صفحات العالمما يحدث في لبنان

الحكومة اللبنانية: هل ثمة أمل؟

نهلة الشهال
لا بد من أن الحكومة الجديدة، ورئيسها خصوصاً، قد تنبهوا إلى أمر استثنائي حدث معهم، بل أمرين: الأول هو عدم الاكتراث بالتوصل إلى التأليف، الذي يكاد يكون شبه كامل، بحيث إن عموم الناس لم تنتبه إجمالاً إلى حصوله، ثم تناقلته ببرود. لعل ذلك يعبر عن طول المدة التي تطلبها الوصول إلى الصيغة التي أبصرت النور مساء الاثنين الفائت، فاستنفدت القدرة العامة على التنبه، أو بتعبير مباشر أكثر، انتهت إلى إثارة الضجر. والثاني هو الايجابية الاستثنائية التي أحاطت بها القوى السياسية، وحتى وسائل الإعلام على تنوعها، ولادة الحكومة، عدا حزب الكتائب الذي يبدو حرداناً، وإنما من دون أن يثير ذلك قلقاً جدياً.
الخاصية الأولى مثيرة، لأن الحياة السياسية اللبنانية، على الأقل منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري، طُبعت بنزق شديد مثلت الحكومة وعاءه الأول. فالنزاع على الحصص، وعلى كيفية انعكاس توازن القوى داخل الحكومة، تأليفاً ثم صيرورة، كان هو اللعبة السائدة بالترافق مع الاستنفار، مسلحاً أو غير مسلح، في الشارع. فكانت الساحتان، الحكومية والشعبية، متصلتين بطريقة مباشرة إلى حد خالف أبسط قواعد وأصول الممارسة الدولتية أينما كان، إذ امّحت المسافة بين الصعيدين، وخرج إلى العلن، عارياً، مبدأ التمثيل الطوائفي/ السياسي المباشر، كما لو أن الحكومة كانت مجلساً قبائلياً. ومن يمكنه نسيان واقعة استقالة وزراء «حزب الله» وحركة «أمل» ووزير رئيس الجمهورية آنذاك؟ ثم دلالة «قرار» الاستمرار في حكومة غادرها هؤلاء، وهو قرار لم يكن محلياً بالتأكيد، بل منبئاً بما هو أعظم. ومن المفارقات اللبنانية العجيبة أن يتعايش، ولو بالتتابع، هذان الجوّان، فيلحق حال عدم الاكتراث اليوم بذلك القدر من التوتر والتدخل المباشر. فهل يعبر ذلك عن «سطحية» الغرائز الطوائفية القابلة للاشتعال الشديد عندما تُحقن وللخمود حين تُهدّأ، أم أن هناك، على العكس من ذلك، استبطاناً لها، جرى والسلام، وان الأطراف كافة اطمأنت إلى وجودها في حالة كمون وظيفي، فتركتها وشأنها وانصرفت إلى صعيد آخر من إدارة الأمور. وهناك أيضاً من قد يرى في حالة عدم الاكتراث هذه مؤشراً على تفسير ثالث، وهو إدراك الناس، ولو بطريقة غير متبلورة، أن مشكلاتهم الحياتية المباشرة أعقد وأعمق من أن يحلها التنازع على حصص الطوائف، وإن كانت تلك ما زالت الوسيلة الأبرز لإعادة توزيع الثروة في البلاد، من أعلى من طريق «احتكار» قطاعات وخدمات معينة، ومن أسفل من طريق توزيع الفتات، الجاري على شكل مساعدات شتى تعزز زبائنية بدائية، ولا تحسم في الغالب بين زعماء عدة مؤكدين أو متنطحين للزعامة، ولكنها تبقي جميع المنتفعين في إطار موسوم طائفياً، وبدرجة أقل مناطقياً.
أما الخاصية الثانية، أي الإجماع على استقبال الحكومة الجديدة بتعقل واقعي وإيجابية، فلعلها تنبئ بالدرجة الأولى بمقدار قوة حضور هموم تتجاوز المحيط اللبناني الضيق نحو ما يعتمل في المنطقة وحولها. هناك اشاعات تبدو وكأنها لا تفصلها عن التحقق إلا شعرة، منها ما يخص إيران وما يسببه ما يقال له «ملفها النووي» من توتر وتهديدات، ومنها الوضعية الإسرائيلية المنفلتة من كل عقال، ومنها قضايا متفجرة وخطيرة الأبعاد كما هي حال اليمن، وأخرى ما زالت مملوءة بالمفاجآت كما هي حال العراق… هذا إذا أهملنا مسائل أخرى لا تقل أهمية وتوتراً ولكنها تخرج عن دائرة التهديد المباشر بقلب المشهد برمته وإدخال المنطقة في معادلات لا يمكن التنبؤ بشكلها ولا بمساراتها. يجرى تشديد عام على أن هذه الايجابية التي أحاطت التوصل إلى تأليف الحكومة هي نتاج توافق سعودي-سوري، وكأن هذا ينتمي إلى عالم الأمزجة وليس إلى اشتراطات ذلك الإطار الإقليمي/ الدولي الذي تتجاذبه مفارق طرق شتى. وقد تجاوز الإجماع العربي والمحلي الترحيب، إلى توجيه الحكومة الجديدة نحو «العمل والانجاز»، وبخاصة في المجالات الاجتماعية والاقتصادية. فقال ذلك رئيسها كما رئيس الجمهورية، بل اقترح السيد حسن نصر الله في خطبته في «يوم الشهيد»، (والتي استعادت لغة كان قد غادرها قبيل وبعد السابع من أيار/ مايو 2008)، ترك القضايا الخلافية الكبرى – هي السياسية بامتياز – إلى طاولة الحوار الوطني، في تقسيم عمل يدعو الحكومة إلى الاهتمام بالقضايا الاجتماعية والاقتصادية، بما اعتبره شرط نجاحها من جهة، وأيضاً شرط تجنيب البلد أزمات جديدة. ولا يعني ذلك عدم وجود خلافات كبيرة حول البرامج الاقتصادية والاجتماعية تلك بين أطراف الحكومة، ولكن يفترض أن توتراتها قابلة للاحتواء.
وفي هذا الصدد، الأمر حقاً غير شكلي بتاتاً. وليست القضايا السياسية الكبرى أكثر نبلاً من المشاكل الفظيعة المستعصية، في المجالات الأساس من الأكل والصحة والتعليم والسكن، المعطلة جميعها بلا أي أفق أو تصور لسياسة، وبما يخص البيئة التي تعرِّض لبنان وسكانه لأخطار طويلة المدى، بل وبما يخص الاجتماع المديني نفسه الذي بات مهدداً بسبب مقدار غير معقول من ترك الناس يتدبرون أمورهم بالممكن، وبما يقع تحت طائلة يد كل واحد منهم، بما يسمى بلغة أخرى بـ «شريعة الغاب»، المترافقة مع درجات باتت فضائحية من اللجوء إلى قطاعات إنتاج «غير تقليدية»، تقع على رأسها الدعارة بأشكالها كافة، والاتجار بالمخدرات على كل المستويات، وانتشار الإجرام.
وفي الحكومة الجديدة تكنوقراط، بعضهم يحظى باحترام فعلي لعلمه ومقارباته، من دون أن تعطى الحكومة نفسها هذا الطابع. أما الخلافات في الوجهة التي تفرق بينهم، فسيكون مثيراً عرضها علناً، وليس حلها بالتسويات بين القوى السياسية التي تقف وراء كل وزير أو يشكل هذا الأخير حصتها. ولعل هذا التقديم يحفز استعادة مذاق السياسة لدى عموم الناس، ويوفر إدراج الصراع في مسارات الخلاف على كيفية العودة بالنهوض بالتعليم العام مثلاً أو بالحد الأدنى من الضمانات الصحية (وليس سيرة الشحاذة السائدة حالياً)، أو كيفية تأهيل الكهرباء، أو وسائل الحد من الفساد الإداري والرشوة المعممة… إلى آخر لائحة يشي طولها بأن البلد سائب تماماً، وأن استمراره على قيد الحياة معجزة حقاً!
الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى