صفحات العالم

خيار الأمة على مشارف القمة

سليمان تقي الدين
السؤال المركزي الذي يشغل بال العرب اليوم في جميع أقطارهم ودولهم، هو في كيف يمكن إعادة بناء التضامن العربي في مواجهة تحديات وأخطار مختلفة المصادر والاتجاهات.
لمعالجة هذا الأمر يحتاج العرب إلى تشخيص حقيقي واقعي موضوعي لهذه المشكلات. فلا بد اذاً من تنحية المسائل المتعلقة بالاعتبارات الشخصية والشخصانية ومسائل المهابة والبحث عن أدوار فردية وسط أزمة جماعية.
كانت جامعة الدول العربية هي الإطار القانوني للنظام الإقليمي العربي على مدى نصف قرن. ومن الواضح أن تلك الجامعة انطلقت من نواة الدول المستقلة السبع، فتعاونت على دعم استقلال باقي الدول، وقد تحقق ذلك باستثناء فلسطين حتى الآن. في مسيرة الجامعة طغى في مرحلة ما الفكر القومي الرومنسي، وغلبت المعايير السياسية على معايير بناء العلاقات الثقافية والاقتصادية والاجتماعية المشتركة. بل إن العمل من “القمة” وبين قادة الدول طغى على كل سعي حقيقي لبناء سياسات تكاملية في ميادين عدّة. وما زلنا الآن بعد أكثر من نصف قرن نبحث عن قوانين وقواعد ومداخل للعلاقات البينية الاقتصادية ولإقامة نظام إقليمي أساسه وحدة المصالح وتكاملها. علماً أن حاجات العرب لذلك وإمكاناتهم أيضاً هي متوافرة وحقيقية.
بكل الظروف يبدو أن الانقسامات السياسية لها الأولوية عند العرب، كما كانوا من قبل منقسمين أيديولوجياً بين أنظمة “تقدمية” وأخرى “محافظة” هم الآن يشيعون مصطلح “دول الاعتدال” والدول “الراديكالية”، علماً أن لا راديكالية حقيقية في العالم العربي الآن، وليس هناك من دول تحمل مشروعاً جذرياً في مواجهة مكونات النظام العالمي الجديد. نحن الآن نعيش في حقبة من محاولات التكيف مع القواعد وموازين القوى الدولية، وليس في حقبة مواجهة جذرية مع هذه القواعد. ليس في العالم الآن نقطة ارتكاز أساسية مجسدة في دولة أو منظومة دول تسعى إلى تغليب نمط ثقافتها وحياتها واقتصادها إلا الدولة العظمى “أمريكا”، ومعها يتشارك الغرب كله ويتعاون على إقامة النظام الدولي مع روسيا والصين وطبعاً أوروبا.
اذا سلّمنا بهذه الحقائق فإن العرب مطالبون برؤية لموقعهم في النظام العالمي وحجم شراكتهم فيه وأشكال تلك الشراكة ومقوماتها الفعلية. على هذا الصعيد يملك العرب الكثير رغم حال الضعف السياسي الناجم عن حال الفرقة وحال النزاعات السياسية والتعارضات القائمة في ما بينهم.
إن أولى الأولويات التي تواجه السياسة العربية الآن هي كيف يمكن بناء نظام إقليمي يمهد ويؤسس للشراكة الدولية. العلاقات الدولية الآن هي علاقات تعاون بين كتل مصلحية كبرى كأوروبا الموحدة وروسيا الاتحادية واليابان والصين والهند والبرازيل الخ.. والاعتبار الأول في هذه العلاقات هو في مدى مساهمة هذه أو تلك من الدول في الاقتصاد العالمي.
أليس لافتاً الآن كيف أن وزيرة خارجية الولايات المتحدة الأمريكية تسعى إلى استمداد دعم الفوائض النقدية من الصين لإعادة إحياء النظام الرأسمالي العالمي الذي يواجه الآن أزمة حقيقية؟
أليس لافتاً الآن أن المملكة العربية السعودية هي إحدى الدول العشرين التي دعيت إلى مؤتمر دولي يتعلق بمعالجة الأزمة المالية؟
أليس لافتاً أن الصحافة الغربية تتحدث عن الفوائض النقدية العربية الواردة من النفط والغاز كإحدى العناصر المؤثرة في معالجة الأزمة؟.
على هذا المستوى ليس العرب كماً مهملاً في مستقبل الانسانية المعاصرة التي تواجه الكثير من المشكلات، كما أن العرب بحكم موقعهم الجغرافي في قلب العالم وعلى أطراف المراكز الفاعلة فيه يستطيعون أن يلعبوا دوراً سياسياً مؤثراً إذا هم أحسنوا إدارة مواقعهم وقواهم والعناصر التي تمكنهم من تبادل المصالح.
إن العقدة “الإسرائيلية” التي تقف عائقاً كبيراً بين الغرب والتعاون مع العرب يجب معالجتها انطلاقاً من إعادة الاعتبار للمصالح.
والمصالح لا تكون مؤثرة إلا إذا كانت فاعلة ناشطة متحركة. لقد حاول العرب مثلاً أن يقايضوا بين المصالح الأمريكية وبين حقوقهم في فلسطين. ومن المعروف أن مؤتمر مدريد 1991 قام على هذا الأساس. لكن العرب لم يستثمروا فعلياً نفوذهم فسهلوا المشروع الأمريكي، دون ضمانات حقيقية بحل المشكلة الفلسطينية. وهم الآن لا يستخدمون حاجات الغرب إلى تعاون العرب في إنشاء نظام “شرق أوسط جديد” كما ينبغي. هم الآن يتقدمون على الأمريكيين في مواجهتهم لما يسمّى “التحدي الإيراني” بينما دولة مهمة كتركيا أو روسيا تعالج هذا الملف بالذات وفق تبادل المصالح.
لقد استخدمت روسيا الملف النووي الإيراني في مواجهة النفوذ الأمريكي في آسيا الوسطى وفي بلاد القوقاز، وخصوصاً في الأزمة في جورجيا وأوكرانيا ومسألة الدرع الصاروخية الأمريكية.
أما تركيا فهي الآن تستخدم حاجتها للانخراط في المشروع الأوروبي عبر تعزيز علاقاتها الإقليمية بالتعاون مع إيران وسوريا وضمناً بالسعي إلى مشاركة فاعلة في بناء النظام الإقليمي المقبل خاصة مع التحديات التي تواجهها أمريكا مع ايران وفي أفغانستان وفي باكستان.
إذا صح ما نقول فإن العرب الذين قدموا المبادرة العربية الشاملة للتسوية مع “إسرائيل” عام 2002 لم يحسنوا إدارة العلاقات الدولية في خدمة هذا الهدف ولم يتشبثوا بهذه المبادرة وتحقيقها مقابل تسهيل بعض المصالح الأمريكية والغربية.
على العكس من ذلك، كانت السياسة الإيرانية ناشطة في فرض التنازلات على الأمريكيين في العراق وأفغانستان، وهي الآن تستثمر الملف الفلسطيني واللبناني ايضاً، وتنجح في فرض ما يسمى دبلوماسية المصالح بدلاً من دبلوماسية القوة التي استخدمتها أمريكا في المرحلة الماضية. إذا كانت هذه “العبر” صحيحة فإن العرب في القمة المقبلة عليهم الإفادة من هذه الدروس والسعي إلى تجميع أوراق القوة والمصالح التي يملكونها للتفاوض حولها مع الإدارة الأمريكية الجديدة التي هي بأمس الحاجة إلى التعاون مع العرب بإزاء الفشل السياسي والاقتصادي. ولكن يكون ممكناً معالجة ملفات المنطقة إلا من مدخل واحد هو تحجيم الدور “الإسرائيلي” وطموحاته وتسوية الحقوق الفلسطينية لضمان بناء نظام إقليمي مستقر.
الخليج

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى