مصالحة لـ”إدارة الخلافات”
عبد الوهاب بدرخان
ليس مهماً كيف حصلت المصالحة بين أضلاع المثلث العربي الاستراتيجي، المهم أنها حصلت، أخيراً، والأهم أنها اتخذت هذه المرة طابعاً مختلفاً، لم تكن مجرد “تبويس لحى”، كما يقال، بدليل أن تبويساً لم يحصل، وإنما هي تمت كتقاطع مصالح والتقاء واقتناعات، أي أن هناك مرحلة مرت وأثبت فيها كل طرف، أو حاول إثبات، وجهة نظره وفقاً لما اعتقده صواباً، أو حتى أمراً واقعاً. وبديهي أن أياً منهما لم يستطع أن يحرز أكثر مما كان ممكناً ومتاحاً، فلا مبالغة، ولا مجافاة للإنصاف في القول إن اجتهادات “الاعتدال” أو “الممانعة” لم تستطع أن تغير أي شيء جوهري في أحوال العرب.
كانت مرحلة مجنونة، عشوائية وقاسية، لم تنته مفاعيلها بعد، على رغم المصالحة، والسؤال الذي طرح خلالها لا يزال ماثلا: هل أن العرب قادرون على تولي شؤونهم وإدارة قضاياهم بكفاءة وفاعلية، مع الاقرار المسبق بأن هناك تدخلات خارجية، كانت وستكون وستستمر؟ أما السؤال الآخر فهو: هل أن التضامن والالتزام العربيين، حتى في الحد الأدنى، لا يزالان يمثلان ضرورة لازمة ويضعان فارقاً معتبراً في مواجهة الأزمات والتدخلات والتحديات كافة؟
لا شك أن حالة الاستقطاب الحاد التي شهدها العالم العربي في الأعوام الأخيرة لم تكن مسبوقة، فهي أشاعت واقعاً سقيماً ذكّر الجميع بفترات غابرة، كأن العرب عادوا صاغرين راغبين إلى عصر الدويلات، عصر ما قبل الدولة، حين كان التناحر أسلوباً أوحد للبقاء والاستمرار. كانت مرحلة أريد فيها تعطيل العقول نهايئاً، ولم يعد فيها أي تمييز بين الخطأ والصواب، بل ضاعت فيها الملامح والأحجام، واختلطت فيها الانتصارات بالهزائم.
كانت هناك حالة عجز وشلل، هل انتهت؟ كانت هناك أمة تعاني اختراقات واستصغارات لقدراتها، فهل استعادت عافيتها؟ لا، للأسف، المطلوب أكثر من مصالحة، المطلوب إعادة تعريف للمفاهيم، وإعادة تحديد للاستراتيجية، وإعادة توضيح للسياسات، وإعادة الاعتبار للشأن العربي. المهمة واسعة وصعبة ولا يستطيعها أي طرف وحده، خصوصاً إذا كان بالغ الانشغال بشؤونه الخاصة وغير واثق بأنه قادر على تدبيرها. أما إذا كانت الهموم الداخلية والمحلية أصبحت تفوق الطاقات وتتطلب كل الجهد والتفكير، فما الداعي إذاً لادعاء الاهتمام بالشأن العربي، فليتدبر كلٌ أموره وليتوقف عن التخاصم مع الآخرين وعلى تحميلهم أوزار أخطائه وعثراته. وفي مثل هذه الحال، لن تكون خلافات ولا من يختلفون.
الكلام عن قضية فلسطين ومصيرها، عن جرائم إسرائيل ووحشيتها، عن تدخلات إيران والولايات المتحدة، عن جرح العراق، عن فتن لبنان، وعن مآسي دارفور والسودان… كل ذلك صحيح مئة في المئة. لكن مسيرة ستين عاماً بين حرب وهزائم، ولا حرب ولا سلم، وشبه حرب وشبه سلام، أودى بالعرب إلى وضع كاريكاتوري. لديهم قضية يقولون إنها “مركزية”، وهي كذلك فعلا، فلا عرفوا كيف يحسمونها حرباً ولا يعرفون كيف ينهونها سلماً. ولديهم جامعة عربية ينعونها في كل يوم، ولا يجدون سواها عنواناً، ولديهم “مؤسسة” اسمها القمة العربية غالباً ما يعطلونها بخلافاتهم وانقساماتهم، ودائماً يلتئمون تحت خيمتها ويتخذون قرارات يتفننون في عدم الالتزام بها.
الخلافات ليست المشكلة ولا هي مكمن الخطر، المشكلة في انقطاع الحوار، الخلافات أصبحت وسيلة للهروب من مخاطر أخرى، ففي غياب خلافات الدول، لابد أن تظهر الخلافات والصعوبات الداخلية. وحتى لو بات مسلماً بأن الخلاف من الطبائع، فإنه يعني أفكاراً متعارضة، ونقاشاً بين خيارات، ورضوخاً في النهاية للرأي الأكثري. يلتقي الأوروبيون أحياناً وبينهم أشد الخلافات لكنهم يعرفون أنهم تحت سقف واحد، وأنهم ملزمون إنتهاج موقف واحد. العرب يبدأون بنسيان السقف الواحد، ولا يلبثون أن ينسفوه، وآخر ما توصلوا إليه اعترافهم بأن خلافاتهم جدية وعميقة، لذلك يبدو أنهم في صدد “مصالحة عقلانية” يأملون بأن تنجح في “إدارة الخلافات”.
جريدة الاتحاد