غباء أميركي وإسرائيلي
عبد الستار قاسم
كثيرا ما يتررد في وسائل الإعلام العربية، وعلى أقلام كتاب عرب كثيرين، أن الأميركيين والإسرائيليين وأهل الغرب عموما أذكياء جدا وحساباتهم دقيقة، وأنهم لا يقدمون على أعمالهم إلا بعد دراسات علمية وافية.
وأحيانا يحاطون بهالة من النموذجية يظن معها المرء أن العقل العلمي قد وجد في الغرب وإسرائيل، وأن الأمم الأخرى بخاصة العرب يصغرون عقليا أمام هؤلاء الجبابرة. وقد انسحب هذا الأمر على قدراتهم الاستخبارية وجمع المعلومات عن الغير حتى أصبح يخيل أنهم يعرفون ماذا يهمس المرء لقرينه.
لا جدل بأن أهل الغرب وإسرائيل قد طوروا العقل العلمي وانتهجوا المنهجية العلمية والتفكير الحر كأفضل السبل للوصول إلى الحقيقة، ولا غرابة أنهم قفزوا قفزات علمية وتقنية هائلة، ووسعوا نفوذهم على المستوى العالمي وحققوا الكثير من المصالح.
هذا فوق النكران، إنما لا يعني أن تمنياتهم أو أوهامهم لا تطغى على عقولهم أحيانا، فيقومون بأعمال تأتي عليهم بعكس ما يشتهون. أدلل على هذا أدناه من بعض التجارب في المنطقة العربية الإسلامية.
على المستوى العربي
أهم ما يميز سياسة الولايات المتحدة وإسرائيل فيما يخص العرب هو الحرص الشديد على بقاء الاستقرار السياسي لأن أغلب الأنظمة الحاكمة لا تملك استقلالا سياسيا ولا تسعى إلى تحقيقه.
أغلب الأنظمة إما منصّبة من الاستعمار الغربي وبرعاية أميركية الآن، أو محمية عسكريا من الأميركيين أو ممولة من أهل الغرب عموما. فقط أميركا وإسرائيل تسعيان بصورة واضحة إلى صناعة حالة عدم الاستقرار في قلة من الدول العربية تتمرد جزئيا على سياستيهما، وتحاول بصورة متواضعة تغيير الأوضاع في المنطقة. في هذا الشأن، من الممكن رسم خطوط عريضة لسياستيهما تؤدي حتما إلى تحويل آمالهما إلى تمنيات وهي:
أ- دعم الاستبداد: تدرك كل من أميركا وإسرائيل أن الأنظمة العربية استبدادية، وهما تشهّران بهذه الأنظمة في مختلف المحافل الدولية، ودائما يردد الساسة الغربيون وإعلامهم بأن إسرائيل هي الدولة الديمقراطية الوحيدة في المنطقة.
الدولتان تعملان عن سابق إصرار وتعمد على الإبقاء على الاستبداد العربي لأنه وحده الذي يطوع الأمة العربية ومقدراتها لهما. تتبادل الأنظمة العربية مع أميركا وإسرائيل المصالح: الأنظمة تريد البقاء في السلطة، وإسرائيل وأميركا تريدان السيطرة ونهب الثروات وإبقاء العرب ضعفاء متخلفين. في نفس الوقت يخدم التشهير بالأنظمة تلميع صورة إسرائيل على المستوى الشعبي الغربي، وإبقاء الأنظمة العربية تحت وطأة الشعور بالدونية.
هذا بحد ذاته يؤلب الشارع العربي ضد الغرب عموما وضد أميركا وإسرائيل. تتحدث الدول التي تسمي نفسها متحضرة عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، ولكنها تدعم الاستبداد والتخلف والضعف الذي تجسده الأنظمة. هي تدعو إلى انتخابات حرة ونزيهة، لكنها تسكت عن تزوير الانتخابات في عدد من الدول العربية، وتصمت إزاء قوانين انتخابية متخلفة تهدف فقط إلى ضمان فوز جماعة النظام السياسي في الانتخابات، وترفض نتائج الانتخابات إذا لم تكن وفق المزاج مثلما فعلت في الجزائر وفلسطين.
الوعي بهذا الأمر يتراكم، وفي النهاية ستدفع الأنظمة العربية الثمن ومعها من يحالفها بالأخص أميركا وإسرائيل.
ب- تحقير الأنظمة: ربما يكون العرب أقل الناس احتراما في العالم، وأكثرهم عرضة للإهانات والهزائم. السبب هو أن أهل الغرب يصرون على إبقاء الأنظمة العربية ضعيفة حتى لا تفكر يوما بالحرية أو الثأر لشرف أهين أو أرض استبيحت أو كرامة انتهكت, ولا يتوانون في ضرب أي نظام عربي يجمع القوة ويبدأ يبشر بخلاص الأمة من نير المستعمرين.
إريتريا انتهكت حرمة الأرض العربية في اليمن، وكذلك فعلت إثيوبيا في الصومال. أما أميركا فدفعت بقواتها إلى لبنان عامي 1958 و1983، وضربت ليبيا والسودان ومجموعات على أرض اليمن، واحتلت العراق، وأنزلت قواتها في نجد والدهناء والكويت وقطر والإمارات والأردن ومصر، إلخ. هذا فضلا عن الحصار الذي يتم ضربه على دول عربية بين الحين والآخر.
هل مثل هذه الأنظمة قادرة في النهاية على الاستمرار في خدمة إسرائيل وأميركا بدون عراقيل؟ أغلب الأنظمة العربية مرتاحة للخدمات التي تقدمها، لكنها في كثير من الأحيان تجد نفسها في وضع صعب لأنها تواجه وعيا عربيا متزايدا.
صحيح أن الوعي العملي لم يتطور حتى الآن ليشكل خطورة على الأنظمة، لكن الوعي النظري بحقيقة الأنظمة يزداد يوما بعد يوم، وإسرائيل وأميركا تساعدان في ذلك عبر سياستيهما اللتين لا تعيران انتباها لأهمية الإبقاء على بعض الكرامة لمن يقدمون لهم الخدمات.
مأزق القضية الفلسطينية
كانت الأنظمة العربية في السابق لا تكترث كثيرا للتدهور الذي يمس القضية الفلسطينية، لكنها بدأت تشعر بسخونة الوضع بعدما تطورت المقاومة العربية وأخذت تحقق إنجازات، أو على الأقل تصمد في وجه إسرائيل.
حاولت هذه الأنظمة إنجاز شيء للفلسطينيين عبر السنوات وفشلت فشلا ذريعا من ناحية الحقوق ومن ناحية إيقاف إجراءات إسرائيل في تهويد الأرض المحتلة عام 1967. قدمت القمة عام 2002 مبادرة هزيلة متناسبة تماما مع هزال الأنظمة، لكن إسرائيل رفضت مجرد مناقشتها.
قدمت الأنظمة العربية تنازلات كبيرة جدا فيما يخص القضية، ومنها من اعترف بإسرائيل، ومنها من طبع العلاقات معها، ورغم ذلك رفضت إسرائيل وأميركا تقديم أي شيء لهذه الأنظمة من شأنه أن يبقي على بعض ماء الوجه لديها.
وصل الشارع العربي في مراحل معينة إلى هبوط حاد في المعنويات بحيث اختفت الأصوات المنادية بعزة العرب، وكان بإمكان الأنظمة تمرير أي تسوية هزيلة بالنسبة للقضية، لكن إسرائيل وأميركا أصرتا على موقفهما الذي يعطي الشعب الفلسطيني فقط لقمة خبز مقابل الحقوق الوطنية.
على المستوى الفلسطيني
كان أمام إسرائيل وأميركا فرصة تسوية القضية الفلسطينية بعد عام 1982، لكنهما فضلتا مسح القضية على التسوية. قدم عرفات تنازلات في ثمانينيات القرن الماضي مثل إعلان نبذ الإرهاب والاعتراف بقراري مجلس الأمن 242 و338، لكنه لم يحصل على أي شيء في المقابل سوى جلوس سفير أميركا في تونس مع ممثل منظمة التحرير.
تم توقيع اتفاق أوسلو، لكن أميركا وإسرائيل لم تقدما إلا رواتب مقابل قيام الفلسطينيين بالمهام الأمنية لصالح الأمن الإسرائيلي. استمرت مصادرة الأراضي والاستيطان والاعتقال والتعذيب والقتل دون أدنى اكتراث بإحراج شركائهم الفلسطينيين أمام شعبهم.
لم تحاول إسرائيل وأميركا بناء صورة جيدة لشركائهما، وارتاحت الدولتان لعملية الفساد والانفلات الأمني التي سادت الضفة الغربية وغزة، وكأنهما راهنتا على أن مطلب الشعب الفلسطيني سيصبح مستقبلا البحث عن حل لمشاكلهم لدى إسرائيل فقط.
كانت تدرك إسرائيل أن الاتفاق معها خاصة فيما يتعلق بالتنسيق الأمني لا يمكن أن ينفذه فلسطينيون محترمون، وإنما فلسطينيون ساقطون جاهزون لبيع أنفسهم مقابل الغنائم والمتع. ولهذا مدّت للسلطة الفلسطينية حبل الجبروت على الشعب لكي تنتفي الثقة الداخلية الفلسطينية، وتتحول إلى ثقة بالمحتل والمستعمر.
تهيأت لإسرائيل فرصة تصفية القضية الفلسطينية، وكان بإمكانها أن تقدم شيئا للسلطة الفلسطينية لكي تجادل بها شعبها أو تسكت معارضيها بعض الشيء، لكنها فضلت أن تتعامل مع عراة غير قادرين على ستر أي جزء من عوراتهم. إسرائيل لم تكن تبحث عن استسلام جزئي، وإنما أرادت استسلاما مع انبطاح مهين.
على المستوى العراقي
شكل صدام حسين هاجسا كبيرا لإسرائيل وأميركا، وأصرت الدولتان على التخلص منه. أما الآن فتصرخ الدولتان ومعهما دول عربية كثيرة من النفوذ الإيراني المتزايد في العراق. حاصرتا العراق ومنعتا عنه الغذاء والدواء وقامتا بقصف منشآته وفي النهاية جيشتا الجيوش لخلع صدام. ولم تكن النتيجة ورود استقبال لجنود أميركا وإنما رصاص في الصدور.
على المستوى الإسلامي
فقدت أميركا توازنها عقب تفجيرات 11 سبتمبر/أيلول2001، وسارعت بحملة عنيفة ضد المسلمين بصورة عامة. لم تكن أميركا معجبة بالمسلمين قبل ذلك، وكانت تتعمد وإسرائيل الإساءة للإسلام عبر بعض تصرفات بعض المتدينين وبعض النصوص التي تستهوي تفسيرات ذات طابع تحريضي.
لم تحسب أميركا والجوقة التي صفقت لها بأنها تعادي أكثر من مليار مسلم على الرغم من تأييد بعض المسلمين لها. لقد فضلت استعداء الناس على التريث والتعقل والتفكير بهدوء. هذا المليار كان كفيلا بفرز آلاف من المستفزين الذين يرون في الجهاد ضد أميركا واجبا دينيا.
شنت الحرب على ما يسمى الإرهاب بتشجيع إسرائيلي متواصل، وساقت عددا من الدول الإسلامية لتأييدها وعلى رأسها باكستان. كان أمام أميركا أن تتبع أساليب عدة غير التجييش والحرب، لكنها ظنت أن الشعوب عبارة عن قطعان من المواشي الجبانة وأن حروبها لن تطول.
حصاد خاسر
لم تكسب أميركا حروبها ضد العراق وأفغانستان، وفتحت على نفسها جبهة أخرى في باكستان. طالبان موجودة، وهي تزداد قوة، والقاعدة ما زالت تعمل وقيادتها متماسكة. أما إسرائيل فأفشلت أصدقاءها من العرب وشركاءها من الفلسطينيين، وكان عليها أن تخوض حربين فاشلتين ضد المقاومتين اللبنانية والفلسطينية. المقاومة تكسب زخما وتأييدا على الساحة العربية وهي قوية وصلبة وتزداد قوة، أما الأنظمة العربية فتشعر بالأرض تهتز من تحتها لا تدري كيف تتدبر أمورها.
ميزان القوى التقليدي في المنطقة لم يعد قائما، واستطاعت إيران أن تهزه بقوة عبر تقدمها العلمي والتقني وعبر دعم المقاومة. لم تعد إسرائيل قادرة على القيام بما كانت تقوم به في السابق، ولا الولايات المتحدة.
زمجرت أميركا ضد إيران ولم تفلح، وإسرائيل توعدت المقاومة في غزة، لكنها فشلت في كسر ظهرها. أدرك بعض أهل الغرب التحول في معادلة القوة، فأخذوا يتحدثون عن ضرورة التحدث مع حزب الله وعن أهمية إقامة حكومة وحدة فلسطينية. حتى إن بعضهم أخذ يتحدث عن ضرورة الحديث مع من سموه الجناح المعتدل من طالبان، وضرورة إشراك طهران في محادثات أمنية حول أفغانستان.
ماذا يقول خبراء الغرب بكيفية تطور الأمور في المنطقة العربية الإسلامية؟ واضح على الأقل أن العديد من السياسيين الغربيين خاصة الأميركيين والإسرائيليين يفكرون بقرونهم وعضلاتهم لا بعقولهم.
في الأيام الغابرة، كان العرب والمسلمون ضعفاء ومصرين على الضعف، أما الآن فقد نهض بعض العرب والمسلمين، وأظن أن إعادة التفكير خاصة من الجانب الأميركي قد أصبحت ملحة. أما علماؤهم فقلما كلفوا أنفسهم عناء الارتكاز على معلومات من مصادرها الشعبية، وبقوا أسرى لوسائل الإعلام ولمعلومات يقدمها بعض التحرريين (الليبراليين) من أبناء المنطقة الذين يستهويهم المال على حساب الحق.
ربما لم يعد أمام إسرائيل مجال لتدارك الأمر. كان بإمكان إسرائيل إطالة عمرها عبر التجاوب مع الأنظمة العربية، لكن عليها أن تواجه الآن عربا من نوع مختلف متميز بعقيدة صلبة وإرادة قوية ورافض لوجودها.
لم يعد بإمكان قادة العرب تمرير ما كانوا قادرين على تمريره من تنازلات في السابق، وهم الآن منهمكون في البحث عن أساليب ووسائل تجنبهم الانهيار أمام زحف إستراتيجي جديد يجتاح المنطقة.
كان بالإمكان تقوية قادة عرب وفلسطينيين عبر إعطائهم بعض الشيء ليصبحوا به أكثر جرأة على قمع شعوبهم، لكن الحكمة لا تأتي الذين يطغون في الأرض ويفسدون فيها.
كاتب فلسطيني
الجزيرة نت