القبلية والطائفية وثقافة المجتمع المدني
د.عبدالله الجسمي
الإشكالية الثقافية الكبرى في المجتمع العربي تتعلق بسيادة أنماط ثقافية فيه
لا تتناسب والتحولات المادية التي حدثت في معظم الدول العربية. فالتحديث الذي تم خلال العقود الأخيرة يتعلق بالأشياء المادية مثل البنية التحتية الخدماتية، أو التطور العقاري في مختلف القطاعات، حيث نجد أبنية الإسمنت الشاهقة والحديثة المنتشرة في كل مكان تقريباً، توحي للقادم من الخارج بعصرية المجتمع وحداثته، لكنها في حقيقة الأمر تعبر عن حداثة مادية فقط، تقابلها طريقة تفكير وثقافة لا تعبر عن الواقع المادي العصري، بل تتناقض معه، فأصبحنا نعيش في ازدواجية ما بين بنية تحتية متطورة وثقافة لا تعبر عنها. وهذا بحد ذاته لا يمكن أن يوصف بالتطور الفعلي، لأن عملية التحديث لا تقتصر على الأمور المادية، بل الثقافية أيضاً. فالتحديث الحقيقي هو التحديث الثقافي، لأن المجتمع الذي يعيش ثقافة متطورة وعصرية يستطيع أن يجدد نفسه بما يتلاءم مع ما يجري في العالم، لكن الذي لا يملك ذلك، فمهما بلغت درجة التطورات المادية فيه، فهو لا يعيش الواقع المعاصر بأصوله.
ولا شك بأن أبرز ما يعيق التطور الثقافي في المجتمع العربي ككل، هو انتشار ظاهرتين ثقافيتين أعاقتا عملية التحديث الثقافي، وهما الطائفية والقبلية. وسيتركز الحديث هنا عن أسباب إعاقتهما للتحديث الثقافي والمجتمع لكونها أبرز الموضوعات التي بحاجة إلى إصلاح ثقافي إن كانت هناك نوايا جادة لذلك.
لا تتماشى الطائفية والقبلية مع الواقع الحالي للمجتمعات، لأنهما ظاهرتان تعبران عن واقع المجتمع الذي سبق عملية التحديث عندما كان الإنسان يعتمد في الدرجة الأولى على الطبيعة ومظاهرها. فقد كانت الطبيعة عاملاً أساسياً في تدعيم الترابط الاجتماعي الجماعي نظراً لظروفها القاسية، خصوصاً في منطقة الخليج والجزيرة العربية والمناطق الأخرى المشابهة لها في الوطن العربي. وانتشرت الظاهرة القبلية في المجتمعات الصحراوية نتيجة لواقع الصحراء الشحيحة الموارد الذي فرض عملية التنقل من مكان لآخر، فأصبح الولاء للقبيلة والانتماء إليها، هو الظاهرة الاجتماعية الأبرز في ظل عدم الاستقرار في مكان واحد، علاوة على المصير المشترك الذي يواجه أفرادها في ظل الظروف البيئية القاسية، أو الأخطار الخارجية كالحرب، أو الاقتتال مع القبائل الأخرى أو غيرها. وينسحب الأمر أيضاً على التجمعات التي كانت تتوطن المناطق الساحلية، أو التي تحمل فيها بذور التجمعات الحضرية، حيث فرضت الطبيعة ومخاطرها أيضاً الترابط الاجتماعي، خصوصاً ذي الصبغة الطائفية وأحياناً العرقية، وذلك لحاجة الأفراد للانضواء تحت إطار اجتماعي تفرضه طبيعة العمل الجماعي للشرائح من أجل تأمين لقمة العيش. وعليه فرضت طبيعة الأوضاع السابقة وطرق الحياة الناتجة عنها في المجتمعات القديمة أنماطاً ثقافية تعبر عن واقع المجتمعات التي عاشت تحت رحمة الطبيعة ومظاهرها، وغلب عليها قوة الروابط الاجتماعية التي جعلت من الفرد لا يعيش إلا في إطار جماعي كي يحميه، وفي الوقت نفسه يمارس حياته من خلاله.. علاوة على مواجهة صعوبات الحياة ومخاطرها.
لكن مع التحول إلى المجتمعات المدنية الحديثة لم يعد هناك وجود لطرق الحياة السابقة، وانتهى تقريباً اعتماد الإنسان على الطبيعة، وظهر الاقتصاد الجديد الذي يختلف تماماً عما سبقه. ولا شك في أن هذه التحولات تتطلب تغييرات ثقافية، إلا أن الغالبية لم تستجب لهذه التغييرات، واستمرت بالتعامل مع الواقع الجديد بالثقافة القديمة التي لا تتماشى معه. هذا هو إذن لب المشكلة التي نعيشها في الوطن العربي ككل، حيث لم تشفع الكثير من الأشكال المدنية الحديثة كوجود دساتير أو هيئات تشريعية أو هيئات ونقابات شعبية منتخبة من القضاء على هذه الأنماط الثقافية أو تراجعها، بل على العكس، تم تلبيس هذه الهيئات والمنظمات الثقافة القديمة، ما حاد بها عن مهمتها الأساسية، وهي التحديث وبناء المجتمع المدني.
ومسألة التغلب على هاتين الظاهرتين تحتاج إلى جهود كبيرة، ووقت طويل لمجموعة من الأسباب سنأتي على ذكرها لاحقاً بعد مناقشة السبب الرئيس الذي لايزال يقف حجر عثرة أمام التخلص من هاتين الثقافتين، والذي يتعلق تحديداً في مشكلة «الانتماء». فنتيجة لعدم تزامن تغيرات ثقافية موازية للتغيرات المادية خلق ذلك فراغا ثقافيا لم تتم معالجته بالشكل المطلوب، من حيث بلورة ثقافة مدنية جديدة يشعر بها المواطنون بانتمائهم بالشكل المدني الجديد للدولة بعد التخلي عن طريقة الحياة القديمة عبر التحولات الاقتصادية التي حدثت في معظم بقاع الوطن العربي، وخصوصاً في منطقة الخليج العربي.
يضاف إلى ذلك أن طريقة إدارة الدولة الحديثة، هي الأخرى لم تصبح حديثة ومتجددة، بمعنى أن طرق الإدارة السابقة لمعظم الدول التي اتخذت الأشكال الاجتماعية السابقة استمرت هي الأخرى بالعقلية نفسها (مع بعض التغييرات الشكلية فقط) من حيث تقريب فئات حولها واستبعاد أخرى وتمييز أفرادها عن بقية المجتمع من حيث الامتيازات والحقوق وتهميش فئات عديدة عن المشاركة في القرار، أو الثروة الوطنية، أو الخدمات وغيرها. وقد نتج عن ذلك بقاء الأشكال الثقافية القديمة التي تحتضن الأفراد الذين يشعرون بتهميشهم، أو عدم مشاركتهم باتخاذ القرار، أو عدم وجود بديل ثقافي يستوعبهم في المجتمع الجديد، حيث بقيت الانتماءات القبلية والمذهبية والعرقية، كما هي من دون تغيرات تذكر، إن لم تأخذ أبعاداً من التعصب والتطرف في العديد من الأحيان نتيجة لشعور بعض أطرافها بالغبن والتهميش، وهذا يقود إلى صعوبة تغيير المفاهيم الثقافية نتيجة لمظاهر التعصب والتطرف.
وقد لعبت مجموعة من الأسباب الأخرى دوراً في إعاقة التغيير الثقافي يمكن الإشارة إلى أبرزها باختصار. يتعلق أولها بسرعة التغييرات التي تمت بها عملية التحول من مجتمع يعتمد على الطبيعة إلى دولة حديثة يقوم اقتصادها على الأعمال الإدارية والتجارية وأحياناً الصناعية. ففي خلال جيل واحد حدث انقلاب كبير في طريقة حياة المجتمع من الاعتماد على الطبيعة إلى شكل اقتصادي مختلف يعتمد على العمل الإداري وبعض مظاهر الإنتاج السلعي. والفترة الزمنية المحدودة لا تعطي الوقت الكافي لإحداث تغيرات ثقافية، لأنها تحتاج إلى فترة زمانية أطول، مثلما حدث مع التحولات التي حدثت في أوروبا من العصر الوسيط إلى العصر الحديث التي أخذت قرونا عدة.
ويعود السبب الثاني إلى تسييس الطائفة والقبيلة عبر زجهما في المعترك السياسي وترسخهما فيه، سواء في الدول التي تجري فيها انتخابات، حيث أصبحت المحاصصة الطائفية والقبلية جزءاً من كيانها أم في الدول التي
لا توجد فيها ديمقراطية، فيتم تقريب زعماء القبائل والطوائف وتحقيق بعض المطالب من أجل ضمان الولاء.
أما السبب المهم الذي يشكل أساس المشكلة، فهو قضية «الهوية». فالهوية هي نتاج واقع ثقافي معين، وأي تغير ثقافي، لا بد وأن يطرح تساؤلات حول طبيعة الهوية الجديدة، بمعنى في حال الانتقال من ثقافة إلى أخرى تتغيّر فيها مفاهيم الإنسان وسلوكه ورؤيته للواقع وتعامله مع الآخرين وصلته أيضاً بالشريحة الاجتماعية التي ينتمي إليها وهي الأهم. ولا شك بأن موضوع «الهوية» يعتبر العقبة الأكبر في عملية الإصلاح الثقافي، وهو يحتاج إلى معالجة معمقة وإلى مزيد من البحث والدراسة.