صفحات مختارة

الدول الفاشلة” والمشروع العربي

null
د. طيب تيزيني
يتم الترويج في المرحلة الراهنة لمصطلح يزيد الأمور تعقيداً في بلدان “العالم الثالث أو الرابع”، وهو الدول الفاشلة. وقد ورد هذا المصطلح مراراً، حيث كان الأمر يتصل ببلدان هشَّة الاستقرار والنمو الاقتصادي والمهيْمن فيها نظم أمنية تغيّب الحريات وحقوق الإنسان، وتعبث بالمال العام والمؤسسات وتنشر الفساد وتعقد “أثمن” العقود والاتفاقيات مع بلدان وشركات أجنبية لصالح رموز السلطة والحكم. ومن الخصائص الأخرى لتلك الدول أنها تسعى الى إرضاء الأجنبي بوسائل مختلفة بمثابة رِشوة له، كي يصمت على ما يحدث فيها من انتهاكات ومجازر تمس حقوق الإنسان بأبسط أشكالها وبأخطر دلالاتها. وهذا من شأنه أن يضع بلدان “الدول الفاشلة” تحت قبضة الأجنبي بمثابة رهائن، يتصرف بها وفق واقع الحال المتحرك من مصالح الحكام في الداخل إلى مصالحه هو، أي الأجنبي. تلك الوضعية تتكرّس باتجاهات متعددة، منها الاتجاه الأكثر حضوراً وظهوراً، وهو القائم على “تبادل المصالح” بين الخارج الأجنبي والداخل المحلي، مع الإشارة إلى أن ذلك الخارج غالباً ما يكون في يده قرار تحريك تلك المصالح وفق مصالحه هو. والمثال النموذجي هنا الذي يفرض نفسه، على صعيد الداخل العربي، يتمثل في أنه في الوقت الذي يقدم فيه الغربُ دروساً في حقوق الإنسان وفي ضرورة احترامها تحت طائلة المسؤولية الرادعة، خصوصاً في ما أطلق عليه “الدول الفاشلة”، فإنه هو -خصوصاً في شِقّه الأميركي- الذي يمارس اللعبة الخبيثة المُجرّبة يصمّ أذنيه حيال أفظع الجرائم التي ترتكبها النظم الأمنية العربية (مثل القتل الجماعي دون محاكمات، وملاحقة كل من ينتقد في سبيل الخبز أو في سبيل الحريات الديمقراطية، واستباحة المؤسسات القضائية والتعليمية وغيرها، ونهب المال العام بالتشارك مع الأتباع والأجهزة الأمنية العسكرية والسياسية…إلخ التي تحميه وتمثّل صمام الأمان في نظامه الأمني). وهو يفعل ذلك، حين يكون متوافقاً مع مصالحه الجشعة في تلك النظم الأمنية. ولكن حين يبرز تناقض بينه وبين هذه الأخيرة في سياق تحالفات جديدة مع قوى إقليمية أو دولية، كما يحدث الآن بالضبط، فإنه (أي الخارج الغربي) يشن حملات مفتوحة ضد النظام الأمني العربي المعْني، محملاً إياه كل الموبقات.
والطريف في الموقف الجديد أنه لا يُستخدم من قِبل النظام المذكور بمثابة حافز للعودة إلى شعبه والقوى الحية فيه، وحافز الاستقواء بها في سبيل إعادة النظر في الاقتصاد والسياسة والتعليم والقضاء والجيش…إلخ، ومِنْ ثم في سبيل تصْليب وتعميق علاقات النّدية والمثاقفة الحرة مع الغرب. فبدلاً من ذلك، يلجأ هذا النظام الأمني العربي أو ذاك إلى الإمعان في محاصرة شعبه اقتصادياً وسياسياً وقضائياً أولاً، وفي استجداء الغرب المعني بعدم قطع علاقاته الودية معه ثانياً. وهذا، بدوره، يُنتج أوضاعاً داخلية مفعمة بالتوتر والقلق واحتمالات نشوء مواجهات في الداخل والخارج، مع تعاظم نسب الجوع والإذلال من الداخل، ونسب محاولات التدخل من الخارج. وهذا من شأنه أن يضع النظام الأمني أمام موقف من الهجوم الوحشي على “المعارضة” الداخلية، وذلك عبر التفكُّر التالي: النظام الأمني يتصل سراً، غالباً، بالخارج بهدف الحصول على ثقته به، ولكنه يتهم المعارضة الداخلية باتصالها بذلك الخارج، ليضعها رهينة دائمة في أيديه.
وذلك ما تعرّضت له (سوزان جورج)، بقدْر ما، في محاضرة لها قدمتها في الكونجرس الدولي للأطباء الدوليين لمنع الحرب النووية ضمن مجلة (Z). ففي إطار تلك العلاقة المعقدة والمركّبة بين الداخل العربي والخارج الغربي، تتعاظم المعضلات في قلب الداخل المذكور: من التفاوت الاجتماعي والطبقي، إلى أزمات البيئة المستعصية ونقص الموارد الطبيعية والطاقة، وصولاً إلى الحروب فيما بين السكان الفقراء أنفسهم بصيغة حروب وفتن طائفية واقتصادية وغيرها. وهذا، بدوره، يولّد الحاجة إلى مزيد من الضغط على المجتمع العربي المعْني، وذلك على نحو مفتوح على كل الاحتمالات.
إن واقع الحال المذكور غدا خزّان لا ينفد لنشوء وبروز معضلات ومشكلات وأزمات في المجتمعات العربية، التي تنمو باطراد، دون الوصول إلى حلول، إلا الحل المتمثل في ما يطلق عليه راهناً “علم تصريف الأزمات وليس حلها”. ألا يلاحظ، والحال كذلك، كيف أصبح الأمر ها هنا غاية في التعقيد والإشكالية؟ إن إعادة بناء الموقف هذا، على خطورته، يبدأ بالديمقراطية السياسية وإزالة ما يُعيقها باسم قانون زائف، هو قانون الطوارئ، مُعلناً أو غير معلن. وهذا بداية المشروع العربي.
جريدة الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى