تحديات تواجه بقايا الأطلسي
نبيل شبيب
في عام 2009 يُحتفل على مقربة من الحدود الفرنسية الألمانية بمرور ستين عاما على تأسيس حلف شمال الأطلسي، وسيشمل الاحتفال الترحيب بآخر دولتين يكتمل انضمامهما إليه، ليصل عدد أعضائه إلى 28 دولة عضوا، وهما كروآتيا وألبانيا، اللتان تقرر في قمة بوخارست مطلع أبريل/نيسان 2008، توجيه الدعوة إليهما للانضمام، وهذه آخر خطوة في مسلسل طويل يبدأ بالمحادثات، فالتأهيل الذاتي للعضوية، فالترشيح إليها، فمتابعة التأهيل بدعم أطلسي، وأخيرا الدعوة للانضمام، وتلبيتها رسميا.
مقدونيا أيضا قطعت هذا الطريق نسبيا، ولكن اسمها المطابق لاسم أحد الأقاليم اليونانية، كان سببا لقطع الطريق عليها نتيجة اعتراض أثينا. أما جورجيا وأوكرانيا، فالواقع أنهما لم تقطعا الشوط الأول للتأهيل الذاتي للعضوية، ومن ذلك الاستقرار الأمني داخليا، ورغم ذلك أوشكتا على الوصول إلى مرحلة الترشيح وفق الرغبة العلنية الأميركية، لولا أن الحلف لم يعد يسير -ولو بعد التردّد والممانعة- وفق ما تمليه زعامته الأميركية.
هذا ما كشفت عنه قمة بوخارست بصورة استعراضية، تجاوزت ما سبق في السنوات القليلة الماضية، وعكس أن حلف شمال الأطلسي عام 2008 لم يعد سوى بقايا ما كان عليه أواخر حقبة الحرب الباردة وهو في أوج قوته السياسية الحقيقية، لا الاستعراضية في ساحات الحروب عسكريا.
بين أمس القريب واليوم
حلف شمال الأطلسي على أبواب عامه الستين ولا أحد يزعم أنّه احتفظ بقوّة الشباب في سنّ متقدّمة، على النقيض ممّا يتردد قبل عشرة أعوام، عندما جرى تدشين دور دولي جديد له، في وثيقة قمته الخمسينية في واشنطن.
آنذاك حسمت مفاوضات عشرة أعوام على تثبيت “عدو بديل” عن الشيوعية، وبالتالي صياغة مهام جديدة بدأ تطبيقها استباقيا من خلال تحرك الحلف في كوسوفو، وموسكو عاجزة عن الاعتراض آنذاك، ثم كان التحرك لاحقا إلى أفغانستان، مع مسلسل الحروب الأميركية الجديدة، أما الآن فباتت الحصيلة المحتملة للحرب في أفغانستان تهدّد الحلف نفسه بمصير شبيه بمصير حلف وارسو.
قبل عشرة أعوام كانت موسكو تحاول الوقوف على قدميها ماليا واقتصاديا وأمنيا من جديد. أما الآن فأصبحت مثالا للتندر على الأطلسي بشأن حق “الفيتو” الذي تمارسه على قراراته، وهي خارج أبوابه.
آنذاك كانت واشنطن تطلق موجة جديدة من حروب عسكرة هيمنتها العالمية، وسعت لاحقا لزرع وتد بين شرق الاتحاد الأوروبي وغربه، وهو ما بلغ ذروته مع حرب احتلال العراق. أما الآن فبدا في قمة بوخارست أنّ الانشقاق أصاب الحلف أكثر ممّا أصاب الاتحاد الأوروبي.
وقبل سنوات أطلقت واشنطن على ألمانيا وفرنسا وصف أوروبا القديمة استهزاء بسياساتهما الأمنية. أما الآن فيرمز الاحتفال الستيني القادم على الحدود بين الدولتين الأوروبيتين إلى دورهما الجديد في نطاق تبدل جذري طرأ على حجم الوجود الأوروبي الغربي في الحلف ووزنه.
في قمة بوخارست الأطلسية 2008 كانت الدولتان ومعهما مجموع دول “أوروبا القديمة” من وراء تأجيل النظر في دعوة جورجيا وأوكرانيا لمرحلة الترشيح التحضيرية للانضمام إلى الحلف، رغم أن الرئيس الأميركي الراحل قريبا، جورج بوش الابن، بقي حتى اللحظة الأخيرة، أي أثناء زيارته لأوكرانيا عشية القمة، يؤكّد حرصه الشديد على توجيه هذه الدعوة، ويشيد بتأييد الدول الأوروبية الشرقية الأعضاء حديثا في الحلف.
موسكو في حسابات الأطلسي مجددا
ترمز هذه النتيجة إلى تنامي التأثير الأوروبي على قرارات الحلف، ويرمز تعليل الرفض بمراعاة المصالح الأمنية لموسكو إلى تنامي مكانتها وتأثيرها دوليا، وتنامي أهمية العلاقات الروسية الأوروبية نفسها، ولم تعد تجدي للحيلولة دون ذلك مجاملات دبلوماسية.
الرئيس الأميركي بوش الابن الذي سبق أن وصف غريمه الروسي بالرجل “الغامض”، حرص في لقائهما في سوتشي على ساحل البحر الأسود بعد قمة بوخارست، على إظهار تقديره واحترامه للرجل الذي اعتبره “زعيما قويا”. وكان من “قوته” السياسية أنه بقي بالفعل حتى الفترة الأخيرة قبل رحيله عن منصب الرئاسة في 7/5/2008 متمسّكا باعتراضاته على السياسات الأميركية، المباشرة والأطلسية، عبر الدرع الصاروخية وعبر التوسعة الأطلسية شرقا، مع ما أضاف إليها للتأثير على الأوروبيين خاصة، بتجميد مفعول اتفاقية الحد من الأسلحة التقليدية في أوروبا، المعقودة عام 1974 وصيغتها المعدلة عام 1999، علاوة على السياسة الروسية في البلقان، والتي تمسّ الأمن الأوروبي مباشرة، من خلال رفض استقلال كوسوفو رغم أنّه أصبح أمرا واقعا.
صحيح أن اللقاء الروسي الأطلسي في بوخارست، والروسي الأميركي في سوتشي، قد اتّسما بصيغة الود، ولكن لم يصلا إلى جديد في تخفيف الخلافات القائمة، وبقي الرد الروسي في حدود المجاملات الودية أيضا.
تجنب بوش الابن تكرار انتقاداته لموسكو و”النكسة التي أصابت الديمقراطية والحريات في عهد بوتين”، وتجنب بوتين تكرار تصريحات سابقة عن مخاطر الهيمنة الأميركية عالميا، كما صنع في مؤتمر ميونيخ للشؤون الأمنية في فبراير/شباط 2007. ولكن تأكيد المظاهر الودية في آخر لقاء بين رئيسين يغادران السلطة قريبا، لا يواري استمرار الخلافات إلى من يأتي بعدهما.
ويدرك بوتين ازدياد الرفض الأميركي للاعتراضات الروسية إذا ما وصل ماكين من الجمهوريين إلى الرئاسة الأميركية، فهو الذي دعا علنا إلى استبعاد “روسيا الرجعية عن مجموعة الثماني الصناعية” وقال عن بوتين ساخرا إنه عندما ينظر في عينيه لا يرى سوى ثلاثة حروف.” وعدّدها.. وهي اختصار اسم المخابرات السوفياتية القديمة، معلقا بذلك على مقولة بوش الابن عندما اجتمع مع بوتين رئيسا لروسيا لأول مرة عام 2001 وقال مستبشرا بعلاقات ثنائية إيجابية “نظرت في عينيه ورأيت فيهما فِكْره“.
مساومات على مستقبل الحلف
مظاهر الود دون مضمون انعكست أيضا في اتفاقية الإطار لعلاقات إستراتيجية ثنائية، فقد حفلت بالنوايا بدءا بالجانب الأمني انتهاء بالجانب التجاري، ولكن دون التزام أحد من الطرفين تجاه الآخر.
جدية العلاقات الودية بدت في الماضي مثلا عندما طرح بوتين دعمه لما سمي “الحرب على الإرهاب”، قبيل الغزو الأميركي لأفغانستان، فانعكس ذلك في تسهيلات قدمتها موسكو والدول القريبة منها وسط آسيا، وهذا ما يحتمل تكراره الآن جزئيا وفق تصريح بوتين بأن “الأطلسي لا يستطيع تحقيق النصر ضد الإرهاب في أفغانستان دون دعم روسي“.
ومن وراء ذلك إدراك بوتين أن الدول الأوروبية الأعضاء في الحلف تخشى من أن يتعرض الحلف إلى هزيمة في أفغانستان، تكون لها آثار وخيمة على مستقبله وعلى مستقبل العالم الغربي عموما.
ربما كان هذا -إلى جانب التطلّعات الدولية الذاتية- أحد دوافع الرئيس الفرنسي ساركوزي وراء إرسال قوات فرنسية تحل محل الأميركية شرق أفغانستان، لتحويل الأخيرة إلى الجنوب، الذي بات مستعصيا على القوات الأميركية والأطلسية معا، علاوة على رغبة ساركوزي في زيادة تأثير باريس على الحلف، مع التلويح بالاستعداد للعودة إلى بنيته الهيكلية العسكرية، التي انسحبت فرنسا منها في عهد رئيسها الأسبق ديغول.
والعودة مشروطة بحصة متميزة لفرنسا في القيادات العسكرية للحلف، التي استأثر بها الأميركيون، مما يشير إلى مساومات وراء الكواليس للخروج بالحلف من أزمته الأفغانية وتجنب انشقاقه، وحتى انهياره إذا أثبتت تجربة أفغانستان العسكرية عدم جدوى مهامه الجديدة المقررة في واشنطن عام 1999، أي التحرك خارج المجال الجغرافي للدول الأعضاء، أو بتعبير أوضح، التحرّك الهجومي عسكريا بعد أن كان الحلف دفاعيا في حقبة الحرب الباردة.
وفاحت رائحة المساومات أيضا من تصريح بوش الابن قبل قمة بوخارست بأنه لن يطالب ألمانيا بإرسال قوات عسكرية إلى جنوب أفغانستان، فتخلى بذلك عن مطلب أصر عليه طويلا وإلى أسابيع قليلة ماضية، ولكن دون جدوى أمام الرفض الألماني المطلق.
ويشمل هذا دولا أوروبية أخرى، مقابل قرار قمة الأطلسي في بوخارست أن يتبنى الحلف -بموافقة أوروبية- مشروع الدرع الصاروخي. إنما تأتي هذه الموافقة مع تنازلات أميركية جزئية تجاه موسكو على صعيد متابعة تنفيذ المشروع، وهو ما خفّف حجم المعارضة الروسية خلال الشهور الماضية، ولكن دون أن تسحب رفضها نشر منشآت الدرع الصاروخي في دول أوروبية شرقية، أي رفض وصول مدى استكشافات منشآت الرادار المزمع نصبها حوالي عام 2012 في التشيك إلى قلب المجال الجوي الروسي.
عوائق تمنع الانهيار الأطلسي
على النقيض من دول أوروبية شرقية حديثة العهد بالشيوعية، لم يعد الجدال المطروح في أوروبا الغربية بشأن الجهود المبذولة دون مزيد من الانشقاق والانهيار لحلف شمال الأطلسي يدور حول محور الحاجة الأمنية إليه، كما كان في حقبة الحرب الباردة، أو حول محور اصطناع عدو بديل للحفاظ عليه، كما كان في تسعينيات القرن الميلادي العشرين، إنما المحور الرئيسي لهذه الجهود هو عدم وجود بديل أمني في الوقت الحاضر بالمنظور الغربي.
إن المشهد الذي تركته قمة بوخارست الأطلسية ومن قبل قمة ريجا الأطلسية، وما كان بينهما من صدامات بلغت العلن عبر وسائل الإعلام، تؤكد أن حلف شمال الأطلسي عام 2008 لم يعد إطلاقا كما كان عليه في حقبة الحرب الباردة، أو في السنوات الأولى بعد نهايتها عندما بدا أن واشنطن ستنفرد بالزعامة عالميا، وستحول الحلف إلى أداة عسكرية طيعة لها.
آنذاك كانت اللهجة -التي يتحدث بها الساسة الأميركيون من قبل بوش الابن ووزير دفاعة رمسفيلد وغيرهما من المحافظين الجدد- هي لهجة الاستعلاء وفرض الإرادة السياسية الأميركية، كما اشتهر على لسان وزيرة الخارجية الأميركية السابقة مادلين أولبرايت، وهي ترفض المطالب الفرنسية تخصيصا والأوروبية عموما، بشأن المشاركة في القيادات العسكرية للحلف، وتقول “هذا ما نريد. وكفى“.
وبمقدار قوة الانحدار الذي سقطت فيه السياسات والممارسات العسكرية الأميركية، في أفغانستان أولا وفي العراق ثانيا، أصاب الضعف الصيغةَ التي أرادتها لحلف شمال الأطلسي من قبل تلك الحروب وما سببته من انشقاقات وصلت إلى لقاءات القمم، جنبا إلى جنب مع تنامي أهمية الدور الأوروبي فيه، والدور الروسي خارج إطاره.
السؤال المطروح لم يعد مقتصرا على مسألة زعامة الحلف، وهل تصبح جماعية بعد أن بقيت أميركية طوال 59 سنة ماضية، إنّما يشمل مصير الحلف نفسه.
فما يتحرك على الساحة الدولية الآن يبدو مجرد بقايا حلف عملاق استطاع التصدي للاتحاد السوفياتي وشيوعيته وحلف وارسو معه، عندما بقي طوال أربعين عاما حلفا دفاعيا في الدرجة الأولى، وبقيت أهدافه الرسمية محصورة بالحفاظ جماعيا على سلامة دوله الأعضاء وأمنها من عدوان خارجي. أما تحويل مفهوم “أمن” هذه الدول، إلى ما يستدعي إرسال القوات إلى بلد آخر، فقد أصبح على أرض الواقع أمنا “عدوانيا” وعبئا سياسيا، لا يستثير المعارضة خارج دول الحلف فقط، أو على المستويات الشعبية فيها فحسب، بل يؤثّر على تكوينه العسكري والسياسي أيضا.
وتبدو المعضلة الأوروبية الأكبر في التعامل مع مستقبل الحلف كامنة في عدم الوصول بالجهود المتنامية لأمن أوروبي متميز إلى غايتها حتى الآن، فلم يتوافر البديل عن ربط الأمن الأوروبي والغربي عموما بالحلف عبر زهاء ستة عقود، وهذا ما يجعل من احتمالات انهيار الحلف كابوسا يخشى منه على وجود العالم الغربي نفسه، أو على هيمنته العالمية.
وما لم تجد هذه المعضلة حلا لها في التصورات السياسية والأمنية الأوروبية في الدرجة الأولى، لا يبدو أن المساومات حول مستقبله ستنقطع، وإن بقيت محدودة في نطاق محاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه من بقايا الحلف.
ــــــــــــ
كاتب سوري