إيران إذ تلخّص انقساماتنا
حازم صاغية
قبل أيّام، وبمناسبة الذكرى الثلاثين للهجوم على السفارة الأميركيّة في طهران واحتجاز رعاياها، وقفت مجموعة من الإيرانيّين تهتف الهتاف الخمينيّ الشهير: “الموت لأميركا”، كما وقفت، في مقابلها، مجموعة أصغر تهتف: “الموت للديكتاتور”، قاصدةً رئيس الجمهوريّة محمود أحمدي نجاد، وربّما ضمناً مرشد الجمهوريّة الإسلاميّة علي خامنئي.
ولنا أن نقول، بادئ ذي بدء، أنّ هذا المشهد يُظهر كم هو خاطئ وضحل ذاك النعت الذي يعتمده بعض الإعلام اللبنانيّ حين يقول “الإيرانيّ” و”السوريّ” و”الفلسطينيّ”، وصولاً إلى “الإسرائيليّ” و”الأميركيّ” و”الأوروبيّ”. إذ من هو “الإيرانيّ”؟ ذاك الذي يهتف “الموت لأميركا” أم الذي يهتف “الموت للديكتاتور”؟.
واقع الحال أن الإثنين إيرانيّان، وأنّهما حين يفعلان ما فعلاه في إحدى ساحات طهران إنّما يلخّصان الانشطار العميق والمديد، لا بين الإيرانيّين فحسب، بل أيضاً في منطقة الشرق الأوسط برمّتها.
فهناك دائماً وُجد الخطّ الفكريّ والسياسيّ الذي يجعل الموقف من الخارج (وهو الغرب) محطّة انطلاقه والمقدّمة التي يُبنى عليها ما يلي من مواقف وتقديرات. ولدى هذا الخطّ، وهو غالباً ما يوغل في التفسير التآمريّ للأحداث، يرقى الاستيلاء على السفارة الإيرانيّة، والذي أعقب انتصار ثورة الخمينيّ، إلى مصاف تأسيسيّ: ذاك أنّ تلك السفارة “محطّة للجواسيس”، كما أسماها الخمينيّون. وما دام أساس كلّ شيء خارجيًّا، باتت السيطرة على “الجواسيس” وإغلاق “وكرهم” إنجازاً ما بعده إنجاز لمصلحة الوطن والشعب.
في المقابل، يذهب الخطّ الثاني إلى إيلاء الداخل وعلاقاته، لا سيّما منها ما يتعلّق بالاستبداد وثقافته، مرتبة الأولويّة. ذاك أنّه ينبغي الانطلاق دوماً ممّا صنعناه ونصنعه نحن، وعلى ضوئه يُنظَر إلى إسهام الخارج، بالإيجابيّ منه والسلبيّ. وغنيّ عن القول إنّ طريقة التفكير هذه هي ما يمنح المسؤوليّة الذاتيّة الأهميّة التي تستحقّها: أين تقع مسؤوليّتنا عمّا وصلنا إليه، وما دور ثقافتنا وقيمنا وعلاقاتنا في ذلك، ومن ثمّ ما هي مسؤوليّتنا نحن عن تغييره؟. وأسئلة كهذه إذ تستبعد العقليّة التآمريّة، تستبعد أيضاً تسخير العقل وإخضاعه إلى قوى يصعب تفسيرها.
وما لا شكّ فيه أنّ النظرة التآمريّة، في منطقة الشرق الأوسط، لا تزال أقوى، بلا قياس، من النظرة المنطلقة من الداخل والتي تبني عليه. وهذا لا يعود فحسب إلى اتّساع رقعة الأمّيّة وتردّي التعليم وضعف تقاليد الشكّ في ثقافتنا السائدة. فإلى ذلك تلعب السياسة، كما نمارسها، دوراً ملحوظاً، حيث يؤدّي نقص الشفافيّة إلى شيوع فهم لها بوصفها شأناً غريباً وغير مفهوم يستلزم “أرباباً” هم وحدهم من يستطيع فكّ أحاجيها وألغازها. وفضلاً عن هذا، هناك الحقيقة التاريخيّة التي تفيد أن صلتنا بالعالم الحديث وكيفيّة اشتغاله إنّما بدأت مع حملة نابوليون في أواخر القرن الثامن عشر، ثمّ تعزّزت، في القرن التاسع عشر، مع حركة الاستعمار الغربيّ، وبعدها مع قيام إسرائيل في القرن العشرين. وما يترتّب على ذلك أنّ الآخرين هم الذين يصنعون تاريخنا وواقعنا، أمّا نحن فلا حيلة لنا في ذلك.
ما يبقى من طريقة التفكير الغالبة هذه أنّنا، من خلالها، نعلن نوعاً من الاحتقار للذات، إذ إنّنا مجرّد موضوع لهم ومجرّد عطالة لا تسمن ولا تغني من جوع. أمّا المستبدّ، أكان إيرانيًّا أو غير إيرانيّ، فيعثر في الطريقة المذكورة على ضالّته. ذاك أن لسان حاله يقول: ما دام الآخرون هم الذين يفعلون بنا كلّ ذلك، فما عليكم إلاّ أن تدعوني أحكم وتتكتّلوا من حولي، كما تنسون جرائمي وسائر ارتكاباتي، من أجل أن نقف معاً في وجه الآخرين ومؤامراتهم.
لقد لخّص ذاك المشهد الإيرانيّ كلّ شيء.