الديمقراطية وأيديولوجيا الخصوصية
يوسف سليم سلامة
ليس ثمة من لا يعلم اليوم أنّ الديمقراطية هي حكم الشعب لنفسه. وليس ثمة من لا يعلم أيضا أنّ تحديد كل أمّة لطريقة حكمها لذاتها أمر من المفترض أن يكون راجعاً إلى ما تقرره تلك الأمة والى ما تختاره من أدوات سياسية وأساليب حضارية تتخذ منها قاعدة لحكم ذاتها . وأساساً لتحديد العلاقة بين الحاكم والمحكوم .
فضلاً عن أساليب المراجعة والنقد والانتقال من حالة إلى أخرى، طالما أنّ التطوّر سمة مميزة لحياة البشر في هذا العالم . الذي لم يعد مجرد عالم طبيعيّ، ذلك لأنّ الطبيعة ذاتها قد أُعيد إنتاجها بصورة ثقافية، فلم تعد تشير إلى ما هو ماديّ فحسب، وإنما أضحت واحداً من المفاهيم الإنسانية التي نجح الإنسان في تطويرها لذاته، فكانت الشاهد الأبرز على احتياز الإنسان لحريته وبالعلاقة مع المجتمع، واحتيازه للاستقلال الذاتيّ عن الطبيعة. وذلك عندما لم يعد الإنسان امتدادا لها، وإنما هي التي أصبحت امتداداً له . وبذلك جرّد الإنسان الطبيعة من طبيعتها المادية، وأعاد بذلك إنتاجها إنتاجاً ثقافيا. فكانت النتيجة أن صار الإنسان سيداً لها من ناحية، ومن ناحية أخرى احتاز الجميع صفة التكافؤ داخل المجتمع. فاكتملت بذلك الشروط الضرورية لتحقيق الحرية الإنسانية. ولم يتبقّ على البشر إلا أن يترجموا عن حريتهم هذه تجاه الطبيعة والمجتمع في صورة نظام ديمقراطي تكافؤي تمثيلي يضمن للجميع حقوقاً متساوية في اتخاذ أهمّ القرارات المتعلقة بمستقبلهم انطلاقا من العقلانية الضمنية أو الصريحة التي تتفاوت المجتمعات في درجة إدراكها لها ووعيها بها .
والنتيجة المترتبة على المقدمات السابقة هي أنّ الحالة الديمقراطية قد أضحت حالة إنسانية يمكن لجميع الأمم والشعوب أن تشترك في تحقيقها وفي إنتاجها على النحو الذي ترى هذه الأمة أو ذلك الشعب أنّ سبيلاً دون آخر يمكن أن يفضي بها إلى تحقيق الحياة الديمقراطية على نحو أفضل وأشدّ فاعلية وتأثيراً .
وفي ضوء ما تقدم من بيان لماهية التجربة الإنسانية في ارتباطها بالطبيعة والمجتمع، فإن كل حديث عن الخصوصية المميزة لهذه الأمة أو تلك هو حديث لا ينطوي على أيّ تسويغ للمُضيّ من الخصوصية إلى أن يستنبط منها استحالة تحقيق الديمقراطية السياسية في حياة هذه الأمة أو تلك، فما يستنبط من الخصوصية فقط هو أنّ لكل أمة طريقها الخاصّ نحو الديمقراطية، وليس ما يستنبط من الخصوصية الزعم بأنّ هذه الأمة أو تلك لا يمكن لها أن تكون امّة ديمقراطية وذلك لأنها أمّة غير مؤهلة لأن تكون كذلك نتيجة لعوامل متعلقة بالتكوين السياسيّ والثقافيّ الخاص لهذه الأمة .
ولعل أبرز حجة تقدم تدعيماً للادعاء بأنّ الشعوب العربية لا يصلح لها أن تحكم نفسها بالنظام الديمقراطي هو التراث، فالتراث في نظر الديمقراطيين من العرب قد كوّن الشعوب العربية على نحو مختلف عن تكوين ” الله ” لجميع أمم الأرض. فنجم عن ذلك أن كان العرب وحدهم هم الأمة التي لا تستطيع أن تكون أمّة ديمقراطية وهم في ذلك على خلاف الأفارقة والآسيويين الذين نازلوا الدكتاتوريات فهزموها وأقاموا بديلاً عنها نظماً ديمقراطية. من حقهم الاعتزاز بها بوصفها دليلاً على إنسانيتهم ووعيهم بأنهم كائنات عاقلة على قدم المساواة مع جميع الأمم الأخرى التي تطبق الديمقراطية نظاماً لحياتها السياسية والاجتماعية .
والنتيجة المستخلصة من ذلك هي أنّ حكم العرب لا بد أن يكون حكما غير ديمقراطيّ. أو بالأحرى لا بدّ للحكومات العربية من أن تحكم شعوبها حكماً استبدادياً ومرد ذلك – في نظر الذين يقرنون الخصوصية بالاستبداد – إلى أنّ هذه الشعوب ليست مؤهلة، بحكم تكوينها وتراثها، لأن تحكم نفسها بنفسها حكماً ديمقراطياً .
ولو أننا دققنا في طبيعة هذه الرؤية التي تقرن بين الخصوصية وبين الاستبداد، لتبينا بسهولة أننا بإزاء موقف أيديولوجي واضح كل الوضوح، ولكنه غير متماسك أبداً. ذلك لأنه يصوغ رؤية إيديولوجية مسوغة للاستبداد وحكم الفرد الواحد بالاعتماد على الخصوصية. وبذلك يخرج بالخصوصية عن معناها الأصيل والدقيق. فالخصوصية تشير إلى مجموعة من السمات والخصائص المميزة لهذا الشعب أو ذاك في لحظة تاريخية معينة. فهي لا تشير إلى سمات أبدية لا سبيل إلى تخطّيها في أيّ وقت من الأوقات. ومن ثمّ لم تعد الخصوصية سوى ستار أيديولوجي يخفي الرغبة اللانهائية في إقامة حكومة الاستبداد إلى ما لانهاية له.
وإذاً فنحن هنا بإزاء أيديولوجيا متناقضة تخفي من الحقائق أكثر مما تظهر. وتستنبط من المقدمات، بصورة غير شرعية، ما لا يمكن استنباطه منها أبداً . وتناقضها وتهافتها أوضح من أن نبذل الجهد في كشفه وفضحه .
ولو أننا نظرنا، مرّة أخرى، في هذه الايدولوجيا التي تستنبط ضرورة الاستبداد من الخصوصية، لما استطعنا إلا أن نستحضر الحجّة التي استندت إليها الدول المنتصرة في الحرب العالمية الأولى والتي بالاستناد إليها، انتزعت صكوك الانتداب من عصبة الأمم على البلدان الضعيفة والمهزومة في تلك الحرب . فالدول الاستعمارية، التي قسمت بلاد الشام إلى دويلات، ذات معنى وغير ذات معنى، قد استندت في فعلها هذا إلى حجّة مفادها أنّ الشعوب الشامية غير مؤهّلة بعد لأن تحكم ذاتها بذاتها. ومن ثمّ فقد كانت مهمة المنتدبين المزعومة هي تهيئة الشعوب الواقعة تحت الانتداب لأن تصبح قادرة على حكم ذاتها بذاتها .
والملاحظ على الحجّة التي أقام الانتداب مبرّراته الأخلاقية والسياسية عليها هي أنها تشكل أيديولوجيا مهمتها تبرير الاستعمار وغزو الشعوب القوية والمنتصرة للشعوب المهزومة والضعيفة. وهي أيضاً أيديولوجيا تخفي أكثر مما تظهر. تخفي حقيقة الاستعمار تحت ستار إيديولوجي زائف هو أنّ هذه الشعوب غير مؤهّلة لأن تحكم ذاتها بذاتها .
والملاحظ إذن أنّ الايدولوجيا الاستعمارية التي صاغت نفسها في صورة الانتداب والوصاية وغيرهما قد اعترفت بانّ ثمة نهاية محتملة لهذا الانتداب وتلك الوصاية. وهي نهاية مقترنة بوصول تلك الشعوب إلى القدرة على أن تحكم ذاتها بذاتها. وعلى الرغم من أنّ جميع القوى الاستعمارية لم ترحل عن البلدان المستعمرة إلا بعد تضحيات جسيمة من الشعوب التي كانت واقعة تحت الاستعمار، فإن في خطاب الانتداب مع ذلك بأنّ ثمة نهاية محتملة بحكم القوى الاستعمارية لهذا الشعب أو ذاك يمكن أن تحقق يوماً ما.
أمّا الخطاب الأيديولوجي الذي يقرن الخصوصية بالاستبداد، فلا يكاد يعترف بأنّ هذه الخصوصية قد تتطوّر وتتبدل يوماً ما بحيث تصبح الشعوب ذات الخصوصية المذكورة قادرة على أن تحكم نفسها بنفسها حكماً ديمقراطياً. فالخصوصية في الايدولوجيا الاستبدادية تتحول إلى قيد أبديّ مانع من تحقيق الديمقراطية حتى أنّ بعض دعاة هذا الاتجاه من القوميين والإسلاميين قد مضوا إلى التقرير صراحة بأنّ الديمقراطية الغربية لا تناسب الشعوب العربية والإسلامية. وهذا معناه أنّ الخصوصية – في نظر هؤلاء – لم تعد حالة تاريخية يمكن تجاوزها، بل هي قد أضحت بناءً وجودياً أو تكويناً وراثياً أو بنية انطولوجيا لا سبيل إلى الخروج منها، أو الفكاك من أسرها. ومن ثمّ يصبح الاستبداد هو المصير النهائيّ الذي يتعين على هذه الشعوب العربية والإسلامية أن تخضع له راضية، وإلا خضعت له كارهة دون أن يتم استئذانها في ذلك.
وإذا كانت الخصوصية في الحالتين السابقتين قد أدّت بإحديهما إلى تسويغ الانتداب والاستعمار، بينما أدت الثانية إلى تبرير الاستبداد ونفي الديمقراطية نفياً تاماً، فإنّ الديمقراطية، بوصفها أيديولوجيا، هي الايدولوجيا الوحيدة التي لا تتنافى مع الخصوصية، وهي الايدولوجيا الوحيدة التي بوسعها أن تحترم كل الخصوصيات وألا تنفي أياً منها. فماهية الديمقراطية اعتراف صريح بالتعددية، واحتفال بالتنوع والكثرة، وإمساك عن حذف أي عنصر يمكن أن يلعب دوراً في خضم الحياة الاجتماعية والسياسية. ومن هنا فإنّ تبنّي الديمقراطية نظاماً للحكم، من شأنه المحافظة على كل العناصر القائمة والمحتملة، في إهاب العملية السياسية والاجتماعية لشعب من الشعوب. والديمقراطية فوق ذلك، مستعدة للاعتراف بكل العناصر التي ولدت والتي لم يكن لها وجود من قبل، ومن هنا يمكن النظر إلى النظام الديمقراطي على انه بوتقة تتفاعل فيها، على خلاف، -كلُّ العناصر الحية – مما قد يؤدّي إلى استحداث صور جديدة للحياة لم يكن لها وجود من قبل .
فإذا كانت الديمقراطية لا تتناقض مع التعددية والخصوصية، بينما تعتمد النظم الاستبدادية في نفيها للديمقراطية على تصور مزعوم للخصوصية، فإنّ الديمقراطية مع ذلك، تواجه صعوبة ليس من السهل مواجهتها وهي أنّ أعداء الديمقراطية يمكن لهم الانقضاض عليها من داخلها، فالديمقراطية بحكم كونها نظاماً مفتوحاً وتعددياً، لا يقصي ولا يستبعد حتى الفئات غير الديمقراطية من المشاركة في العملية السياسية والاجتماعية، حتى أنّ هذه الفئات أو بعضها قد يصل إلى السلطة والى حكم المجتمع من داخل النظام الديمقراطيّ نفسه .
فلو وصل الإسلاميون إلى السلطة من داخل النظام الديمقراطي، فسيبادرون إلى إلغاء الحياة الديمقراطية، معتمدين من جديد على حجة الخصوصية التي أسلفنا الحديث عنها. والملاحظ اليوم أنّ اليسار وحتى في العالم العربي، قد أصبح على وعي بقيمة الديمقراطية وأهميتها بوصفها نظاماً سياسياً يمكن من تغيير الحياة الاجتماعية والسياسية وتطويرها بالطرق السلمية. وبالتالي فمن المرجح أن يكون اليسار سائراً على طريق التخلص من كثير من أوهامه العتيقة مثل ديكتاتورية البروليتاريا – التي برّر بها سلطة النظام الاستبداديّ الذي كان سائداً في المنظومة الاشتراكية وفي الدول الحليفة له .
ومع ذلك، فلا ينبغي داخل أيّ نظام ديمقراطيّ محتمل إقصاء الإسلاميين من الحياة السياسية، على الرغم من كونهم يتبنّون، في الغالب، أيديولوجيا استبدادية، لأنّ أيّ نظام ديمقراطيّ يستبعد أيّ عنصر من عناصر الحياة الاجتماعية يكفّ عن كونه ديمقراطياً بصورة مباشرة. غير أنّ ليس من واجب الديمقراطيين وحدهم أن يفكّروا بهذه المعضلة بل من واجب الإسلاميين أيضاً أن يفكروا فيها، وأن ينخرطوا في حوار حرّ ومتسامح، بعيد كل البعد عن التكفير وعن كل النزعات الهجائية، بقصد إنتاج حلّ مبتكر يضمن استمرار الحياة الديمقراطية ومشاركة الإسلاميين فيها في الوقت نفسه. وبذلك يتم التخلص من مأزق الخصوصية التي غالباً ما تمّ تبرير الاستبداد ونفي الديمقراطية بالاعتماد عليه .
تبقى كلمة أخيرة متعلقة بالاتجاهات القومية العربية، فغالباً ما دافعت هذه الاتجاهات عن الديمقراطية قولاً، ولكنها مارست الاستبداد فعلاً، ومن هنا تمسّ الحاجة إلى العودة النقدية المخلصة إلى الوثائق الأساسية، الفكرية والسياسية لتطويرها على نحو يجعل الديمقراطية حلاً مقبولاً من جانب هذه الاتجاهات قولاً وممارسة، وبذلك يتمّ القضاء على ما تبقّى من عائق أمام الديمقراطية، عائق قد تمت نسبته دوماً إلى الخصوصية .
موقع الآوان