تبادل السفارات: رب ضارة نافعة
سعد محيو
العروبيون السوريون واللبنانيون ربما شعروا، حين تم تبادل العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، بما شعر به أبو الأدب الأمريكي مارك توين حين قرأ خبر وفاته في الصحف، إذ قال: “هذا خبر مبالغ فيه”.
فهذا التطور الذي بدا استثنائياً في العام ،2009 كان مستحيلاً في العام 1959 حين كانت المنطقة العربية تهوج وتموج بفعل موجات متتالية من مشاريع الوحدة العربية: من وحدة مصر وسوريا إلى اتحاد المملكتين العراقية والأردنية (التي جاءت كرد على الوحدة الاولى)، ومن اتحاد الجمهوريات العربية إلى خطط السوق العربية الموحدة التي سبقت (على الورق) السوق الأوروبية بسنوات.
لماذا ما كان مستحيلاً بالأمس بات ممكناً اليوم؟
لسببين واقعيين متلازمين: الأول أن العروبة القومية “الرومنسية” انحسرت بعد أن فشلت في تحقيق أهدافها في مجالات الوحدة العربية والتحرير والحرية، وبرزت مكانها مشاريع الوطنيات العربية ومعها مشروع لايزال ضبابياً حول عروبة جديدة ديمقراطية واتحادية (أي لااندماجية) في آن. والثاني، أن الحقبة المديدة من تجزئة المنطقة العربية منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، خلق في سناجق وولايات الدولة العثمانية السابقة حساً إقليمياً بالانتماء بدأ أولاً في بعض الأقطار (مصر، الكويت.. الخ) وما لبث أن امتد إلى أقطار أخرى، (خاصة سوريا ولبنان).
بيد أن هذه النقلة من القومية الرومانسية إلى الوطنيات الواقعية، لم تترجم نفسها في سياق علاقات بينية جديدة بين الأقطار العربية تستند إلى الاحترام المتبادل والتعاون المصلحي وصولاً إلى نوع جديد من أنواع التضامن والتعاون، كما حدث بين الدول الأوروبية، بل أدت إلى سيادة مفاهيم سياسات القوة وموازين القوى والمجال الحيوي بينها، الأمر الذي أسفر عن سلسلة الكوارث التي نعرف في النظام الإقليمي العربي.
فهل يكون تبادل السفارات، والذي جاء كما يعرف الجميع نتيجة ضغوط غربية وفرنسية على وجه الخصوص، مناسبة لإعادة تصويب العلاقات العربية- العربية، وعلى رأسها العلاقات بين لبنان وسوريا، في اتجاه الاعتراف بالوقائع الجديدة والانطلاق منها نحو إقامة نظام عربي جديد يستند إلى التعاون لا الضغائن، وإلى الحرية لا القمع، وإلى وحدة المصير لا إلى وحدة المسار فقط؟
فلنقل، أولاً، إن العلاقات الطبيعية ضرورة بالمطلق بين سوريا ولبنان بحكم التاريخ والجغرافيا والخطر المشترك من عدو توسعي “إسرائيلي”. كما هي ضرورة قصوى أيضاً في عصر العولمة التي بات فيها الانعزال هو الانتحار بعينه، حيث لا تزال قوى كبرى كألمانيا وفرنسا وإيطاليا (في أوروبا) والصين واليابان وإندونيسيا (في آسيا) والولايات المتحدة وكندا والمكسيك (في أمريكا الشمالية) تسعى إلى الاندماج الاقليمي لتحقيق الفوز في صراع البقاء العالمي الجديد.
سوريا ولبنان مرشحان طبيعيان ليصبحا نواة هذا التجمع الإقليمي العربي الجديد. وهذا، على أي حال، ما أثبتته تجربة فتح فروع للمصارف اللبنانية الكبرى في دمشق والتي استقطبت على نحو غير عادي ثقة المواطنين السوريين وإيداعاتهم. بيد أن لهذا شرطاً لا يمكن القفز فوقه، هو نفسه الشرط الذي قبله بحكمة ونُبُل جمال عبد الناصر بعد أحداث لبنان الدامية العام 1958 وهو أن “الوحدة الوطنية في لبنان يجب أن تسبق الوحدة العربية”.
أجل. تبادل السفارات كان أشبه بخبر وفاة مارك توين “المبالغ فيه”. لكن رب ضارة تكون نافعة، إذا ما تم تحويل هذا التطور إلى مناسبة لإعادة صياغة كل استراتيجيات الدول العربية باتجاه ترميم الفكرة العربية على أسس جديدة، تكون ديمقراطية (وإن نسبياً!) هذه المرة.