كلمة عن أجيال الورق والأخرى من الشبكة العنكبوتية
حسن بلاسم
مازال هناك كتاب في العالم العربي ينظرون الى النشر عبر شبكة الانترنيت نظرة تعال وإستخفاف ومازال النشر عبر الورق يشكل عندهم الدلالة على القيمة الابداعية لما يكتبون. وحتى أن كثيرين من النقاد لا يتابعون غير الكتابات التي تنشر عبر الورق.
وهذا أمر لايدهشني، أنا على الأقل، كما لا يدهش عددا هو، ولحسن الحظ، في تزايد مستمر. فهكذا نحن قد إعتدنا على العماوة والتأخر في هذه الثقافة، ومن ثم نجلس لنلطم ونندب حظوظنا. رغم أني ألاحظ بأستمرار أن النشر عبر النت دفع كتابا كثيرين، خلال مدة قصيرة، على تغيير الرأي، والنزول الى ساحة النشر الرقمي ـ سواء أكانوا مرغمين أو أنهم أدركوا حقيقة وعطايا وسيلة النشر الجديدة التي ستزيح الورق نهائيا . لكن ليس السؤال الآن حول تلكؤ الكاتب العربي في تقدير وسيلة النشر هذه، بل حول مدى تأثير وسيلة النشر الجديدة على خلقه. لا أريد هنا غير لفت الإنتباه الى الجيل الجديد الذي يتكون الآن من خلال النشر عبر شبكة النت، والى الفرص المعرفية الكبيرة المتاحة له.
لدينا اليوم جيل آخر. جيل لم يشارك في المعارك الحزبية ولم يرضع من أوهام الغرور الأجوف. وهذا الجيل الذي أتكلم عنه هو جيل ملحد ولد تحت الانقاض. لكنه مازال تائها. وأنا أسميه بجيل الانترنيت الأول، بدلا عن تلك التسميات الصنمية الشائعة : جيل التسعينيات أو جيل الستينيات وهلم جرا. هذا الجيل بدأ النشر بشكل واسع مع صعود النت، وهو ينشر من وقت الى آخر في الصحف والمجلات الورقية أيضا. و في الأخير جاءته حرية القول بعيدا عن مقصات الرقابة. ومفهوم أن الزمن سيبلور قيمة إبداع جيل الإنتريت الاول. أما الجيل الإنترنيتي الذي سيعقبه – الجيل الثاني، فباعتقادي أن ولادته ستكون بعد إختفاء الورق. كما أعتقد أن ميزة جيل الانترنيت الاول هو أنه يضم كتابا من مختلف الاعمار وليس كما كان من قبل : مجموعة من الشباب تحتل عقدا من الزمن وترفع لافتة الجيل. إن تقارب الاجيال غير المشوَّهة ومن مختلف الاعمار، عبر شبكة النت سيكون له تأثير إيجابي على الكتابة المبدعة أي أفضل بكثير من القطيعة المصطنعة التي كان يبقي عليها الكثير من المجلات والصحف وغيرها من وسائل النشر الورقي. فكل مجلة كانت تحتكر بضعة كتاب من جيل معين وفق أمزجة المحررين والمؤسسات.
إن النشر الإنترنتي قد كسر مقص الرقيب العربي وشلَّ ذراعه الطويلة. وهذه فرصة أكثر من كونها ذهبية أمام الكاتب، وماعليه إلا إستغلالها لمصلحة الثقافة الحقيقية. كذلك فحرية النت دفعت الصحف والمجلات الورقية الى أن تسلك سبيلا آخر غير سبيل الكتابة المحجَّبة. فقد أجبرت هي الأخرى على إرخاء حبل الرقابة على الافكار والمضي مع ثقافة الصورة والمفردات الجديدة، ولأن المنافسة تشتد ولابد من اللحاق بحركة المواقع الادبية على شبكة النت.
لقد بات واضحا أن عملا شاقا طويلا لايزال أمام النشر الورقي لكي لا يصيبه التعفن ولايسحقه النشر الرقمي البارع. فعلى سبيل المثال لو قام أحد الباحثين بدراسة حول المفردات المحرمة التي لم يكن مطبوع ورقي واحد يجرؤ على إستخدامها، لوجد أن عشرات وعشرات من مفردات شبكة النت أصبح استخدامها من المسلمات، ولم يعد القارئ يرتجف حين يقرأ كلمة عارية ومجنونة. أظن أن على جيل الانترنيت الاول أن يسهم في توسيع الثغرة التي حدثت في جدار الرقابة، وينهل من كنوز الابداع الانساني في الشبكة العنكبوتية تاركا للذين تآكلت أسنانهم تلك الحكايات المكرورة واللامجدية مثل حكاية محليّة الكاتب وتراثه المسوَّر بتلك الصورة المعروفة. إذ ليس من وجود هناك لكلمة محلية أوعالمية، هناك فقط قلب الانسان الذي يتعذب على هذا الكوكب الذي يخشى اليوم أن تسممه يد الانسان الوحشية الجشعة.
نحن قادرون اليوم على الوصول، عبر الشبكة العنكبوتية، الى كل أسرار المعرفة تقريبا، بدءا بأدق دراسة عن عالم الحشرات وإنتهاءا ببحث مفصل عن تأريخ الشيزوفرينا. لقد بات من الممكن متابعة مسيرة القصة أو القصيدة في هذا البلد أو ذاك، أو الصعود الى السماء والتعرف على جهود العلماء في معرفة الكون. لقد أصبحت المعرفة بفضل النت مبذولة وعلى مثل هذا النطاق الذي لايصدق حقا. فكل الستائر هي مرفوعة كي نشاهد نساء يضاجعن الحمير بطريقة غامضة أو الدخول الى غرف طقوس سرية لجماعة دينية. وكل أطياف المعرفة وضعها النت على طبق خرافي السعة، فهناك المحرم والهامشي والسطحي والعميق والمدهش والمرعب والملائكي والشيطاني. وبكبسة زرّ ننتقل من عالم الى اخر. وهذه النعمة بحد ذاتها ستؤثر بطريقة مدهشة على نوعية كتابات هذا العصر. إلا أن الحذر لازم كي لايقودنا الزائل والبراق الى ألعاب المفرقعات النارية التي يجني بعضهم الحرام منها، في كل عصر، وعلى حساب الانسان الذي نحلم به. واليوم، في عصر شبكة النت، لا عذر للكاتب والقاريء إذا سترا الخمول بإنعدام الفرص. وكان إيتالو كالفينو يبشر بالقارئ الذي يتحلى بثقافة أكبر من ثقافة الكاتب. وبهذه الصورة يكون بمقدورالشبكة العنكبوتية أن تقوم بخطوة مثيرة في الاتجاه الذي تحدث عنه كالفينو أي حين اشار الى أن المستوى الثقافي للقارئ ليس ذريعة لخفض مستوى ثقافة الكاتب كي يكون مفهوما وفق تلك الطريقة الواقعية السطحية.
إن مهام الكاتب تزداد صعوبة، وعلى العكس مما يروج له بعض الكتاب العرب المعوَّقين بالكسل والخمول وما يقولوه عن كاتب النت. فالصدأ والتكلس هما من نصيب هذا الركام الهائل من أكداس الورق العربي والذي يسمى أدبا أنسانيا. إذ يكفي جيل واحد كي يختفي ثلاثة أرباع الأدب العربي . جيل واحد يولد حرا ويمارس طقوس السلام بعيدا عن دوامة الانظمة الشمولية. جيل واحد يتفرغ لفردانيته بعيدا عن الحروب وشعارات الاحزاب والسفسطات القومية والمضي مع غرائز القطيع. جيل واحد فقط وينكشف خواء الأدب الذي كتب في هذه الفترة الطويلة من الظلام. وهذه هي حال كل أدب مسمى بالمرحلي أنجبته العتمة بتلك الطرق البالية والمصطنعة. ولا شيء هنا غير أدب اللطم والحماس والشعارات والمصالح والاخوانيات والنفاق والتواطئ مع الأنظمة الحاكمة وحتى مع القارئ الذي سممته الشعارات الدينية. ليس أمامنا هنا سوى أدب يحاول أن يحشر، بالقوة، الأدبَ الغربي مثلا، في قوالب هموم حماسية ومواضيع طينية بإمتياز.
جيل واحد فقط وتتغير خارطة الأدب العربي، حين ُترسم خارطة أخرى للحياة وتتفرغ الأجيال القادمة الى حياة السلام بكل فراغه ( المكتنز ) وسعادته و( قسوته ) أيضا. وآنذاك ستنشأ أسئلة جديدة تعمل على إختفاء تلك الأسماء الركيكة …
كاتب وسينمائي عراقي، فنلندا
كيكا