القراءة الإسلامية لليبرالية: يوسف القرضاوي نموذجاً
يوسف سليم سلامة
يقرّر ” يوسف القرضاوي ” أنّ الإسلام يمتاز بصفتين فريدتين من دون النظريات والإيديولوجيات المطروحة في العالم بأسره، ولا سيما في نطاق دائرة التفكير العربي. وهما ” ربّانية الغاية والوجهة ” و” ربّانية المصدر والمنهج “.
أمّا ربانية الغاية والوجهة، فتعني عند القرضاوي: ” أنّ الإسلام يجعل غايته الأخيرة وهدفه البعيد هو حسن الصلة بالله تعالى والحصول على مرضاته، فهذه هي غاية الإسلام، وبالتالي هي غاية الإنسان ووجهته، ومنتهى أمله وسعيه وكدحه في الحياة. ولا جدال في أنّ للإسلام غايات وأهدافاً أخرى إنسانية واجتماعية، ولكن عند التأمّل نجد هذه الأهداف في الحقيقة خادمة للهدف الأكبر مرضاة الله تعالى وحسن مثوبته، فهذا هو هدف الأهداف او غاية الأهداف”.
ليس ثمّة من يجرؤ على التنكّر لقيمة الحرية وأهمّيتها في الحياة الإنسانية، مترجماً عنها في الديمقراطية السياسية، داخل الحياة الاجتماعية. وحتى أولئك الذين اعتلوا سدّة الحكم ومارسوه بأبشع الأساليب الاستبدادية والتسلطية والقمعية، يطيب لهم دوماً أن ينسبوا أنفسهم إلى الديمقراطية، مع أنهم في الحقيقة خصم عنيد لكلّ صورها المحتملة في حياة الفرد والمجتمع. ومن هنا لا يكفي الادّعاء من قِبل هذا المفكّر أو ذاك ـ على سبيل المثال ـ بأنّه يتبنّى الديمقراطية فكراً ومنهجاً حتى يُصنّف في فئة المفكّرين الديمقراطيين بالمعنى الدقيق للكلمة. إنّ هذا الأمر يتطلّب، أوّلاً وقبل كلّ شيء، فحصاً دقيقاً لجملة أفكاره ومقولاته وتصوّراته التي ينسب نفسه من خلالها للديمقراطية السياسية.
والقراءة السريعة لغالبية المفكّرين الإسلاميين المعاصرين ـ وعلى رأسهم يوسف القرضاوي ـ توحي بأنّهم يتبنّون الليبرالية أو الديمقراطية السياسية إلى أبعد حدّ ممكن. وفي المقابل نجد الحركات الإسلامية التي يطلق عليها اسم الحركات الجهادية، تجاهر صراحة بنقدها للديمقراطية، وعدائها لليبرالية باعتبارها مجرّد منجزات ومنتجات غربية وقع كثير من المسلمين في حبائل ضلالها ووساوس شياطينها.
وهذا الفارق الذي يظهر لأوّل وهلة بين الفريقين الإسلاميين جدير بالاعتبار بكلّ تأكيد، غير أنّ جدارته لن تتأكّد إلا بعد فحص لواحد ـ على الأقلّ ـ من نماذج الفكر الإسلامي المعاصر الذي يحاول أن يربط فكره بصورة أو بأخرى بالليبرالية السياسية.
وحتى نتبيّن أهمّية مشكلة الحرية في فكر ” القرضاوي ” وقيمة ” الديمقراطية”، باعتبارها التعبير الاجتماعي والسياسي الأرقى عن الحرية الإنسانية وعن القيمة الفردية والشخصية، فإنّه يتعيّن علينا النظر في تصوّره لليبرالية كما يمكن لها أن تتجسّد في الحياة الاجتماعية والسياسية، وتأثّرها بتجربته الشخصية والحياتية، ومعاناته تجربة الملاحقة والسجن، باعتباره أحد المناضلين المنافحين عن حقّ الفكر الإسلامي في التعبير عن ذاته تعبيراً حراً.
يقرّر ” يوسف القرضاوي ” أنّ الإسلام يمتاز بصفتين فريدتين من دون النظريات والإيديولوجيات المطروحة في العالم بأسره، ولا سيما في نطاق دائرة التفكير العربي. وهما ” ربّانية الغاية والوجهة ” و” ربّانية المصدر والمنهج “.
أمّا ربانية الغاية والوجهة، فتعني عند القرضاوي: ” أنّ الإسلام يجعل غايته الأخيرة وهدفه البعيد هو حسن الصلة بالله تعالى والحصول على مرضاته، فهذه هي غاية الإسلام، وبالتالي هي غاية الإنسان ووجهته، ومنتهى أمله وسعيه وكدحه في الحياة. ولا جدال في أنّ للإسلام غايات وأهدافاً أخرى إنسانية واجتماعية، ولكن عند التأمّل نجد هذه الأهداف في الحقيقة خادمة للهدف الأكبر مرضاة الله تعالى وحسن مثوبته، فهذا هو هدف الأهداف او غاية الأهداف” (1).
وأمّا ربانية المصدر والمنهج، فتعني ” أنّ المنهج الذي رسمه الإسلام للوصول إلى غاياته وأهدافه منهج ربّاني خالص، لأنّ مصدره وحي الله تعالى إلى خاتم رسله، لم يأت هذا المنهج نتيجة لإرادة فرد أو إرادة أسرة أو إرادة طبقة أو إرادة حزب أو إرادة شعب، وإنما جاء نتيجة لإرادة الله الذي أراد به الهدى والنور والبيان والبشرى والشفاء والرحمة لعباده “(2).
هذه هي القاعدة التي ينطلق منها المفكّر الإسلامي المعاصر في تصوّره للإسلام، وواضح من هذه القاعدة أنّ الإسلام ترسم صورته كما كانت ترسم دائماً ابتداء من أيام الدعوة الأولى. فالإسلام يجمع بين ربانية المصدر وربانية الغاية والهدف. ومن ثم يتحوّل المفكر الإسلامي إلى ناطق باسم السماء، بينما يتحوّل الفرد المسلم إلى الانخراط في نوع من الوعي الشقيّ بسبب الانقسام الداخلي العميق الذي يعاني منه، كونه إنساناً وكونه يتحتم عليه التنكر لإنسانيته إذا ما شاء الارتقاء إلى مستوى الإلوهية، من أجل تحقيق أغراض هذا الدين وأهدافه في هذا العالم الإنساني، مما يفضي به إلى سلب إنسانية العالم من دون أن ينجح في خلع الصفة الإلهية عليه.
ومن شأن هذا كله أن يجعل نقد المفكر المسلم للاتجاهات الأخرى نقداً حادّاً وشديد الثقة بذاته، بل من صحته المطلقة أيضاً. وبذلك يصبح الحوار ذا اتجاه واحد فيتحوّل إلى ما يشبه النصائح والتعليمات التي تصدر من الأعلى إلى الأدنى، فيتمّ بذلك تجاهل حقّ الطرف الأخر في الإسهام بطريقته الخاصة في هذا الحوار وإغنائه.
الليبرالية عند ” القرضاوي ” بجملتها وفي مختلف صورها وأشكالها ” اتجاه دخيل يتّخذ الغرب قبلة له وإماماً في جل شؤون الحياة ” (3)، وهذا كاف لاستبعاد الليبرالية بل وأي مذهب أخر، فبما أن هذا المذهب أو ذاك ليس من عند الله فهو بالضرورة دخيل، وبالتالي فهو مستورد من مكان ما، مما لا يؤهّله لأن يكون ذا قيمة في البلاد العربية أو الإسلامية على أقل تقدير.
وأما العناصر التي تتكوّن منها الليبرالية العربية التي كانت سائدة قبل الانقلابات العسكرية فهي ـ فيما يرى يوسف القرضاوي ـ :
العلمانية: بمعنى فصل الدين عن الدولة. النزعة الوطنية والقومية. الاقتصاد الرأسمالي والإقطاعي. الحرية الشخصية ـ بالمفهوم الغربي ـ حرية المرأة في التبرّج والاختلاط. التمكين للقوانين الأجنبية والوضعية. ظهور الحياة البرلمانية النيابية وإعلان أنّ الأمّة مصدر السلطات. (4).
إذا ما أمسكنا عن مناقشة بعض هذه العناصر مثل اختزاله الحرية الشخصية ـ إلى مجرد حرية المرأة في التبرّج والاختلاط، فإنّ أفضل ما يستصوبه ” القرضاوي ” في الليبرالية إنما هو جانبها السياسي ” الذي يتمثّل في إقامة حياة نيابية يتمكّن فيها الشعب من اختيار ممثليه الذين تتكوّن منهم السلطة التشريعية .. عن طريق الانتخاب الحرّ العامّ لمن ينال أغلبية الأصوات من المرشّحين .. وهذه السلطة المنتخبة هي التي تملك التشريع للأمة، كما تملك مراقبة السلطة التنفيذية .. وبهذه السلطات المنتخبة يكون أمر الشعب في يد نفسه وتصبح الأمة مصدر السلطات .” (5) . ورغم هذا الإعجاب الشديد الذي يبديه القرضاوي بالليبرالية ونظامها الديمقراطي، فإنه لا يستطيع أن يستمر في طريق الديمقراطية حتى نهايته. فهو يسجّل عدداً من الملاحظات تطيح بجوهر الديمقراطية التي أعرب عن إعجابه غير المحدود بها. فهو يقول عن السلطة التشريعية ” فالسلطة المنتخبة لا تملك التشريع فيما لم يأذن به الله، لا تملك أن تحلّ حراماً أو تحرّم حلالاً أو تعطّل فريضة، فالمشرّع الأول هو الله جلّ شأنه، وإنما يشرّع البشر لأنفسهم فيما أذن لهم فيه، أي فيما لا نص فيه من مصالح دنياهم أو فيما يحتمل وجوهاً عدة وأفهاماً شتى يرجحون أحدها مهتدين بقواعد الشرع … ولهذا يجب أن يقال: إنّ الأمة مصدر السلطات في حدود الشريعة الإسلامية، كما يجب أن تكون في المجالس التشريعية هيئة من الفقهاء القادرين على الاستنباط والاجتهاد، تعرض عليها القوانين لترى مدى شرعيتها او مخالفتها.” (6) .
وهو يضيف إلى ذلك شروطاً وقيوداً أخرى على المرشّحين للمجالس التشريعية، إذ يجب أن يتوفّر فيهم ” الدين والخلق بجوار الصفات الأخرى كالخبرة بالشؤون العامة ونحوها، فلا يجوز أن يرشح لتمثيل الأمة فاجر سكير، أو تارك للصلاة أو مستخفّ بالدين ” (7). وجليّ هنا أنّ القرضاوي يلغي الليبرالية جملة والحياة الديمقراطية، خاصة عندما يضع قيوداً وحدوداً على المبدأ القائل بأنّ الأمة هي مصدر السلطات، وذلك عندما يقرر أن البشر يشرّعون لأنفسهم فقط فيما لا نص فيه، وبالتالي يجب أن يقال ـ على حد قوله ـ إن الأمة مصدر السلطات في حدود شريعة الإسلام. فمن شأن هذا التعديل أن ينتقل بنا من رؤية إلى العالم مركزها الإنسان، وهي الرؤية الديمقراطية إلى رؤية ثيولوجية تقرر أن الله هو مركز العالم وان الإنسان إنما وجد ليحقق أغراضا وأهدافاً ليست أغراضه ولا أهدافه.
وعلى ذلك، فالمفكّر الإسلامي المعاصر ما يزال بعيداً جداً عن اكتشاف مفهوم الإنسان هذا المفهوم الذي لا قيام للحياة الديمقراطية بغيره، ولا سبيل إلى أخذ الدولة الحديثة بالعلمانية إلا إذا اعترفت بأنّ منظومة قوانينها تستند في نهاية المطاف إلى مفهوم مركزي واحد هو مفهوم الإنسان، ومن شأن ذلك أن يؤكّد لنا أنّ المسافة لا تزال بعيدة بين الفكر الإسلامي المعاصر، وبين أنّ يصبح قادراً على بناء دولة حديثة، فيها لمفاهيم الإنسان والحرية وحقوق الإنسان الصدارة على غيرها من الناحية النظرية، والفاعلية في ميدان التشريع والتنفيذ من ناحية أخرى.
ولو أننا نظرنا في تصوّر القرضاوي لحرية المواطن وحقوق الإنسان المرتبطة بها، لتبين لنا أنه مفكر ليبرالي وإنساني من طراز ممتاز، وهذا ما تكشفه النظرة المتسرّعة بالتأكيد. غير أنّ موقفه من قضية “المرتدّ” ودعوته إلى قتله، ترتدّ بالقرضاوي من جديد إلى طريقة التفكير الإسلامي السائدة التي تتنكّر لحقّ الفرد في أن يفكّر تفكيراً حراً، وفي أن يتديّن بالدين الذي يشاء، أو أن يتّخذ من العقائد التي قد تتجاوز الدين ذاته مبدأ لتفكيره وإيمانه الذي قد لايصدر فيه إلا عن ذاته وعن أفكاره الشخصية والإنسانية.
وهنا يميّز “القرضاوي” في مفهومه عن “حرية المواطن” بين جانبين فيها، أحدهما سلبيّ يتعلق برفع معوقات الحرية، والثاني إيجابي يتعلق مباشرة بالممارسة الفعلية للحرية داخل الدولة والمجتمع.
وفيما يتعلق بالجانب السلبي للحرية فإن “القرضاوي”يبين أن المقصود بحرية المواطن هو:”رفع الأغلال عنه وخلاصه من كل سيطرة ترهبه أو تعوقه أو تتحكم في فكره ووجدانه أو إرادته أو حركته، سواء كانت سيطرة سياسية أو دينية أو اجتماعية، بحيث يتصرف وهو يشعر بالاطمئنان والأمن والاستقلال الذاتي فيما يأخذ وفيما يدع”(8).
وأما الجانب الإيجابي لمفهوم “القرضاوي” عن “حرية المواطن”، فيتمثل في:”الحرية الفكرية والحرية السياسية، حرية المواطن في أن يفكر ويعبر عن تفكيره بالأساليب المشروعة. وحريته في نقد الأوضاع والأنظمة والاتجاهات والتصرفات ….حريته في إلقاء خطاب عامّ أو عقد ندوة مفتوحة أو تأليف كتاب يحمل رأيه ونقده أو إصدار صحيفة لا تسيطر عليها الحكومة بنفسها أو بواسطة حزبها السياسي، أو تكوين جماعة فكرية أو سياسية تعارض خط الحكومة الأيديولوجي أو السياسي أو الاقتصادي”(9).
وليس لنا من تعليق على ما يقوله “القرضاوي”حول “حرية المواطن” بشكليها السلبي والإيجابي إلا الاستحسان والموافقة من ناحية، وتذكيره ولومه، ومن ناحية أخرى، على تصريحه الذي لا يقبل التأويل حول ضرورة قتل المرتدّ. فهل ينسجم هذا الموقف الأخير مع دعوة “القرضاوي” إلى حرية المواطن في تأسيس جمعيات سياسية، وصحف حرة يستطيع المواطن من خلالها معارضة السياسة الرسمية للدولة، سواء في جانبها السياسي أو الاقتصادي، أو غير ذلك من الجوانب التي يدعو “القرضاوي” الدولة إلى إباحتها للمواطنين مع عدم إيذائهم بالحبس أو النفي أو بأيّ شكل من أشكال التعرّض غير المشروعة التي تصبّها في العادة الدولة العربية والإسلامية على المواطن. يقول “يوسف القرضاوي” عن مستقبل الحركة الإسلامية باعتباره واحداً من منظّريها، وعمّا يجب عليها أن تفعله حتى تحدّث نفسها: ” أن تخلع المنظار الأسود حين تنظر إلى الأفراد والمجتمع من حولها فلا تسارع إلى الاتهام بالكفر وإخراجهم من الإسلام بأمور قابلة للتأويل محتملة للجدال، والأصل تقديم حسن الظن وحمل حال المسلم على الصلاح وإبراؤه على أصل الإسلام ما وجد إلى ذلك سبيلاً، وأكثر الذين يتهمون في الحقيقة جهّال يجب أن يتعلموا لا مرتدين يجب يقتلوا، وقد عصمت دماءهم وأموالهم شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وحسابهم بعد ذلك على الله، أما الذين شرحوا بالكفر صدراً وأعلنوه جهرة فيجب أن يوضعوا حيث أن وضعوا أنفسهم وكل امرئ بما كسب رهين ” (10).
فهل ينسجم قتل من يسمّى بـ” مرتدّ” بسبب اختلافه مع الدولة أو الحزب الحاكم مع الدعوة إلى حرية المواطن وإطلاق كافّة الحريات السياسية في كلّ اتجاه؟ إن حرية المواطن التي يدعو إليها القرضاوي تظلّ ناقصة، ما لم يكن حقه كاملاً في حرية الفكر والاعتقاد والتديّن بأيّ دين وبعدم التديّن بأيّ دين على قدم المساواة تماماً. إنّ اعتراف من هم في المعارضة السياسية بهذه الحقوق غير المنقوصة هو الشرط الضروري كي تعترف به الدولة العربية التي ما تزال تتنكر لأبسط حقوق الإنسان والمواطن. فإذا كان من هو لا يزال في المعارضة يتنكّر ـ مثل الدولة تماما لهذه الحقوق ـ فما الذي يتوقّع منه عندما يصبح في سدة السلطة غير منازع ؟ واليوم فإنّ المثقف العربي واقع بين خطرين حقيقيين يتهدّدانه فعلاً: سلطة الدولة التي لا تقبل النقد وتزجّ به في السجن أو تشرّده وتجبره في النهاية على طلب ” حق اللجوء الإنساني “، مع أنه لم يكن ليفعل ذلك مختاراً أبداً، وسلطة المعارضة وخاصة المعارضة الإسلامية التي تهدّد كلّ من يفكّر بطريقة مختلفة عن طريقتها بالقتل والموت !!!!
ونتيجة لغياب مفاهيم الإنسان والحرية وحقوق الإنسان والمواطن، بالمعنى الدقيق للكلمة، من المنظومة النظرية للمفكرين الإسلاميين المعاصرين، أمكن ” ليوسف القرضاوي ” أن يقرّر: “إن أكبر عيوب الليبرالية الديمقراطية العلمانية هو خلوّها من العنصر الروحي، بل إغفالها له إغفالاً مقصوداً بإعراضها عن الله ورفضها أن نهتدي بهداه ” (11). ولهذا فإنّ سبب الأسباب الذي أدّى إلى فشل الديمقراطية في البيئة العربية الإسلامية في نظر ” يوسف القرضاوي “، هو ” أننا نحن المسلمين لا نؤمن بها ولا بشرعيتها ولا نمنحها عن رضا ولاءنا واحترامنا بل نؤمن أعمق الإيمان أن الليبرالية الديمقراطية نظام قاصر ككلّ الأنظمة التي يضعها البشر لأنفسهم بعيداً عن هدى الله ونوره ” (12). وإذاً فالليبرالية الديمقراطية العلمانية غير مقبولة من وجهة نظر المفكرين الإسلاميين المعاصرين لأنها ببساطة ليست ديناً، وبالذات لأنها تتعارض مع الدين الإسلامي في كثير أو قليل من القضايا والمسائل. وواضح هنا أننا بإزاء نقد خارجيّ لليبرالية يضع وجهة نظر في مقابل أخرى، من غير أن يتعمق في مناقشة الرأي المرفوض انطلاقاً من العناصر الداخلية التي تتكون منها النظرية المرفوضة، وهو أضعف أنواع النقد.
والقرضاوي يزيد أسباب رفضه لليبرالية وضوحاً عندما يتصوّر أن الشرقيين بجملتهم لا يناسبهم إلا الفكر الديني، وكأن لشعوب الشرق طبيعة يختلفون فيها عن كل شعوب الأرض الأخرى التي يصلح لها ما لا يصلح لشعوب الشرق. فإذا كان العقل الغربي مستعداً لتقبل العلم والمناهج التي يمكن أن تتطور ابتداء من العلم، فإننا نجد في المقابل ـ على ما يقول القرضاوي ـ ” أنّ الحاجة تزداد إلى الدين بين أمم الشرق، خاصة من الترك والعرب والبربر وغيرهم، لغلبة تأثير الدين عليهم وقوة دفعه لهم كما يقول “ابن خلدون ” (13) وبذلك يمضي القرضاوي إلى ما كان ” رينان” قد قرره منذ أكثر من قرن من وجود عقلية سامية ميالة إلى الدين والغيبيات والأساطير بطبيعتها، في مقابل فطرة آرية أوروبية عقلانية بطبيعتها، قادرة على فهم العلم والفلسفة والانتفاع بهما واتخاذهما مرشداً في الحياة في مقابل الدين الذي تتخذ منه الشعوب الشرقية مرشداً وحيداً لها في الحياة .
وهكذا، فإنّ رفض المفكرين الإسلاميين المعاصرين لليبرالية السياسية قد أدّى بهم إلى أن يصوّروا المسلمين على أنهم جنس من البشر يختلف كلّ الاختلاف عن بقية البشر، الذين إن صلحت الديمقراطية لهم فهي لا تصلح للمسلمين، وإن كانوا قادرين على التفكير العلمي المنطقي، فحسب المسلمين أن يتبع الخلف منهم السلف في الفكر والعمل حبيسين إلى ما لا نهاية داخل التقاليد الموروثة معزولين عن كلّ حداثة إلى أطول أجل ممكن إن كانوا يريدون أن يظلّوا مسلمين !!
مصادر البحث:
يوسف القرضاوي، الخصائص العامة للإسلام، دار غريب للطباعة، ط1، القاهرة، 1977، ص7. المصدر نفسه، ص37. يوسف القرضاوي: الحلول المستوردة وكيف جنت على أمتنا، مكتبة وهبة، ط1، القاهرة، 1977، ص52. المصدر نفسه، ص52 المصدر نفسه، ص80-81 المصدر نفسه، ص81-82 المصدر نفسه، ص82 المصدر نفسه، ص232-233 المصدر نفسه، ص133 يوسف القرضاوي، الحلّ الإسلامي فريضة وضرورة، مكتبة وهبة، ط3، القاهرة، 1977، ص264. يوسف القرضاوي، الحلول المستوردة وكيف جنت على امتنا ،ص121. المصدر نفسه ص130. المصدر نفسه ص
موقع الآوان