بروتوكولات طارق علي
صبحي حديدي
قبل أيام صدرت رواية ‘ليلة الفراشة الذهبية’، فاستكملت مجموعة روايات الكاتب الباكستاني ـ البريطاني طارق علي، والتي صارت معروفة باسم ‘خماسية الإسلام’، إذْ كان قبلها قد أصدر ‘ظلال شجرة الرمان’، 1993؛ و’كتاب صلاح الدين’، 1999؛ و’امرأة الحجر’، 2001؛ و’سلطان في باليرمو’، 2005. ومؤخراً، حصلت هذه الخماسية على جائزة ‘غراناديللو’ الإسبانية لسنة 2010، وجرى الاحتفال بتسليمها في الثاني من كانون الثاني (يناير) الماضي، ذكــــرى سقوط غرناطة وتسليم مفاتيحها إلى الملك فرديناند والملكة إليزابيث.
غير بعيد عن مكان الاحتفال، الذي تقاطر إليه أكثر من 3000 شخص، كانت مجموعات من اليمين المتطرف الإسباني قد نظمت تظاهرة رفعت شعاراً يقول: ‘من أجل إعادة الفتح مجدداً، أطردوا جميع المسلمين من إسبانيا’!
وهكذا، كان يتوجب أن يذكّر علي ببعض ‘مآثر’ ذلك الفتح: استئصال الحضارة الإسلامية في الأندلس، إحراق آلاف الكتب والمخطوطات الثمينة، طرد المسلمين واليهود، الهداية القسرية إلى الديانة المسيحية، إنشاء محاكم التفتيش والشرطة السرّية الدينية، وإحراق المتهمين بالهرطقة… هذه ‘الجرائم رسمت صورة الهوية الجديدة لأوروبا، ورأينا آثارها على امتداد القرن العشرين، في ألمانيا وإيطاليا وإسبانيا’. صحيح أنّ التاريخ لا يكرّر ذاته تماماً، تابع علي يقول، ‘لكنّ أصداءه يمكن أن تكون مميتة أكثر. ولهذا فإنّ استذكار الماضي لا يُراد منه جعل البشر يشعرون بالذنب جرّاء ما ارتكب أسلافهم من جرائم، أو طلب التعويضات عن عواقبها، بل ضمان أن نتعلّم من الماضي ونتفادى أخطاء القرنَيْن الخامس عشر والعشرين’.
قبل ‘ليلة الفراشة الذهبية’، كان علي قد أصدر كتاباً غير روائي، بعنوان ‘بروتوكولات حكماء سدوم، ومقالات أخرى’، ضمّ 36 مقالة كتبها خلال العقود الثلاثة الأخيرة، في ميادين مختلفة تبدأ من مراجعة الكتب ورثاء الراحلين، ولا تنتهي عند السجالات السياسية والندوات العامة. الصلات ـ التي يراها وثيقة، حاسمة، ودائمة ـ بين الأدب والتاريخ والسياسة، هي الرابط المركزي الذي يجمع المقالات، خاصة تلك التي تتناول أعمال الإسباني سرفانتيس والفرنسي مارسيل بروست والنمساوي روبرت موزيل والروسي ألكسندر سولجنتسين والسعودي عبد الرحمن منيف والهندي سلمان رشدي، وسواهم. هنالك أيضاً مقالات رثاء بليغة، تمزج الوفاء بالتعمق والإنصاف، عن أمثال إدوارد سعيد، والفيلسوف الفرنسي غي دوبور (صاحب واحدة من ألمع النظريات المعاصرة حول مبدأ الفرجة والإستعراض)، والمؤرّخ الماركسي إريك هوبسباوم، والمخرج السينمائي والكاتب البريطاني دريك جارمان، والجاسوس البولوني ليوبولد تريبر الذي عمل لصالح السوفييت اثناء الإحتلال النازي لبولونيا ونظّم أعمال المقاومة هناك.
وأمّا عنوان الكتاب فإنه مستمدّ من فكرة إشكالية للغاية، ومجهولة نسبياً، كان بروست قد طرحها في روايته الشهيرة ‘البحث عن الزمن الضائع’: إذا كانت الصهيونية تبحث عن وطن توراتي لليهود على أساس ما تعرّضوا له من اضطهاد، فإنّ الأحرى بها البحث عن وطن توراتي للمثليين والمثليات. وفي نظر بروست، أن يكون المرء يهودياً أمر يتناظر مع كونه مثلياً، وذلك في أنّ الحالتين ‘مرض لا شفاء منه’ على حدّ تعبيره في الجزء الرابع من الرواية، المعروف باسم ‘سدوم وعمورة’. ويجمع دارسو بروست على أنّ هوية أمّه اليهودية شكّلت هاجساً طارده طيلة حياته (وثمة تأملات مذهلة حول فكرة إخفاء الأنف بوصفه علامة على المظهر اليهودي)؛ تماماً مثل الهاجس الآخر الذي طبع سلوكه، أي هويته المثلية.
وليس في وسعي دفع إغراء التذكير بكتاب سابق، نشره علي أواخر العام 2006، بعنوان ‘قراصنة الكاريبي: محور الأمل’، وأراد فيه مناقضة مفهوم ‘محور الشرّ’ الذي اخترعه الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش مطلع العام 2002. وفي محاكاة ساخرة لعنوان الفيلم المعروف، يرى علي أنّ كوبا وفنزويلا وبوليفيا يمكن ان تصنع محور الأمل، وأوصى الناشر أن يكون تصميم الكتاب بمثابة تقليد معلَن لملصق الفيلم إياه: العنوان مطبوع على لفافة ورق قديم، ووجوه ‘القراصنة’ الثلاثة (فيديل كاسترو، هوغو تشافيز، إيفو موراليس) ظاهرة في الجزء الأعلى، تماماً كما هي حال جوني ديب وأورلاندو بلوم وكيرا نايتلي في ملصق الفيلم!
لماذا القراصنة، قد يتساءل المرء؟ لأنهم ببساطة أبطال أزمنة خلت الآن وحلّت محلها أزمنة بديلة أو مضادة لأخلاقيات البطولة تلك، ولأنّ القراصنة كانوا ثوّار تلك الأيام ضدّ المراكز الإمبراطورية الكبرى والقوى العظمى، وكانوا يستردون من القويّ الغني بعض الثروات التي ينهبها دون وجه حقّ أو يحتكرها ويتنعمّ بها على حساب الفقراء. هم كذلك أسطورة تشحذ المخيّلة المعاصرة في كلّ ما يتصل بحسّ المغامرة في إطار عامّ، وفي حسّ المقاومة ضدّ الطغيان السياسي والجبروت العسكري بصفة خاصة. باختصار، القراصنة كما يصفهم علي: ‘بحّارة أبطال، وأسواط تلسع الطغاة وأهل الجشع، وحماة الحرّية الشجعان’.
هذه الأعمال (وسواها، مثل ‘صدام الأصوليات: الحملات الصليبية، الجهاديون، والحداثة’، و’بوش في بابل: إعادة استعمار العراق’) تبرهن على أنّ ‘طارق الأحمر’، التروتسكي المشاغب النزق الراديكالي كما صوّر نفسه في عمله الشهير ‘سنوات قتال الشوارع: سيرة ذاتية للستينيات’، صار طارق علي من دون صفات: اليساري الرزين، المتحرّر من عنفوان الصبا، المثقل بانكسارات الحاضر، ولكن المفعم بالأمل في أنّ الأيام حبلى بانتصارات الشعوب.
خاص – صفحات سورية –