فيلم “فتنة” الذي لم يقم الدنيا ولم يقعدها
كوبنهاغن ـ شاكر الأنباري
الأصوليات تتشابه، ويخدم بعضها بعضا، فلا فرق بين أصولية اسلامية أو مسيحية، علمانية أو متدينة، فهي بالمحصلة تنتمي، بمجملها، الى عالم الانغلاق، والعنف، والنفخ في الصراعات، وتحويل معتقدات الناس وتقاليدهم وطقوسهم الى بضاعة تخدم السياسة والمنافع المافيوية لهذه الفئة أو تلك. وفيلم “فتنة” الذي طبل له قبل العرض بهستيريا غير مسبوقة،
تكشّف، حين عرضه، انه لا يفرق كثيرا عن اشرطة القاعدة التي كانت تبثها من العراق، زمن أبو مصعب الزرقاوي، وهي تقطع رؤوس الناس، أو تجبرهم على الاستغاثة وطلب المغفرة، او تنحو الى تهييج الحقد في قلوب المؤيدين، والمترددين، والجهلة الذين يقفون حائرين أمام هذه الحجج (الدامغة) التي يرونها أمامهم في شريط مصور، ومفبرك، وممنتج، وموجه بحاسة خبيثة لمخاطبة أحطّ ما يمتلكه الانسان من نزعات وأفكار.
فيلم “فتنة” الذي طبّل له عضو البرلمان الهولندي اليميني الأصولي غيرت فيلدرز، ممول الفيلم وكاتبه ومخرجه، يورق في هذا الحقل هو الآخر. فالتنطح لمهمة نقد الاسلام عبر كتابه المقدس القرآن، كان أكبر من طاقة سياسي عادي، مأزوم، يطمح الى زيادة رصيده الانتخابي في صناديق الاقتراع، ويطمح الى طرد الآخر المختلف عن البلاد. البروباغاندا اليمينية الهولندية أثبتت لجماهيرها( إحصائيا) أن ثلثي الهولنديين سيكونون من المسلمين في العام 2050. من جانب آخر، يفترض بغيرت، وهو السياسي المثقف، الأوروبي النشأة، ان يحافظ على قدر ولو بسيط من السوية الفنية لصناعة الأفلام، سواء الحبكة أو تسلسل اللقطات، أو المبرر الفني لتتابع الصور أمام عين المشاهد، وهو ما يدعى بالمنطق الداخلي للسينما.
وهذا بالذات ما لم يتوافر في الفيلم الذي استغرق عرضه نحوا خمس وعشرين دقيقة فقط، وعرضه احد المواقع المجهولة على النيت. اراد غيرت فيلدرز استثمار الضجة السابقة التي تفجرت حول رسوم الكاريكاتيرست الدانماركي ويستر غارد، فاقتطع واحدة من رسوماته وجعلها محور الفيلم. وتلك الصورة طبعا كانت من التفاهة بمكان بحيث يستغرب كيف يمكن استثمارها في فيلم روجت له الأصوليات النازية والنيوفاشية بشكل محموم، وتلاقفت الحدث الاصوليات الاسلامية، وجعلت منه معركتها الرئيسية. هذه الأصوليات تناست الأمية، والتخلف، والأمراض، ونظافة المدن، وتطوير الزراعة، والتلوث، والتصحر، وغير ذلك من جرائم بحق بشرها، وجيشت أتباعها لحرب (صليبية) جديدة. بعض من الأتباع لم ير الفيلم بالتأكيد، مع ان الفيلم، والرسوم، والقذف الذي تتناقله وسائل الاعلام ما هو الا ارهاصات لمجموعات منغلقة، وعنصرية، تشكو من وجودها المجتمعات الأوربية ذاتها بشكل عام.
مقدمة فيلم فتنة تبتدئ بالعمامة الاسلامية الحاملة لقنبلة. هذه القنبلة، وبعد عرض موتور، ومتواتر، لمشاهد قتل وتعذيب، ولقطات عامة لخطباء جوامع، تنفجر في النهاية بما يشبه السوبر نوفا في علوم الفضاء، مخلفة تداعياتها المميتة على العالم. عمد غيرت فيلدرز الى اقتطاع آيات من القرآن، خارج سياقاتها التاريخية والمنطقية والسببية، مرتلة من قبل احد القراء بصوت ليس رخيما، وعادة ما تكون الآيات مشيدة بالعنف او القتل أو التعذيب أو التوعد مثل: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة..)، ثم يركب على تلك الآيات مشاهد عنيفة مقتطعة من اشرطة القاعدة، وهلوسات بعض رجال الدين الذين يجهلون ما بلغته البشرية من تطور وصراعات ومناطق نفوذ ومصالح وثورة اعلامية.
الآية السابقة، على سبيل المثال، ركّب عليها الفيلم مشاهد الهجوم بالطائرات في الحادي عشر من سبتمر، وأبرز بشاعة الموقف حين تصطدم طائرات تقل أناسا معظمهم من الابرياء، ومن مختلف القوميات والأديان، بناطحات السحاب الغاصة بالبشر العاديين. وهي مشاهد ومواقف أدانها ملايين المسلمين لبشاعتها، وبعدها عن ابسط الاخلاق الاسلامية التي تدعو الى التراحم والمحبة والتسامح، وعدم قتل النفس التي حرم الله قتلها. حفلات قطع الرؤوس تحت لافتات الله أكبر، وظفت ايضا في الفيلم لتأكيد بربرية المسلمين، ودمويتهم، دون ان ينوه صاحب الفيلم (المريض) الى ان ملايين المسلمين عانوا من قطاعي الرؤوس اولئك: في العراق، وفلسطين، وافغانستان، ولبنان، والصومال، والسودان، ووقفوا ضد كل اشكال القتل باسم الدين.
فوضع الدين لافتة للقتل والذبح سينعكس عليهم لاحقا، وتلك بداهة، وتجربة، سواء في اوروبا او العالم العربي والاسلامي. سينعكس على شكل عنصرية، والغاء، ومحاربة حضارية، وتشكيك، وتهميش. كان الفيلم من التفاهة والركاكة في الاخراج، والتناول، والمونتاج، بحيث ازعج الرسام الدانماركي ذاته، الذي اعترض جدا على رسالة الفيلم، اذ اعتبرها تشويها رخيصا لكل المسلمين. ففي مقابلة له في موقع ديرشبيغل أون لاين الألماني، اعتبر أن رسومه التي اثارت تلك الضجة كانت موجهة الى شريحة معينة من المسلمين. وليس الى كل المسلمين مثلما يفعل فيلم غيرت فيلدرز. لذلك أقام الرسام دعوى قضائية على البرلماني بهذا الخصوص. ونهاية الفيلم تذكر المشاهد ببرابرة التاريخ، محرقي الكتب في الساحات العامة بدعوى الهرطقة، حيث تمتد يد غامضة، ناعمة، لتقوم بتمزيق اوراق القرآن ورقة ورقة، وكأنها دعوة صريحة لقتل المسلمين جميعا، وتمزيق ثقافتهم وفنونهم وتراثهم، وهذا ما لا يقره الرسام، في مقابلته للمجلة الألمانية.
ورغم اهتمام عامة المسلمين وشيوخهم بالفيلم، وقيام بعض المظاهرات في عدد من الدول، والاحتجاجات الرسمية لدى الحكومة الهولندية، الا ان الفيلم على الصعيد الاوروبي لم يثر ضجة كما كان يعتقد ويؤمل. ومرت عليه وسائل الاعلام مرورا عابرا وهامشيا، وهذا يعكس دلالات مهمة ينبغي على الشعوب الاسلامية الانتباه لها، وعدم الانجرار وراء المتطرفين الاسلاميين قطعة الرؤوس، ومختطفي البشر، ومفجري الحافلات. فليس كل الاوربيين ينظرون هذه النظرة المقيتة الى الاسلام. ان الاسلاموفوبيا قد تكون موجودة في الغرب، لكنها ليست الهاجس اليومي للناس. وهناك ملايين المفكرين والسياسيين، والمتنورين، ممن يقفون بقوة ضد هذه البروباغاندا الأصولية الرخيصة. خاصة وهي تذكرهم بالبروباغاندا النازية ايام هتلر، والفاشية في عهد موسوليني، في مصادرتها للعقل والمنطق وحكمة الشعوب. لكن في ذات الوقت هناك حقائق لا يمكن للمسلمين تجاهلها، وسكت عنها غلاة شيوخهم، منها انهم لن يستطيعوا منع الجميع من تناول مقدساتهم، او شتم عقائدهم، فللغرب حرياته المقدسة كذلك. وثانيا ان الشتامين ليسوا سوى قلة في مجتمعاتهم، وأن مخاطبة العقل الاوروبي لا تتم بالمظاهرات والتفجيرات والقتل واللغو الكلامي، انما بالحجة والمنطق.
فيمكن ان يلعب منطق دحض الفيلم فنيا دورا اكبر من مظاهرة زاعقة في أزقة الخرطوم. ويمكن لتجاهل هذا النمط من الدعاية المتطرفة الرخيصة ان يكون سلاحا امضى من الانتباه له، او مناقشته في وسائل الاعلام. خاصة وأن هناك مآخذ كثيرة على العرب والمسلمين هي التي سوغت تناولها من قبل الفكر الغربي المتطرف، كالأصولية والعنف والدعوة الى القتل والخطف على اللون والهوية والدين وتصفية الديانات الثانية ومعاداة الغرب، وتكفيره في بعض الاحيان، واضطهاد المرأة الوحشي. وكلها مثالب تفشت منذ فترة طويلة، ولم تفضح بالطرق الصحيحة، ولا عولجت فقهيا وعمليا، وتم الدمج بين الارهاب والمقاومة في اكثر من بلد عربي، وتم السكوت عن ذلك دون منطق او سبب. الضجة التي اثيرت حول الفيلم الهولندي لم تكن هي الأولى في الصراع بين الاصوليات العالمية.
منذ رواية سلمان رشدي الآيات الشيطانية، والاصوليات الفاشية العنصرية والاسلامية تتشاجر فيما بينها، وتحاول تصوير العالم على انه اما صراع حضارات كما لدى فوكوياما، او حرباً بين الظلام والنور كما لدى الخميني. حرب بين اللون الأشقر، وبين اللون الأسمر والاسود. حرب بين أوربا المركز الحضاري، والهوامش البربرية. اعقب ذلك قضية تسليمة نسرين، التي فضحت معاناتها كأنثى تحت ظل السلطات الدينية المتخلفة، وهب في وجهها جياع بنغلاديش الذين لا يفكون الحرف، ولا يقرأون القرآن حتى، فكيف بروايات تسليمة؟ ثم قضية الحجاب في فرنسا، حين صورتها الذهنية الدوغمائية الاسلامية وكأنها حرب صليبية جديدة ضد الاسلام، متناسين ان أغلب المجتمعات العربية والاسلامية يمكن لها ان تقوم بتصفية اي امرأة سافرة في شوارعها، وتحت سمع ونظر السلطات الثيوقراطية في بلدانها، دون أي تأنيب ضمير…….
المستقبل – الاحد 13 نيسان 2008