السفارة … والنيات
جورج علم
رفع المستشار رامي مرتضى أمس، العلم اللبناني إيذانا بفتح السفارة في دمشق، ودخل التاريخ كأول مسؤول لبناني يدشّن العلاقات الدبلوماسيّة اللبنانية ـ السوريّة، ويخطو الخطوة الأولى في مسافة ألوف الأميال.
وحاول وزير الخارجيّة وليد المعلم أن يبرر غياب التمثيل الرسمي السوري عن هذه المناسبة «الاستثنائيّة»، وجاء كلامه وتبريره للغياب، فعل تأكيد وإصرار متعمّد على الغياب، ليبلغ الجانب اللبناني الحرص على المعاملة بالمثل و«كما تراني يا جميل أراك»، وإنه عندما يرفع العلم السوري في بيروت إيذانا بفتح مكاتب السفارة لدى الجمهورية اللبنانيّة في ظلّ غياب لبنان الرسمي، وعدم المشاركة بأي وفد في تلك المناسبة، فإنه من المتوقع ألا يكون هناك أي وفد سوري رسمي يشارك اللبنانيين المناسبة في افتتاح سفارتهم في دمشق. وقد حاذر المعلّم من أن ينكأ الجرح بفظاظة، ولكنه في الوقت نفسه لم يضع المناسبة تمر من دون أن يسجّل إشارة لعلّ اللبيب اللبناني يفهمها جيدا. وان كان نائب المعلم الدكتور فيصل المقداد قد قام بزيارة ترحيب بروتوكولية بالمستشار مرتضى.
ولم يقتصر الحدث على هذا، بل تعداه الى التمثيل الذي لا يزال على مستوى القائم بالأعمال، وعندما يكون التمثيل على هذا المستوى، فهذا يعني ـ وفق ما هو متعارف عليه دبلوماسيّا ـ إما وجود أزمة في العلاقات، أو أن المصالح المشتركة محدودة بين البلدين، بحيث يكفي وجود قائم بالأعمال يتولى تسيير الأمور بالتي هي أحسن.
وتقضي الواقعيّة القول بأن افتتاح السفارة مرّ امس كحدث باهت، بارد جدّا، وكأن هناك من يرتكب خطأ أو هفوة، وإن دلّ هذا على شيء فعلى أن العلاقات لا تزال حذرة، أو لم تبلغ بعد مرحلة النضوج ليصار الى تبادل السفراء. وحتى الكلام الرسمي الذي أوحى أمس بأن السفير اللبناني ميشال الخوري سيلتحق بمنصبه الجديد في منتصف نيسان المقبل هو افتراضي، ويستند الى توقعات كأن تقدم الحكومة السورية على ترشيح أحد دبلوماسييها كسفير لدى لبنان، بعدما أقدمت الحكومة اللبنانية على فتح مكاتب السفارة، ليصار الى اعتماده، وعندها تسدل الستارة.
وهناك في الوسط الدبلوماسي اللبناني أمل كبير في أن يحصل ذلك، لكن في الوسط السياسي هناك مقاربة مختلفة، بمعنى أن ما بين لبنان وسوريا ليس «مجرّد رمانة، بل قلوب مليانة»، وعندما يأتي موظّف أميركي صغير برتبة السفير جيفري فيلتمان الى بيروت ليحرّض ضدّ سوريا قبل الظهر ثم يسرع الخطى إليها بعد الظهر سعيا الى تحسين العلاقات معها، فهذا يعني أن هناك من يريد أن يوظف ظهر لبنان مكسر عصا لمصالحه، وحيث تحل الكيديّة لا مكان للنيات الصافيّة، ولا للاستعدادات الطموحة على بناء التكاملية في العلاقات، وترميمها وتحسينها وتطويرها نحو الأفضل لمصالح البلدين، بل هناك من لا يزال يراهن على محاسبة الماضي بعدما انطلقت المحكمة ذات الطابع الدولي بأعمالها في لاهاي. وهناك من لا يزال يراهن على مضبطة الاتهامات التي ستصدر عنها، ويريدها أن تكون وسيلة لتصفية الحسابات.
قد يحتاج الماضي الى عملية تنظيف واسعة شاملة، وربما يريد البعض أن تلعب المحكمة هذا الدور، إلا أن هذه الـ«ربما» تبقى مجرّد أمنية، لأن المحكمة دوليّة، ويوازيها بالتمام والكمال مصالح ومنافع دوليّة، والتسييس قد لا يكون في القرارات بل في تطبيقها، هذا إذا صدرت في المستقبل المنظور، وحتى التطبيق يكون استنسابيّا، والدليل أن الرئيس السوداني عمر البشير ملاحق كونه متهماً بمجازر دارفور، فيما الذين ارتكبوا المجازر في غزّة، وقبلها في لبنان، معصومون دوليّا من الخطأ، وممنوع ملاحقتهم ومحاكمتهم! وأمام هذه الاستنسابيّة وهذه المعايير المزدوجة في العدالة الدوليّة، يبرز السؤال: هل فتح السفارة لمحاكمة الماضي، أم لصنع المستقبل الواعد؟
السفير