الانتخابات .. بما هي مباراة كرة قدم
فواز طرابلسي
من يمعن النظر في المعركة الانتخابية يتبادر الى ذهنه مشهد مباراة من مباريات كرة القدم. نقترب من اليوم المنتظر، فترتفع الرايات واللافتات والألوان والشعارات المميزة لكل فريق. وتتصاعد لهجة الهجمات والتحديات بين «كابتن» هذا الفريق او مدربه و«كابتن» ومدرب الفريق الآخر. ويتحشّد الأنصار الملتهبون حماسة رافعين من وتيرة التحدي لأنصار الفريق الآخر. وقد لا يخلو الأمر من بعض «الحوادث الأمنية». وليس التشبيه بمباريات كرة القدم بالمجاني، لما هو معروف عن هذه الرياضة من استثارة للغرائز الجمعية واستدعاء للعنف ما أدى الى إخلاء الملاعب اللبنانية من المتفرجين بعد اعمال عنف متكررة بين أنصار الفريقين المتباريين بل داخل الفريق الواحد.
ولما كان الأنصار أكثر تطرّفاً في العادة من الفريق نفسه أو من إدارة النادي وأصحابه، وجب على هؤلاء «تهدئة» جمهورهم. ولكن، عادة ما يغيب عن بال الجمهور دخول أصحاب الناديين في مفاوضات بينهم لترتيب النتائج سلفاً. فتسفر المباراة عن مفاجآت لم تكن في الحسبان. كأن يفوز فريق لم يكن يتوقع فوزه. أو ان يتعادل الفريقان عندما كان المتوقع ان يفوز أحدهما.
بانتظار معرفة ما الذي قرره اصحاب ناديي 8 و14 آذار ـ اللذين يشير اليهما الرئيس بري بـ«سين وسين» ـ نستطيع ان نمثّل اننا أمام معركة انتخابية حقيقية. فنسجّل ارتفاع وتيرة التصعيد لدى كل من النائب ميشال عون والنائب سعد الحريري، الأول شاتماً الفساد ومنافسيه المتنيّين في آن، والثاني مكرراً رفضه الثلث المعطّل. ويلفتنا الاسلوب المميز الذي يهيئ به النائب وليد جنبلاط للخروج من «النادي» كلياً، أو قل للاستقالة من دور الهدّاف الرئيسي للفريق، راجماً حلفاءه النيوليبراليين بجلمود التأميم وبئس المصير. وقد نتوقف مطمئنين بعض الشيء أمام اللفتة الديالكتيكية عند السيد حسن نصر الله يطمئن جمهوره بأن خسارة المعارضة في الانتخابات لن تشكل… خسارة. لكننا نتساءل عن جدوى خوض معارك أيار الماضي الدموية من قبل طرف يبدو انه لا يريد ان ينتصر بل لا يريد ان يحكم اصلاً.
ومن قبيل إقناع الذات بأننا في معركة انتخابية، نستطيع ان نلقي نظرة على البرنامج الانتخابي لقوى 14 آذار. لم يتنازل الذين صاغوا البيان، وهم في الحكم منذ سنوات، وبعضهم منذ أكثر من عقد ونصف، ليقدموا لناخبيهم، والمواطنين عموماً، كشف حساب بما أنجزوه وما لم يستطيعوا انجازه في الحكم طوال تلك الفترة. ولو من قبيل تشجيعهم على التصويت لهم. فما جدوى البرنامج إذاً، اللهم الا بما هو بديل عن ضائع. والضائع هو ان شعارات «المعركة» إما انها تحققت ـ المحكمة والاحتفاظ بالسلاح ناهيك عن الثلث المعطّل ـ وإما ان ضرورات المفاوضات الجارية بين إدارتي «الناديين» تقتضي «التهدئة». وإلا كيف لنا ان نفهم ان برنامج العام الحالي لقوى 14 آذار يدعو الى «المصالحة الوطنية» فيما برنامج العام الماضي يقسّم المنطقة والعالم بين فسطاطين واللبنانيين بين ثقافتين: ثقافة الحياة والانفتاح في خندق وثقافة العنف والعزل في خندق آخر. وهكذا، في عالم ما بعد الحداثة المفوت، تتكوّن الثقافات ـ التي تأخذ مئات بل آلاف السنين لكي تتكون ـ وتنحل الثقافات على وقع الأدلجة المدعية نهاية الاديولوجيات!
كنا نظن ان «المعارضة» السابقة تتصرف وهي في الحكم كأنها لا تزال «معارضة» ـ مع غموض متزايد يكتنف ما تعارضه اصلاً ـ فإذا نحن أمام «أكثرية» حاكمة تتصرف هي أيضاً على اعتبار انها «معارضة». وهذا في وضع يتنافس الفريقان على التسبيح بحمد مشروع بناء الدولة، القوية خصوصاً.
البرنامج الآخر الذي يسترعي الانتباه هو وثيقة «الكنائس المسيحية اللبنانية» (الكاثوليكية والأرثوذكسية والعربية اللغة والأرمنية) عن المسيحيين والسياسة. تلتقي الوثيقة مع برنامج 14 آذار في الدعوة الى «دولة مدنية ديموقراطية» والحديث عن التوفيق بين المواطنة والتنوّع»، والمقصود التنوّع الديني والمذهبي. على ان اللافت في الوثيقة الكنسية هو دعوتها الى «التمييز حتى حدود الفصل» ليس فقط بين «الدين والدولة» بل وأيضاً بين الكنيسة، أي المؤسسات الدينية، والدولة.
المطلب مفاجئ. ومنعاً لأي تأويل مغلوط، نسأل: هل لنا ان نفهم من هذا النص استعداد الكنائس المسيحية لدعم سن التشريع المدني للأحوال الشخصية (المؤجل منذ عام 1936) تمهيداً لإلغاء قوانين ومحاكم الأحوال الشخصية المذهبية والاستعاضة عنها بقانون مدني موحد؟
أما التوفيق بين المواطنة والتنوع المذهبي ـ في نظام سياسي بالكاد يعترف بالمواطن ـ فله حل دستوري هو الذي وعد الرئيس ميشال سليمان ـ من على منبر مجلس الشيوخ الفرنسي ـ بوضعه على جدول الأعمال. والمقصود تشكيل الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية واعتماد نظام تمثيل انتخابي من مجلسين: مجلس للنواب خارج القيد الطائفي ومجلس شيوخ لتمثيل الطوائف بما هي طوائف.
يجب ان يسجَّل للرئيس سليمان انه أول رئيس جمهورية بعد الطائف يعترف بأنه يرأس نظاماً مخالفاً للدستور، ويعلن استعداده للعمل على تطبيق الدستور بكامل بنوده. بانتظار ما سوف يسفر عنه دأب الرئيس، فالهيئة التشريعية مهتمة الآن لا بتطبيق الدستور وإنما بمشروعين لتعديله.
كل الأمل بأن يحوز المشروع الأول تأييد أكثرية النواب وهو مشروع خفض سن الاقتراع الى 18 سنة حتى لو تأجل تنفيذه لهذه الانتخابات.
أما مشروع التعديل الثاني، فتقدم به نواب 14 آذار ويقضي باشتراط إجماع النواب لتعديل النص الدستوري المتعلّق بمنع التوطين.
مشروع التعديل هذا بدعة، حتى لا نقول فرية، دستورية غير مسبوقة. إذا ما اقرّ سوف يمكن تعديل الدستور بكافة مواده بثلثي أصوات النواب إلا مادة واحدة من مواده تتطلّب الإجماع. وضعت «الأكثرية» مشروع التعديل في برنامجها تحت عنوان «الالتزام الصارم بمنع توطين الأخوة الفلسطينيين على أرض لبنان». والجميل في العبارة هو مفردة «الأخوة». ومعروف ان أرقى تعبير عن الحب الأخوي هو طرد «الأخ» من البيت العائلي وحرمانه الإقامة فيه ولو من قبيل الضيافة والإقامة المؤقتة.
أخوّة أخرى عبّر عنها إضراب المعلمين. انعقدت فيه اواصر تضامن بين لبنانيين مشغولين بلقمة العيش وغلاء المعيشة وتصحيح الأجور والتعليم والصحة وفرص العمل والحد من غلاء المعيشة وتأمين المستقبل لهم ولأولادهم. شبك الواحد يده بيد الثاني، نساءً ورجالاً، خلال تظاهرتهم الأخيرة غير آبه بأي زقاق أو محلة أو عشيرة أو قبيلة أو مذهب أو منطقة أو طائفة أو دين أو معسكر سياسي ينتمي جاره أو جارته إليه. ولا يبدو أيضاً ان الذين يتولون تربية أطفالنا كانوا منشغلين كثيراً بمن سوف يربح «الماتش».
إنهم خميرة بديل للفريقين والناديين والمدرّبين معاً. ويخطئ من يظنهم يمثلون الحَكَم في المباراة.
إنهم يلعبون في ملعب آخر.
السفير