صفحات الناس

الوطن من وراء القضبان في محاكة معتقلي إعلان دمشق

null
محمد بركة
في 24 / 9 / 2008 كانت المفارقة المذهلة … !!
عندما دخلت قاعة المحكمة في قصر العدل بدمشق , كانت الجلسة الثالثة لمعتقلي إعلان دمشق , أكبر محاكمة سياسية في تاريخ الوطن لمعتقلي الرأي , لذلك كان الحشد كبيرا ً , في بهو القصر العدلي , يتناسب مع أهمية الحدث , فالحضور كان نوعيا ً , من محامين وصحفيين , ومهتمين بالشأن العام , وأهالي المعتقلين من كلّ أنحاء القطر …

دخل المحامون أولا ً , ثم بدأ الناس يدخلون بعد معاناة كبيرة مع الحراس.. وعندما نظرتُ إلى يميني , إذ بالمعتقلين الاثني عشر داخل القفص الحديدي , فانفعلت كثيرا ً لرؤيتهم وراء القضبان إلى درجة التأثر والحسرة التي أبكتني … وبعد قليل دخل القاضي , وبدأت الجلسة … قدّم المحامون دفاعهم المكتوب إلى هيئة المحكمة , ومن ثم , أعلن القاضي السماح للمعتقلين بالكلام للدفاع عن أنفسهم .
بدأت الدكتورة فداء الحوراني بالكلام , وإذ بها تقدّم محاضرة في التغيير الوطني الديمقراطي , دفاعا ً عن الوطن وليس دفاعا ً عن النفس , وكأنها تخطب بالجماهير من على منبر المسؤولية التاريخية , وليس من على كرسي الاتهام .. مؤكدة أن التغيير الوطني الديمقراطي قد أصبح حاجة موضوعية للمجتمع والدولة بآن …. عندها شعرت أنني بحاجة لأن أصفق لهذه الجرأة والثقة بالنفس وبالوطن .
قال أحدهم : إن النظام لا يحاكمنا على مواقفنا وأفعالنا  , بل يحاكم الأفكار الحرة والتطلعات الديمقراطية المناهضة للاستبداد …!!
وقال آخر : أنا لا أطلب من المحكمة الموقرة الرحمة , بل أطالبها بالعدالة واستقلالية الحكم والفرق كبير بين الطلب والمطالبة … !
وقال آخر : إنني واثق أن الحكم الذي سيصدر بحقنا , ليس حكم القضاء , بل حكم الأجهزة الأمنية , وأتمنى أن لا نحكم بقرار من خارج هذه المحكمة … !
وقال آخر : إننا اعتقلنا فقط لأننا تكلمنا بالشأن العام , وتكلمنا بالسياسة , والسلطة السياسية تحتكر السياسة , ولا تسمح لأحد غيرها أن يتكلم بها , لذلك اعتقلونا .. ردّ القاضي قائلا ً : أنت تتكلم معي أم مع السلطة ؟! أجابه قائلا ً : أنا أتكلم  معك لكنك ممثل للسلطة ..
وقال آخر : جرمنا أننا اجتهدنا كمواطنين شرفاء , واجتمعنا في وضح النهار وفي العاصمة , ومن ثم نشرنا كلّ نتائج الاجتماع على الأنترنت والصحافة , وقدّمنا بيانا ً ختاميا ً يلخص كل الأفكار والتصورات المبدئية لعملية التغيير الوطني الديمقراطي في سوريا … فلماذا نعتقل على عمل وطني وشفاف كهذا ؟؟
لماذا لم نسأل عن ذلك من خلال الحوار مثلا ً .. ؟ فمن حقنا , لا بل من واجبنا أن نقدم رأينا في بناء الدولة الوطنية  الديمقراطية , كما من حق السلطة , بل من واجبها أن تحاورنا في ذلك , لا أن تعتقلنا … !
وقال آخر : أنتم لا تحاكموننا على أقوالنا وأفكارنا كما هي بالفعل , بل تحاكموننا على تفسيراتكم وحيدة الجانب لهذه الأقوال والأفكار , وبشكل مجانب للحقيقة ولا علاقة لها بمصلحة الوطن والمواطن …
وقال آخر : إن حماية الوطن لا تكون إلا باللحمة الوطنية , وذلك عن طريق الحوار وليس عن
طريق الاعتقال , الذي يضعف اللحمة الوطنية داخليا ً , ويسيء إلى سمعة سوريا خارجيا ً , ونحن لا نريد ذلك ….!
وأكدوا جميعا ً أن بناء الدولة الحديثة لا يقوم إلا من خلال الحريات العامة والخاصة , ومن خلال استقلال القضاء , واحترام الدستور بكلّ أبوابه , وفصوله , ومواده , حتى تكون بذلك دولة المؤسسات والقانون , دولة الكل الاجتماعي دولة كلّ المواطنين … !
وماذا بعد يمكن أن يقدّموا من وراء القضبان أكثر من هذه الرؤية الواضحة في قراءة الواقع , وامتلاك الوعي المطابق لحاجات التغيير …!؟ بل وماذا بعد يمكن أن نقدم نحن من خارج القضبان أكثر من ذلك …؟!
وبعدما سمعتُ ما سمعت من مداخلاتهم الواثقة , والشفافة , والشجاعة , صفقتُ لهم بكلّ جوارحي وأحاسيسي , وبكيتُ مرة أخرى , لكن هذه المرة على حالي .. وتحولت الحسرة التي شعرتُ بها عليهم عند رؤيتهم وراء القضبان , إلى حسرة علينا نحن خارج القضبان , لأنني شعرت أن مفهوم الوطن بكلّ مقوماته , وحقوقه , وواجباته , واضح لديهم , وإن مفهوم المواطنة عند كلّ فرد منهم , قد وصل إلى درجة المنطق الداخلي العملي واليومي , ممتلكين رؤوسهم الوطنية الديمقراطية على أنهم جزء مهم من الحامل الاجتماعي والسياسي في عملية التغيير الوطني الديمقراطي في سوريا , التغيير السلمي , المدني , المتدرّج , القائم على الحوار والاعتراف بالآخر ..
نعم لقد تجاوزوا ثقافة الخوف التي زرعها الاستبداد في نفوس الناس التي ولدت عدم الثقة بالنفس وبالآخر , وتجاوزوا ثقافة التخوين والاتهامات الجاهزة , إلى ثقافة الحياة الحرة الكريمة المنفتحة على الجميع , ثقافة التقدّم المتجدد , واحترام الرأي الآخر , ثقافة المستقبل …
حقا ً , إنهم الوطن المعتقل , لأنهم يمثلون الوطن من وراء القضبان … !!!
السويداء في 29 / 9 / 2008

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى