هجير، وهجرة الأوطان ..
جلال عقاب يحيى
أهاجر الوطن فارتحل مع المرتحلين، والحالمين بالهروب ؟، أم ما يزال أغنية المغتربين الباحثين عن حضن دافئ ؟؟..
أسباب ثلاث كانت وراء الهجرة تاريخيا، منفصلة، أو متداخلة : الدراسة، والهروب من القمع ، والفقر ..
فمع مرحلة سماح تركيا العثمانية للبعثات التبشرية بالعمل في البلاد العربية، وما يعرف بنظام الامتيازات.. سافر عديد العرب، خاصة من ” بلاد الشام” إلى أوربا بهدف الدراسة، والعمل، وكانوا براعم ونذر، وحملة الأفكار القومية الحداثية، وما يعرف ب” بواكير النهوض القومي التحرري” .
وعندما اشتد القمع، وملاحقة الوطنيين.. كانت الهجرة ملجأ، وكانت مصر، عموماً، موطن العديد من هؤلاء المطاردين . استوطنوا وعملوا، وقامت على سواعدهم وعقولهم عديد الأنشطة الرائدة : تأسيس الصحف والمجلات ـ المسرح ـ السينما ـ الفنون بأنواعها ـ الأنشطة التجارية وغيرها ..
الفقر، ومغريات العالم الجديد ( بعد اكتشاف أمريكا) دفعت بأعداد كبيرة من السكان للهجرة إلى الأمريكيتين . هناك عاشوا وشكلوا جاليات كبيرة . وهناك انطلق الشعر المهجري المشبع بالحنين، والشوق، وحب الوطن، فبرزت تلك الكواكب الساطعة في عالم الشعر والأدب والفنون، وكان الوطن : الحلم والأمل والرجاء .
كثير من هؤلاء حلموا بالعودة، وعادت فئات كبيرة منهم وبالذهن القيام بالدور المأمول في نقل أفكارهم وما عاشوه إلى أوطانهم، والإسهام في التأسيس لمرحلة النهوض، ولعب دور هام في قيادتها ..
كان الوطن الواحد الموحد، الحر المتحرر، العصري المتقدم : حجر الرحى، والغاية . الأمل والحلم، ومشروع المستقبل الذي يستحق التضحية للحاق بركب العالم المتطور .
في الأربعينات، الخمسينات، الستينات، السبعينات، تقريبا، مرحلة التحرر بشكلها العام، ومع محاولة وضع المشروع القومي، الوحدوي على سكة الممارسة ..برزت ثقافة جديدة تغالي بالانشداد إلى الوطن و الانتماء إليه وفق حصريات شاعت وتموضعت، وبالاعتقاد أن ذلك يحدُ، أو يمنع نزيف هجرة الأدمغة والعقول العلمية، ويضع الجميع في خندق العمل للوطن المنشود . كانت الأحلام كبيرة، وفي اليد مشروع يروم النهوض واللحاق بالعصر، وسدَ فجوات القرون، فانتشت الآمال، وسخنت الروح الوطنية وقد دخلت فرن الانصهار، وبالذهن أنها ستلد التجسيد ….
ولأن حدَة، وشمولية المعارك مع المستعمر وبقاياه كانت حاضرة، وساخنة، وترسم تخوماً حادَة، ناتئة، تعبَر عن المرار، والمعاناة ، وويلان عقود الاحتلال.. انتشرت ثقافة تعتبر الهجرة، أو التجنُس نوعا من الخيانة، و اللاوطنية، والانخلاع من الانتماء، ولاحقتها توصيفات، وتهمٌ كثيرة ( شبهة العمالة والتجسس)، وبعضها تجسَد في القوانين الصادرة التي تماشت وهذه النظرة، وصدرت عديد الأحكام على المخالفين و(الهاربين)، ولعلها أصيبت بالشطط والتطرف عندما صارت تطال حتى السفر إلى بلدان أوربا، وإلى أمريكا الولايات المتحدة لأي سبب من الأسباب ..( مستوى العداء سحب على كل شيء، وهواجس المؤامرة وإمكانية تجنيد العملاء كانت الأقوى، عدا عن المقاييس الشائعة للوطنية ) .
الأمة تحمل مشروعها التحريري، التحرري، الوحدوي، النهضوي، الذي يحتاج أبناءها جميعا، ولهذا اعتبرت غاية الوطنية مقاطعة الأعداء وبلدانهم( وحتى ثقافتهم ومنتوجهم، أحياناً)، ودعوة المغتربين للعودة بهدف المشاركة في بناء الوطن : الحر، المستقل . وجرت عديد المحاولات لربط المغتربين بالوطن، وفسح المجال لمساهماتهم المختلفة، فانحسرت موجات الهجرة، وأعداد المقيمين في الخارج، والوهج كبير بانبلاج فجر عربي، وحدوي يضع الأمة في موقعها الطبيعي . وفعلا لم تقلصت فكرة الهجرة والإقامة الدائمة في (الغرب) إلا لأعداد محدودة، ولأسباب يمكن تفهمها ..( باستثناء بلدان المغرب العربي الذي نزحت منه جاليات كبيرة للاستيطان في فرنسا، ومعظمها من الفئات الدنيا والمتوسطة ) .
كان ذلك لفترات قصيرة . فترة الصعود، أو الأحلام الجامحة، فترة ما قبل الهزائم، والارتداد، والنخر، والفوات، و إشادة ممالك الرعب، وقلاع المافيات النهبية، الفاشية . ما قبل الممات . فترة انتظار ما تسفر عنه الشعارات من مرتسمات .
بين الأمس والنتائج فجوة الفجوات : وطن يهاجر من الحلم والواقع، يصبح قيدا وسجنا . ممالك رعب وخنقا واختناقا.. يغترب الوطن، فيتغرَب المواطن وهو في بيته، وبلده، والغربة أنواع وأنواع . تكبر الفجوات والحدود بين الحاكم والمواطن . بين الحلم والواقع، وبين الفوارق الطبقية الصارخة. يعتلَ الوطن . يصضيق بأهله. تتراكم البطالة وهي تلقي كل يوم بالمزيد من الشباب المتعلم وغيره.. ترميهم على قارعة اليأس، وفي كهوف الفقر، والعوز .. 99تنفجر الهجرة : خلاصاً، وهروباً، ومرارا ..تأخذ طابعا أقرب للشمولية.. حين يصبح الآخر الملاذ، والغاية، والموِطِن . وحين يصبح الحصول على الجنسية هدف الأهداف، وغاية الغايات دونه الكثير من المساعي والجهود والاشتراطات . وحين ينحصر الحلم بالسفر، والهروب بأية وسيلة، والاستقرار هناك : البلدان التي استعمرتنا، وما تزال تهيمن على منطقتنا بأشكال كثيرة .
كان الوطن هو الانتماء . حبل السرًة . الوريد . ضاق الوطن . اختنق استبدادا، وأنظمة تغتصبه، وتلقي بالأماني إلى سراديب الاعتقال، وكهوف التخلف، وبساطير الهرس ، ونعوش التعليب. وبدل أن يغذي الوريد القلب سيطر وحش النظام العربي على كل شيء . صادر الوطن وحًوله إلى ملكية خاصة . مزرعة للاستثمار والنهب والجلد.. وبات المواطن بعض رعية . رقماً مشلوحا، مهملاَ. برغيا صغيرا في آلة جهنمية لا ترحم، ولا تحترم إنسانية الإنسان وحقوقه الطبيعية : حق الحياة والعمل . وحق التعبير والتنفُس . وحق المشاركة . لم يعد للمواطن مكانا في الوطن لأن الأمكنة مصادرة، والمساحات مغلقة، والكرامات مهدورة، ومعها كافة الحقوق ، بدءاً بحق الحياة الحرة دون تدخل من أجهزة الأمن وتسلطها المفتوح، إلى الأجور التي تسدَ الرمق ولا تحوَل البشر إلى متسولين بأشكال مختلفة، مستنزفين بأعمال شتى ..إلى الشعور بالحرية في العمل، والطريق، والبيت، والمكان العام، بل وحتى في ممارسة العلاقة الزوجية .
فشل المشروع القومي، النهضوي، وسقطت معه أفكار واتجاهات، وثوابت كثيرة ..لأن الوطن لم يعد يتسع لأبنائه ، ولأدنى الأماني، ولأنه ضاق حتى صار بحجم قبضة الاستبداد، وكمشة المافيا المسيطرة، ولأنه لم يوفر الكرامة، والحقوق، والعمل الشريف، والأجر المنصف.. فانفتح النزيف دفقا يبحث عن أية وسيلة للخروج، حتى لو كان الانتحار .
الأرقام المنشورة، المعروفة مرعبة عن حجم النزيف في الكفاءات والعقول العربية المهاجرة والمقيمة بشكل دائم، حيث تشير الأرقام إلى ما يزيد عن (500) ألف مهاجر من الكفاءات العلمية العالية( الرقم في ازدياد)، وخلال سنوات ” العشرية الحمراء” في الجزائر، مثلا، هاجر أكثر من (100) ألف من أساتذة الجامعات والأطباء وأصحاب الشهادات.. هروبا من جحيم العنف، ومخلفات الأزمة. ( بينما بعض الإحصاءات تذكر أرقاما أكبر) . وشهد العراق عملية نزوح شبه جماعية، طالت عشرات آلاف عقوله العلمية وإطاراته، وكبار ضباط وطياري الجيش العراقي . كما تشهد المناطق المسيحية في العراق وبلاد الشام، على الخصوص، هجرة شبه شاملة جعلت بعض الأماكن مقفرة وخالية منهم، وتراجعت نسبتهم في بعضها إلى درجة مذهلة .
وهناك ظاهرة جديدة معبَرة في عدد الطلبة العرب الذين يدرسون في الخارج ولا يرغبون بالعودة، إذ هناك نحو5% 4 منهم يمكثون محاولين تدبير أمورهم بشكل نهائي. وفي بريطانيا تبلغ نسبة الأطباء العرب الأكفَاء 34% من مجموع الأطباء. أما نسبة الهجرة العربية في الكفاءات، إلى مجموع ( الدول النامية) فتبلغ 31%، أكثر من %50 منهم أطباء، ونحو 23% مهندسين، و15% من كبار العلماء .
الأسباب كثيرة، لا تقتصر على أن البحث العلمي غير موجود تقريبا، وحرية واستقلالية العلماء ومكانة وأمكنة عمل العلماء وحسب..ذلك أن المخصص للبحث العلمي لا يتجاوز 3ر°% ، وهو رقم هزيل جدا قياسا بالإمكانات العربية المالية، وبما تخصصه الدول المتطورة.. بينما كثير من العلماء وأصحاب الاختصاص يرمون ويشلحون في أمكنة ليست لهم، ولا في مجال اختصاصهم . ناهيك عن الرقابة، والتقارير الأمنية، والتدخلات المباشرة السافرة، والنقل التعسفي، والتهم الجاهزة، وجو الرهاب المقلق، وأوضاع المعيشة التي تأكل الجزء الأكبر من التفكير والبحث عن مصادر إضافية..
مع ذلك كله .. تعود الإشكالية، الأزمة إلى مجموعة عوامل متشابكة، سنحاول تعدادها فقط، لأنها تستلزم بحوثا خاصة ..
ـ نعتقد أن العامل الحاسم في الهجرة شبه الجماعية للكفاءات، وغيرها يرتبط ب : حرية، وكرامة ، ومساحة ، وحقوق، ودخل المواطن . تلك بإيجاز مفاعيل هذا النزيف المتصاعد الواقع فعلاَ، او الكامن في الحلم، والاعتقاد، والتفكير .
ـ ورغم أهمية العامل المادي وفجوته الصارخة بين ما يتقاضاه صاحب الشهادة، وحتى العامل في بلاد المهجر، وبين ما يحصل عليه في وطنه، وموقع الفقر، والبطالة الفعلية والمقنعة، وضيق فرص العمل للخريجين الشباب، وللأجيال التي لا تحمل شهادات اختصاص..وغيره كثير من العوامل ذات الصلة بالوضع المعاشي، ونخصَ منها مستوى الخدمات الصحية والاجتماعية، ومستوى الضمان الاجتماعي، وانعكاسه على نفسية الفرد وطمأنينته الداخلية، ومستوى التطور في القطاع الصحي، وتخلفه في البلد الأصلي، وتعامل أصحابه مع المواطن الذي لا يملك أموالاً لدفعها رشاو، ولا معارف من العيار الثقيل.. إلخ ..وفي النظام التعليمي، والتوظيف، والسكن، والمعاملة ..إلخ ..
إلا أن : كرامة وحقوق ومساحة حرية الفرد، وطبيعة العمل لصاحب الاختصاص، الذي قد يرمى في موقع ليس له، و يهمَش ، ويداس على رقبته لأن (شكله وطوله وعرضه ورأيه )لا يعجب المسؤول، خاصة الجهاز الأمني المتسلط بشكل مباشر، أو عبر الرهاب المعمم : صانع الخوف، والإذلال، وسحق الكرامة، والحقوق .
ورغم أن معظم بلدان أوربا وأمريكا تستنزف المهاجرين في أعمال لا مكان فيها للتهرَب، والراحة، وتمتصَ دماءهم فعلاً في ساعات عمل طويلة تتجاوز المألوف..
ورغم أن رواتب هؤلاء أقل من نظرائهم : المواطنين، وما يشوب العلاقات من تمييز، ورذاذ عنصري، ومن مضايقات كثيرة، واشتراطات أكثر في الحصول على الإقامة، والعمل…
رغم ذلك والكثير من تعقيدات الاغتراب والغربة، وآثارهما.. يستقتل الشباب العربي للحصول على تأشيرة الدخول إلى أي بلد أوربي، أو أمريكي، وتعجَ السفارات الأجنبية بطالبي التأشيرة، رغم تعقيداتها المتزايدة، واشتراطاتها المذلة أحياناً، وكلفتها المادية المتصاعدة . ناهيك عن حلم الهجرة، ومبلغ الفرح عند من تقع عليه (القرعة) للهجرة إلى كندا، أو الولايات المتحدة ..
رغم كل الصعوبات.. فالحلم الأكبر لدى قطاعات أوسع من الأجيال، وحتى من كبار السن، هو الهروب والوصول إلى أي بلد في الضفاف الأخرى . وأعتقد، ودون مبالغة، أنه لو فتحت أبواب القبول، والهجرة إلى الدول الأوربية، وأمريكا.. لما بقي في بلداننا إلا (كل طويل عمر)ااا، وطويلي العمر هؤلاء في أغلبيتهم هم أصحاب الحكم وأقربائهم( معظم الأبناء لديهم تأشيرات مفتوحة، ويقيمون في الخارج)، ومن يشاركهم من المافيا في قطاعات النهب والاستثمار والسمسرة، وبعض العجزة، والمشلولين، وقليل قليل ممن لا زالوا” دقة قديمة” يتمسكون بمفهوم الوطن والوطنية وفق النسخة القديمة ..ولنا أن نتصور وضع بلداننا أمام هذا النزيف المرعب، الشامل . أمام هذا النزوج الجمعي، ونسأل لماذا ؟؟…
في السنوات الأخيرة برزت طاهرة خطيرة : الهجرة شبه الجماعية لمجاميع شبانية وسكانية كبرى، وكانت بلدان المغرب العريي والشمال الإفريقي، والعراق ، والمناطق المسيحية الموطن والمنطلق .
ـ في بلدان المغرب العربي اندفعت كتلاً شبانية لخوض مغامرة الهجرة السرية عبر ركوب البحر بزوارق صغيرة غير صالحة لعبور تلك المسافات الطويلة، مما أدى إلى غرق الآلاف الذين ابتلع البحر جثثهم، أو ألقاها على الشطوط، وآلاف غيرهم ُقبض عليهم قبل النجاح في التسلل إلى بلد أوربي ما . وقد أطلق عليها الجزائريون مصطلح” حراقة ” ، أي الذين يحرقون القوانين المعمول بها للهجرة، مثلما يحرقون جوازات سفرهم وهوياتهم، وكل ما يدلً على البلد الذي قدموا منه . وباتت ظاهرة طاغية تقذف بعشرات الآلاف إلى اقتتحام مخاطر الموت رغم ما يعرفونه من نتائج، وما يواجهونه من مخاطر.. بما يجعلها نوعاً من الانتحار الموصوف، والمقنًع .. وكل ذلك لأن الأوطان لم تعد تتسع لهؤلاء الشباب. لم تعد تعني لهم الكثير . لم توفر لهم الأمن والأمان والعمل والاحترام، فقرروا تركها وبالذهن الهروب والإقامة في بلاد يعتقدون أنها توفر لهم ما افتقدوه في أوطانهم .
ـ الظاهرة الثانية هي ما جرى للعراق بعد الغزو وتفتيت الدولة العراقية عن سابق تخطيط وتصميم .. حين صارت الهجرة إلى خارج الحدود، أو خارج المكان(داخل العراق) سبيلاً وحيداً للحفاظ على الحياة ، والهروب من جحيم القتل المنظم عبر فرق الموت، وفى تلك الممارسات من الحقد الكحلي التي حاولت تفتيت العراق وإشعاله في أتون حرب أهلية : مذهبية وعرقية ، فتجاوز عدد المهاجرين إلى خارج العراق الخمسة ملايين، ومثلهم ، أو أكثر، داخل العراق، عدا عن أوضاع الجالية الفلسطينية وما حدث لها، والجالية السورية الصغيرة ومعاناتها، وقد سدًت كل الأبواب بوجهها فترة طويلة .
بينما لاحقت فرق الموت، والموساد، علماء العراق وعقوله النابغة : بناة القفزة العلمية في الإنتاج العسكري المتطور، وكذا الطيارين، والضباط الكبار، الأمر الذي أجبر عشرات آلاف العلماء والأطباء إلى الهجرة الخارجية، بكل ذلً الهجرة، وشروطها، وصعوبات الإقامة وتدبير لوازم الحياة .
وهناك نوع ثالث يتمثل ب: الهجرة القسرية لأسباب سياسية ، أو بفعل الحروب الأهلية القائمة والكامنة. وفي هذا المجال يحتل السوريون المرتبة الأولى بين الدول العربية في عدد الممنوعين والمحرومين والمبعدين، وبعضهم مضى عليه عدة عقود، ناهيك عمًن رحله موت غربة كئيبة، وكل ذلك لأسباب سياسية تتعلق بالرأي الآخر المخالف لما هو مفروض في بلدهم، في حين يرفض النظامن، خلافاً لأبسط الحقوق، إصدار قوانين العفو العام، وتأمين عودتهم مواطنين عاديين بحدَ من الكرامة غير المشروطة بالذل، والمهانة، والاعتذار، والكتابة لأجهزة الأمن، ومراجعتهم .
وكنا أشرنا إلى هجرة المسيحيين العرب من معظم أماكن تواجدهم إلى المهاجر، ويمكن أن نرى ما يشبه ذلك في الأقليات الدينية، والقومية في هذا البلد أو ذاك.. التي تهرب لتجنب الموت، والتصفية، والاجتثاث، أو الاضطهاد متعدد الأشكال .
إن هذا النزيف الهجروي العام، الذي لم يعد وقفاً على أصحاب الشهادات والكفاءات، وإنما يطال معظم الشباب ، إنما يرسم لوحة بائسة، مأساوية لما وصلت إليه الأوضاع العربية من خلال النظم الأحادية الاستبدادية التي تدمي الوطن من جميع الجهات، وتستنزفه بتخلفها، وقمعها، ونهبها، ودوسها على الحقوق والكرامات، وحياة المواطن . إنه الإدانة الصارخة، الفاضحة لهذا النظام العاتي، المنخور، الميافيوزي .
الحقيقة الأليمة التي يعلنها نزيف الهجرة المفتوح على مصاريعه، أن الوطن لم يعد وطناً : أملاً، وحلماً، وحنيناً، وانتماء.. لقد هاجر الوطن في هجير ممارسة منهَجة، وتحوًل إلى عبء على تفكير الكثير من الشباب ، ذلك أن الوطن الذي لا يوفر الأمان، والطمأنينة، والكرامة، والحرية، والعدل والمساواة بين المواطنين ليس وطناً. إنه، عبر أنظمة الكل الكلي قيداً . والوطن الحقيقي هو المكان الذي يحقق الذات، ويوفر الحياة الكريمة، ويحمي حقوق الأفراد الطبيعية.. وعندما لا يكون كذلك سيهاجر مع المهاجرين الباحثين عن وطن آخر ..
هنا فإن الانتماء بمعناه الواعي، العقلاني، لم يعد أغنية الحالمين، ولا شعارات المبوقين.. لقد اختلّ كل شيء بفعل النهج المعتمد من نظم الاستبداد . اختلطت المقاييس، والتخوم، وتعوًمت الأفكار، ولم يعد الهيجان العاطفي يقنع الكثيرين .. وهذا وجه خطر يترك آثاره البالغة على مستقبل الأوطان ومصائرها . والأكيد أيضا أن عودة تلك الملايين وممارسة حياتها الطبيعية لن تكون إلا في ظل أوضاع أخرى . أوضاع تحقق الحرية والكرامة للمواطن، وفسحة للعمل، والتفكير، والبحث، ومساحة تليق بالبشر فلا يعتدى عليها بشكل سافر، ولا يضطر المواطن للانتظام في صفوف الانتهازية ضمن أحزاب السلطة للتسلق والعمشقة، والوصول إلى حقه .
الوطن السيد، الحر، الديمقراطي هو الذي يتسع جميع أبنائه على قدم المساواة .. حينها يعود الوطن من الاغتراب إلى حضن وحلم وعشق وانتماء أبنائه.. يغرَد وهو يبحث عن موصعه المناسب في العالم ..