أوباما والتغيير: عودة إلى سبعينات كارتر أو تسعينات كلينتون؟
حسن منيمنة
على رغم أن المعالم لفعلية للسياسات التي سوف يعتمدها الرئيس باراك أوباما لم تتضح بالكامل، فإن ما استكمل تشكله منها ينصب في اتجاه «تسوية تاريخية» جديدة كان ولا يزال يطمح إليها العديد من التقدميين في الحزب الديموقراطي. وإذا كانت الظروف الاقتصادية الحالية للمجتمع الأميركي، المرهق مالياً وعقارياً والمهدد بالبطالة، تشكل أرضية مناسبة لتجاوب أفضل مع هذا الطموح التقدمي، فإن التجربة السابقة للحزب الديموقراطي في هذا المضمار، خلال عهدي الرئيسين جيمي كارتر وبيل كلينتون، لم تحقق النتائج المرجوة منها. فهل تكون فرص النجاح لباراك أوباما أفضل؟
يقوم الاختلاف المبدئي بين التوجه المحافظ الذي يهيمن على الحزب الجمهوري والتوجه التقدمي ذي النفوذ في الحزب الديموقراطي في الولايات المتحدة على طبيعة العلاقة بين الدولة والمجتمع. فالدولة، من وجهة النظر المحافظة تكاد أن تكون شراً لا بد منه، والحاجة إليها أمنية أولاً ولتوفير الرقابة والتوجيه التنظيمي والخدمات الأساسية التي يفوضها بها المجتمع. على أن الدولة، من وجهة نظر محافظة تبقي ميّالة حكماً إلى التضخم والتباطؤ الإداري والهدر، ما لم يفرض عليها المجتمع بدوره رقابته التي تحد من تعاظم حجمها ومضاعفة استهلاكها لانتاجه.
أما التوجه التقدمي، فيرى أن المجتمع نفسه ينطوي على تفاوت مجحف في القدرة على التأثير بين أقلية متمكنة اقتصادياً وأكثرية أقل تمكناً، فدور الدولة هو بالتالي تحقيق الإنصاف من خلال إعادة توزيع للثروات، عبر النظام الضريبي، سعياً لعدالة اجتماعية يستفيد منها الجميع.
وإذا كانت الولايات المتحدة، تاريخياً وثقافياً قد اتسمت بقناعات لدى الفرد فيها بأن فرص النجاح المالي والاجتماعي متوفرة ومتاحة، ما يحبّذ التوجه المحافظ، فإن المواطن الأميركي في أزمنة الأزمات غالباً ما طالب دعاة التوجه التقدمي بأن يضعوا أفكارهم موضع التنفيذ. وأبرز الحلقات في هذه المطالبة المتكررة هي «الصفقة الجديدة» (نيو ديل) التي حققها الرئيس الأسبق فرانكلين روزفلت في الثلاثينات من العقد الماضي، في خضم أخطر أزمة اقتصادية عاشتها الولايات المتحدة والعالم، والتي أرسى خلالها نظام الضمان الاجتماعي القائم حالياً.
وتبقى الإصلاحات التي حققها روزفلت عماد مؤسسات العناية التي تتولاها الدولة في الولايات المتحدة، وإن شهد المجتمع الأميركي توسيعاً ملحوظاً في ما تشمله هذه العناية في الستينات، في عهدي الرئيسين الديموقراطيين جون كينيدي وليندون جونسون، ليضم إلى المسنين الفئات المغبونة اجتماعياً وتاريخياً. وفي حين أن هذ التوسيع لم يحقق كامل الرؤية التقدمية لدولة الرعاية، فإن الاعتراض المحافظ كان مدوياً في إشاراته إلى التخلف التلقائي والمحتوم لهذه المؤسسات المستحدثة عن تحقيق الأهداف المناطة بها، بل جنوحها إلى نتائج عكسية، وعن إلزامها المجتمع رغم ذلك بكلفة مرهقة تسنتزف طاقاته دون جدوى فعلية. وقد تمكن التوجه المحافظ بالفعل من اعتراض المحاولات التقدمية للمزيد من التوسيع في العقود الماضية، ونجح في مواجهاته مع خصمه التقدمي من موقع المعارضة في عهد الرئيس كارتر في السبعينات وعهد الرئيس كلينتون في التسعينات، وهو اليوم يواجه مجدداً مشروعاً تقدمياً مطروحاً باندفاع حازم. ويمكن ربط النجاح المحافظ في كل من المرحلتين السابقتين بالأحوال الاقتصادية والاجتماعية: فعهد الرئيس كارتر، رغم الإصلاحات المتراكمة التي تمكنت حكومته من إقرارها، بقي مرهقاً بالتضخم والركود، فجاء تصويت الناخبين لينهي المسعى التقدمي. أما الرئيس كلينتون، والذي كان قد بلغ سدة الرئاسة على أساس توجه وسطي، فإن محاولته دفع الرؤية التقدمية قدماً في مطلع عهده جابهها الناخب الأميركي بميل قاطع نحو التوجه المحافظ في الانتخابات النصفية، ما دفع كلينتون إلى تعديل مساره والعودة إلى الوسطية.
وإذا كان التجاوب العام مع المشروع التقدمي مرتبطا بدرجة القلق الذي يعيشه المواط“`ن الأميركي إزاء الحالة الاقتصادية، فإن الأوضاع الحالية قد تكون ملائمة لرغبة الرئيس أوباما بتحقيق التسوية التاريخية المتممة للإنجازات التقدمية لا سيما منها في المجالين الصحي والتعليمي. ونشاط فريق عمل أوباما يسير باتجاه استكمال الخطة القاضية بتعميم التأمين الصحي على كافة المواطنين في إطار مسؤولية حكومية عن هذا القطاع. وفي مقابل القراءة التقدمية التي تعتبر أن الفرصة قد سنحت لتحقيق الرؤية، فإن الاعتراض المحافظ هو أن مسعى أوباما يتجاوز وبفداحة المهمة التي أناطتها به الانتخابات الأخيرة. فموضوع هذه الانتخابات كان معالجة الأزمة الاقتصادية والمالية المستفحلة، وهي معالجة تقتضي لتوّها استدانة واسعة النطاق. إلا أن الرئيس أوباما، من وجهة النظر المحافظة، يقرن هذه الاستدانة المرهقة والتي لا بد منها بأخرى غير متوجبة إنما منسجمة مع قتاعاته العقائدية، من أجل تمرير المشروع التقدمي، في زمن لا الولايات المتحدة مستعدة فيه لهذا المشروع ولا هي قادرة على تحمل أعبائه الضريبية.
وبالفعل، فإن السؤال الذي لم تجب عنه أوساط الرئيس أوباما بالشكل المقنع هو عن كيفية تسديدها للتكاليف المترتبة عن البرامج التقدمية الواسعة النطاق التي يقترحها الرئيس. فالإشارات الشعبوية الطابع إلى مضاعفة العبء الضريبي على الأثرياء غير كافية حسابياً، بل كافة الصيغ التي تقارب الواقعية في هذا الشأن تتضمن زيادات كبيرة في الضرائب وفي الدين العام، رغم التأكيد الخطابي للرئيس أوباما بأن ذلك لن يكون.
ولا شك أن باراك أوباما لا يزال يحظى بتأييد واسع لدى الجمهور الأميركي، ولكن هذا التأييد لا بد أن يُستنزف ما لم يصاحبه الإنجاز المقنع، وبدايات أوباما قد انطوت لتوّها على الكثير من التخبط. فالخياران المتاحان للرئيس الجديد، من وجهة نظر محافظة، هما إما التعنت العقائدي الموصل إلى الفشل، كما حدث لكارتر، أو الواقعية السياسية الجانحة إلى الوسطية، والتي اعتمدها كلينتون. أما أوباما نفسه، فلا شك أنه يرى القدوة لا في كارتر أو كلينتون، بل في سلفه الأسبق روزفلت صاحب «الصفقة الجديدة».
الحياة