دمشق في فيلم جديد لنبيل المالح: ‘الكريستال المقدس’: رحلة البحث عن السر والسحر!

محمد منصور
دمشق ـ ‘القدس العربي’ عُرف نبيل المالح على مر تاريخه الطويل، كمخرج أفلام روائية هامة، وكان من بين قلة من المخرجين، صنعوا هوية ما عرف بالسينما السورية.. ولعل شهرة أفلامه الطويلة التي نالت العديد من الجوائز الهامة في مهرجانات سينمائية عربية وعالمية، خلال الثلاثين سنة الماضية.. قد عتمت بشكل أو بآخر على إبداعه في مجال الأفلام الوثائقية والقصيرة. التي صنعها نبيل المالح بكثير من الحب والشغف والتقدير.. ومن منا ينسى فيلم ‘نابالم’ أو ‘إكليل الشوك’ أو غيرها من الأفلام.. أو حتى الفيلم الذي حققه منذ سنوات قليلة عن الزعيم الوطني السوري (فخري البارودي) والذي أسماه ‘شيخ الشباب’. ومؤخراً عاد نبيل المالح إلى الفيلم القصير، ليقدم تحية إلى مدينته الأم: دمشق.. حملت عنوان: ‘الكريستال المقدس’ وهو الفيلم الذي أنتجته الهيئة السورية للأسرة، أواخر العام 2008.. وكان قد قدم في عرض خاص، في فندق الشيراتون بدمشق.. وكأن نبيل المالح قد أراد أن يجافي كل ما يمت إلى الحالة السينمائية السورية السائدة، حتى في مكان العرض ورمزيته.. فهل أضحى هذا السينمائي العريق نزيلاً في فندق هو وأفلامه!
الشام كلها أسرار!
عبر ثلاثين دقيقة فقط، يقدم نبيل المالح فيلماً فريداً من نوعه، يمزج فيه بين المادة التسجيلية والإطار الروائي.. وتنطلق فكرته من عبارة كانت قد قرأتها (ريم) في إحدى الكتب عما يسمى: ‘الكريستال المقدس.. السر المختبئ في دمشق’!
تنطلق ريم، التي تحضر رسالة ماجستير للبحث عن هذا الكريستال المقدس، في المكتبات والمتاحف، وتسأل زملاءها من طلاب أو خريجي الجامعة فلا تجد جواباً، سألت الجميع بمن فيهم السيّاح الأجانب، لكنها لم تجد أحداً سمع بالكريستال المقدس.. وهنا تقرر (ريم) أن تصطحب صديقتها راقصة الباليه (سوزان).. بعد أن أعياها البحث بمفردها، وهي تقول في وقفة حيرة وتأمل: ‘كل مدينة فيها كتير أسرار، وحكايات غريبة ولغز مخبأ بشي محل، بيجوز يكون حقيقة وبيجوز يكون خيال، والمشكلة إنو الشام كلها أسرار، مدينة عمرها أكثر من خمسة آلاف سنة.. قديش بده يكون فيها أسرار وإشيا مخباية؟ بس أنا عم دور على سر واحد صغير.. إبرة بكوم قش.. وما عم لاقيه’.
تنطلق ريم مع صديقتها سوزان من شوارع دمشق، إلى معالمها التاريخية الشهيرة.. تدخلان التكية السليمانية، تستطلعان سوق المهن اليدوية، حيث عراقة الصناعة ومهارة وصبر الصانعين.. تتجهان نحو سوق الحميدية، تستكشفان جماليات السوق بروح متوثبة، تنساب بعذوبة في الأسواق المتفرعة عنه والمرتبطة بها.. تصلان إلى ما تبقى من أعمدة جوبتير الشامخة في نهاية السوق، وتدلفان إلى الجامع الأموي.. حيث المسجد الذي يمتد برحابة منذ أكثر من ثلاثة عشر قرناً، والذي يقصده المسلمون من كل الطوائف، ويزوره المسيحيون حيث مقام القديس يوحنا المعمدان!
خارطة الاكتشاف!
تهتدي ريم إلى من يدلها على شخص خبير يرشد السياح عادةً، لطرق استكشاف المدينة، يقدم لها خارطة سياحية، لمدينة دمشق القديمة، لتلك الرقعة التي تكتظ بالبيوت والأسواق والكنائس والجوامع.. ويطلب إليهما البحث ضمن رقعة شبه مستطيلة يحدها السور الروماني، ويسلكانها ضمن محورين: الأول هو الشارع المستقيم الذي سار فيه القديس بولس من باب شرقي إلى البوابة الرومانية.. والثاني من باب توما إلى منطقة القشلة.. فالناس في هذه المنطقة هم من سيرشدونكم إلى الكريستال المقدس!
وتبدأ الرحلة تأخذ مساراً أكثر تركيزاً، وكلما أوغل الدرب ازداد السؤال غموضاً.. فتمر بطلة الفيلم مع صديقتها على الجوامع والكنائس المسيحية والمعابد اليهودية.. تسأل رجال كل الأديان، وتحاور شيوخ الطوائف المختلفة: سنة وشيعة.. كاثوليك وأرمن وأرثوذكس.. تستعرض غنى الأمكنة، وتعاقب الحضارات، وتجاور الأديان، وتعانق المذاهب، وتدخل بيوت الناس، في مسار مصنوع ببراعة أخاذة، حيث شكلت قيم التعايش المشترك، وألفة الحارات المتوارثة نمط وفلسفة الحياة.. لكن المشكلة أن ‘الكريستال المقدس’ مازال مجهولاً لم يسمع به أحد!
وفي لحظة تعب وخيبة بعد عناء بحث حائر وضال، تصل مكالمة هاتفية آخر الليل، تدعو ريم وصديقتها، للتعرف إلى الكريستال المقدس في صباح اليوم التالي.. وعندما تصل الموقع في قلب دمشق القديمة، تجد فريقاً يصور فيلماً بهذا العنوان، ويشرح لها مخرج الفيلم، وهو يطل على الأموي والكنائس والأسواق والبيوت المتعانقة: ‘هذه منطقة لن تجدين مثيلاً لها في العالم.. منطقة جمعت الإسلام والمسيحية واليهودية.. وراء كل بيت.. وراء كل حجر.. سوف تجدين الكريستال المقدس.. إنه شيء لا يرى بل يُحس ويدرك’!
وتدرك ريم مع صديقتها، أنهما كانت تدوران داخل هذا الكريستال المقدس.. حيث ينساب سر دمشق، وتتبدى عراقتها وعظمة تجربة الحياة المعاشة فيها على مدار أكثر من خمسة آلاف عام!
إبداع نمط الحياة!
كتب نبيل المالح سيناريو هذا الفيلم بالاشتراك مع عمر سواح، وقد جمع فيه ببراعة بين الحس الدرامي في صياغة سؤال يورط المشاهد بهاجس الفضول، وبين تراكمية اكتشاف الجواب، وتجميع مفرداته من خلال الرحلة في الزمان والمكان.. ومن الواضح أن نبيل المالح أراد أن يقدم فيلماً يجلو عظمة هذه المدينة التي تقدم نموذجاً فريداً للتعايش والتسامح، ويكشف بوجدانية سراً من أسرار خلودها وعراقة تاريخها الذي لم ينقطع.. فدمشق كما يراها نبيل المالح في هذا الفيلم، ليست آثاراً ومتاحف، وليست بيوتاً جميلة، وأسواقاً عريقة تضج بالحركة، ولا مساجد وكنائس ودور عبادة وحسب، إنها نمط حياة فريد وحميم وآسر، أبدعه أهلها على مر آلاف السنين.. ولذلك كانوا هم أنفسهم الكريستال المقدس.. حيث تتألق حياتهم الجميلة، عبر تعدد معتقداتهم، وتآلف مساراتهم، وغنى إنجازهم الاجتماعي والحضاري.. الذي تراكم عبر الجغرافيا مثلما تراكم عبر التاريخ.. وجاءت صورة المكان: المعبد والكنيسة والجامع والبيت والحارة والسوق.. لتترجم كل هذا الإنجاز في صورة تختزل سر المدينة وفرادتها، وإن كانت لا تبوح به كله، إلا لمن يبحث عنه في العمق وفي الجوهر! وقد حرص نبيل المالح كمخرج على ضبط إيقاع الفيلم بكثافة بالغة، فعبر ثلاثين دقيقة تماماً، كانت تتوالى رحلة الكشف المعرفي، وكان يكبر السؤال، حاملاً معه الصورة المتأملة، الملتحمة مع نسيج الفكرة، والموشاة في تضاريس الحالة، بحيث نرى كل تلك التفاصيل السياحية التي طالما شاهدناها: (التكية السليمانية- السوق- المهن التقليدية- دق البوظة)، وقد اكتست حلة حياتية حارة، متدفقة بالعفوية، وقادرة على إدهاشنا بمعانيها الجديدة، حين تخرج من رحم السؤال، ودهاليز اكتشاف المعنى البهي الغامض!
مناخ فني متقن!
وربما كان أهم إنجاز لنبيل المالح المخرج، ليس تقديم الصورة الجمالية المشبعة بالمعاني وحسب، ولا قدرة النفاذة على اختزال الطقس في الأمكنة التي مر عليها، بل هي في تخليص الفيلم من نبرة الاستعراض الثقافي التي كان ينزلق إليها في الأداء والصياغة، وتأصيل فكرته لتنمو في مناخ فني متقن، يقارب عفوية الحياة، وأصالة البحث عن السر الحياتي للمدينة.. وقد تجلى هذا في إدارة ريم جمعة وسوزان حداد لتقدمان أداء ينضح بساطة وألفة، وفي طريقة تصوير مناقشاتهما واختزالها، بل وفي طريقة تقديم أفكار الآخرين – وخصوصاً من رجال الأديان السماوية الثلاث- ضمن سياق مرسل بلا تكلف، ومنتقى بعيداً عن الاجترار!
باختصار.. قدم نبيل المالح فيلماً، يضاف بكل جدارة إلى رصيد الأفلام الهامة والمكثفة (القليلة بطبيعة الحال) التي حاولت أن تجلو روح دمشق.. وأن تقدم قراءة جديدة في صورتها المنجزة اجتماعياً!
اقترب من الناس قبل أن يقترب من الحجارة.. تحدث عن مآثرهم الاجتماعية باعتبارها فعل تنوير، قبل أن يمجد آثارهم العمرانية.. فصاغ لنا لوحة جديرة بالتأمل، لدمشق التي تعلمنا أن عظمة التاريخ هي من عظمة أناسه، ومن قدرتهم على قبول الآخر، حين يغدو جزءا من نسيج المكان وعمرانه وحضارته!
القدس العربي