أعمال هي انطلاقة للشعر المعاصر الصيني. مذّاك أي منذ ثلاثة عقود، صار تطوّر الشعر الصيني صنوا للإصلاحات السياسية والاقتصادية”. يتحدّث يانغ عن محاولة اعترتها الصعوبات تمحورت على القدرة والحيوية لكي تعيد الثقافة إعمار نفسها، وهو، في أي حال، كان سعيدا بمساهمته في هذا الحراك.
نال يانغ الجنسيّة النيوزيلندية غير انه اختار الإقامة في لندن، فهل ساهم خروجه على الحدود الوطنيّة في أن يمنح قصيدته الضوء؟ ظاهرة الاغتراب في الثقافة الصينية حديثة في رأيه، بنتيجة الخلفيّة الجغرافيّة النافذة لبلاده. على الرغم من تمتّع الثقافة الصينيّة بملوانة واسعة من السمات غير انها بقيت محدودة لأنها لم تجرّب التحدي من خلال الاحتكاك بالثقافات المختلفة. احتاجت الثقافة التقليدية في الصين الى مقارنات أخرى والى محاورين جدد. عن تجربته الشخصيّة يروي يانغ: “شكّل إختباري الحوار مع بلدان ولغات أخرى فرصة لكي تنفتح ثقافتي الشخصيّة على التبادل. يروقني الحديث عما اكتسبناه كشعراء في المنفى وليس عما خسرناه”.
يلتصق القاتم والمبهم بشعر يانغ، والمفارقة ان السلطات الصينيّة استخدمتها بداية في معرض الذمّ، في حقبة كان فيها الشعر أحد أدوات البروباغندا التي لم تفسح لوعي الفرد: “لم يفهموا أسلوبنا التعبيري الخاص، في حين أدركنا تماما لماذا استخدمنا هذا النمط. الشعر هو الجدار الروحاني الشخصي”. نال يانغ جائزة فلايانو الدولية للشعر وتردد إسمه كأحد المرشحين المحتملين لجائزة نوبل للآداب. غير انه لا يتوقّف مليّاً عند الموضوع. يفضل الجنوح نحو الحديث عن الثقافة الصينية التي لا تزال منبعا أساسيّا في تفكير الإنسانية وعن عناصر المقارنة بينها وبين الثقافة الأوروبية والعربية وسواها. بدءا من هنا، يمكن على حدّ قوله ابتكار صلات مع الآخرين. ليزيد: “قبل فترة وجيزة التقيت الشاعر أدونيس في الأردن، وقد جمعتنا مناقشة مثيرة للاهتمام. هناك مطارح مشتركة عدة بين المثقفين المستقّلين الصينيين والعرب. على الصعيد الداخلي تجمعنا صيغ مركّبة جدا كشاعرين، في حين تم اختزالنا بالجدار الخارجي على الصعيد السياسي. يمكن الشعر الفردي أن يتقاسم الكثير مع الآخرين. أدونيس في صدد نشر مختارات من شعره بالصينية وقد قدّمت لها في نصّ حمل عنوان، ما روح الشعر هذه؟ تلك في نظري، الجائزة الحقيقة”.
قال ناقد في شعر ليانغ انه اللقاء بين الشاعر الاسكتلندي ماك دايارميد وريلكه في نبرة سيف الساموراي. في حين اعتبر الشاعر الأميركي المحوري في تيار “البيت”، آلن غينسبرغ، ان شعر ليانغ يمثّل ألم الحياة العالقة بين الحقبات التاريخية. فأي التحديدين يصيب قصيدته؟ “التقط القولان بعضا من شعري. الاسكتلندي ماك دايارميد وافر بالتقليد غير انه تقاطع مع الكوني. أما ريلكه فصوت مشبع بالفلسفة والشعر وهو الآخر كوني، وقبالتهما جسّد غينسبرغ التمرد في أبعادها كلها. أظنهم اعتبروني نقطة تجادل بين تاريخي الصيني الغابر ووضعي الكوني كإنسان. كل قصيدة صينيّة هي نقطة تواصل بين الفنون المفهومية الابتكارية وبين الفن التجريبي”.
في قصيدة “الحديقة عند نهار شتوي” يكتب ليانغ: “في العالم، الشعراء هم أقلّ الناس ثقة بالكتابة”، فهل لا يزال على اقتناعه؟ “نحن أفضل المدركين للغة غير اننا أيضا أفضل المدركين لحدودها. في الشعر، نتلاعب باحتمالات اللغة ونتعامل مع شفاهها، نتصرّف في لاإمكاناتها. على هذا النحو، ندفع بالحدود لكي تفتح شيئا فشيئا. أظنه الأمر الأكثر جدارة بالاهتمام. الشعراء لا يثقون، لهذا السبب يجرّبون”.
“مهرجان دبي الدولي للشعر” تجربة أولى بحثت عن رفع التحدي حول إخضاع وعي الشاعر الذاتي لمنظار الآخرين. وقد سعى المهرجان ليقدّم منبرا للقول ظلّله شيء من النمطية والجهوزيّة يتعيّن بلا ريب، ان يصير أكثر ليونة، في النسخات اللاحقة، ليزيد ألق الشعر.
النهار