من هو السلفي؟
فاخر السلطان
عادة ما يطلق وصف “السلفي” على أتباع الشيخ محمد بن عبدالوهاب، إلا أن ذلك ليس إشارة دقيقة، حيث انه لا يشمل فقط هؤلاء. فوصف “السلفي”، رغم إنه يشمل السلفيين والوهابيين، إن صح التعبير، إلا أنه لا يقف عند ذلك الحد بل يتعداهم إلى غيرهم من الجماعات الإسلامية. وبجملة أخرى فقد يتعداهم إلى غالبية الجماعات الإسلامية. وحسب تعبير المفكر الإيراني مصطفى ملكيان، فإن “السلفي” هو الذي يتبنى الأفكار والمشاعر والأفعال الموروثة الراسخة التي يعتبرها البعض مقنعة بل وفوق السؤال والمناقشة وتنتقل من جيل إلى جيل عن طريق التأسي بالسلف. وفق هذا الوصف فإنه لا يشمل فقط أتباع الشيخ محمد بن عبدالوهاب، بل يشمل أيضا الكثير من الجماعات الإسلامية، حتى تلك التي تسعى لإثبات أنها غير سلفية. بمعنى أن الجماعات الأخرى المنعوتة بأنها غير سلفية هي في الواقع تستند في فكرها وثقافتها إلى التأسي بالسلف وإلى اعتبار أفكارها فوق السؤال والمناقشة، في حين أن السلفيين لا يختلفون عنهم إلا في الشخصيات السلفية التاريخية التي يرجعون إلى أقوالها وأفعالها، وفي تبنيهم لمواقف متباينة تجنح في معظم الأحيان نحو التشدد. فالاثنان ينهجان منهجا بحثيا واحدا، لكنهما يختلفان في تفسير ما صدر عن السلف مما يجعلهما يسيران في اتجاهين أحدهما متشدد والآخر أقل تشددا. كما أن وصف السلفيين هو أقرب إلى المدلول السياسي منه إلى المعرفي والثقافي، لذا بات تداوله في الأوساط السياسية وغير السياسية معبّرا عن الجماعات الدينية المتشددة.
ويشرح ملكيان معنى السلفية بوصفها تعاليم ومبادئ المدافعين عن قبول التراث وأتباعه، ومن يرون التراث أوثق وأجدر بالاعتماد من الأفكار والمشاعر والأفعال المتأتية عن التجارب والتفكير الشخصي. وهذا بالطبع أمر ينطبق على مختلف الجماعات الدينية أيضا لا السلفيين وحدهم. ويفرق ملكيان بين لفظ “السلفي” ولفظ “ذو نزعة سلفية”. ويقول في هذا الإطار أن السلفي هو الشخص الذي يتأسى بالأسلاف عن غير وعي في أفكاره ومشاعره وأفعاله، ويعتبر السلف الذين يقلدهم فوق مستوى المناقشة، أما الشخص “ذو النزعة السلفية” فهو الذي يتأسى بالأسلاف على نحو واع، أي لو استنتج بفضل أدلة رصينة أو بفعل تفكيره وتأملاته الشخصية أن التأسي بالماضين أرجح من التوكؤ على التجارب والأفكار الشخصية وراح على أثر هذا الاستنتاج يقلد السلف عن وعي وإرادة وقصد مسبق فإنه لن يكون سلفيا وحسب وإنما هو صاحب نزعة سلفية. ويؤكد ملكيان بأن حياة السلفي مماثلة تماما لحياة صاحب النزعة السلفية، لكن بينهما فارقا مهما، وهو أن السلفي يعيش بأسلوب تقليدي لمجرد أنه لا يعرف أسلوبا سواه، أي أن الأسلوب الوحيد الذي يعرفه هو هذا الأسلوب الذي ورثه عن الأسلاف، أما صاحب النزعة السلفية فيعمل بأسلوب تقليدي للحياة، لأنه خبر أساليب الحياة الأخرى ووجد أنها غير وافية، أو أنها لا تخلو من العيوب والثغرات بنفس درجة الأسلوب التقليدي. فالسلفي يلتزم أسلوب الحياة التقليدي لجهله بالأساليب الأخرى، بينما الثاني يلتزم به على الرغم من علمه بالأساليب الأخرى.
ويشير ملكيان إلى أن أخطر نقد يوجه لأسلوب التفكير والحياة التقليدي أنه تعبدي يطالب بالتسليم والتقليد، لذلك هو فرار من الاستدلال بل ومناهض للاستدلال. وعلى هذا الأساس فإن التعبد بالنسبة إليه ليس سوى قمع الشعور بالتطلع والفضول وتعطيل الحركة العقلانية. فالمتعبد، بالنسبة لملكيان، ينحر مواهبه المتسائلة الباحثة عن الدليل حينما يكون حيال موجود مقدس وكلام فوق النقاش، ويستند ملكيان في رأيه هذا إلى أن العقلانية والحرية عنصران رئيسيان من العناصر المكونة للإنسانية وبالتالي فإن التعبد والتسليم والتقليد هي مقولات تتنافى على المستوى النظري مع العقلانية وعلى المستوى العملي مع الحرية، وينبغي أن تنحدر إلى أدنى درجاتها الممكنة، لكن أسلوب التفكير والحياة التقليدي على العكس من ذلك له قابلية أكيدة على توسيع وتعميق مديات التعبد والتسليم والتقليد.
إن الجماعات الإسلامية، بمن فيها تلك التي توصف بالسلفية، عادة ما تشدد على ضرورة تقليد المسلمين للفقهاء والمراجع والمفسرين الذين ينشطون في مجال تفسير ما جاء على لسان السلف، باعتبار أن التقليد هو الوسيلة الأبرز لمنع السؤال من تجاوز حدود التفسير السلفي للكلام المقدس، وبقاء ذلك الكلام فوق النقاش. لذا أي حركة باتجاه الحرية والعقلانية هي حركة ضد الدين السلفي القائم على التسليم والتقليد.
يؤكد ملكيان بأنه حينما تتوقف حركة العقلانية الحرة، سيوافق الإنسان على الكثير من الآراء والنظريات، أو يعارضها من دون أي دليل أو برهان (عقلي). وهذا التأييد أو المعارضة المفتقرة للدليل، تمهد الأرضية لرذيلتين ذهنيتين: الأولى هي التعصب، والثانية هي الحكم المسبق. وحينما يسمح الإنسان لنفسه أن يؤمن بكلام من دون دليل أو برهان، يكون قد عرض نفسه لمخاطر الخرافات. يقول ملكيان بأنه ما من إنسان تقليدي يرى مضامين تراثه الذي يؤمن به خرافات، لكن يرى أمثالها في تراث الآخرين خرافات وترهات. ويضيف: “وماذا عسى أن تكون النتائج غير هذه حينما يكون الرفض والقبول بلا أية أدلة؟”.
هذا ما يفسر إلغاء الجماعات الإسلامية لبعضها البعض، وللجماعات الأخرى غير الدينية، حيث يستند اعتقادها إلى الرؤى الضيقة القائمة على التأسي بالسلف (سلفها هي وليس سلف غيرها). وتجاهلها لتلك المعتمدة على الدليل والبرهان العقلي يجعلها تتعصب لرأيها وتلغي الرأي المختلف معها (الديني وغير الديني).
ي المقابل لا يمكن بأي حال من الأحوال إطلاق وصف حداثي على شخص أو مجتمع ما من دون أن تتوافر في ذلك الشخص أو المجتمع صفات محددة. كما لا يمكن أن نضع وصف الإنسان الحداثي إلا في مقابل وصف الإنسان السلفي. فالحداثي هو من يتبنى ثقافة يغلب عليها الطابع الدنيوي العلماني واحترام الفرد والنزعة الإنسانية والبحث والتخطيط العقلاني الحاث على السؤال والمناقشة والنقد. بمعنى أن الحداثة يجب ألاّ تتسم إلا بالصفات التي لا تؤمن بها السلفية، وهي حسب ملكيان تتمثل في التهرب من التراث والسلف، والدعوة إلى تطور الإنسانية وتقدمها، والتحرر فكريا، ومناهضة التعبد، والمطالبة بالمساواة، كما أنها ذات نزعة فردية وإنسانية وتؤمن بالعقل الجزئي الاستدلالي التجريبي.
والصراع بين الحداثة والسلفية صراع تاريخي أخذ مسميات أخرى مختلفة، منها على سبيل المثال الصراع بين النهضة والتراث. ويشبه العالم الإنجليزي وليام جيمز ذلك تشبيها رائعا حيث يقول: “في البدء يستقطب نبي، صاحب أحوال دينية جد شديدة ومركزة، أتباعا له، فيصنع هو وأتباعه نهضة، يعدها أنصار التراث ضربا من البدع. وقد تنهار هذه النهضة تحت ضربات أنصار التراث وتضييقاتهم، وقد تنتصر وتبقى وتتحول إلى تراث جديد. وينقلب هذا التراث في يد أتباعه إلى هراوات وسياط تنهال على أي نبي جديد يظهر في المستقبل، بيد أن هذا النبي الجديد سيطوي ذات المسار الذي طواه النبي السابق، وهكذا دواليك”. فالحركة التاريخية التي يطرحها جيمز تعبّر أفضل تعبير عن الصراع بين السلفية والحداثة، حيث تعتبر الأولى أنها كانت في لحظة تاريخية معينة انعكاسا لنهضة إصلاحية ضد بعض الموروث الديني الممتزج بالبدع، من دون أن تعي بأنها ستصبح في مرحلة لاحقة معبرة عن موروث لا يستطيع أن يتعايش مع المرحلة الراهنة ولابد أن تتغير أيضا. في حين أن الحداثة إذا ما ابتعدت عن السؤال والمناقشة ونقد الذات فستصبح في مرحلة لاحقة جزءا من التراث أيضا. وحسب ملكيان فإن التديّن بوصفه تسليما وتعبدا وتقليدا، لا يمكن أن يجتمع مع الحداثة إلا إذا تغير مفهوم التديّن وأصبح مغايرا وجديدا ولا يحمل مضامين التقليد والتسليم وشروطهما حيث سيكون قادرا على الاجتماع والتعايش مع الحداثة باعتبار أن التقليد والتسليم يناهضان العقلانية الاستدلالية والحرية بوصفهما أساسين اثنين من أسس الحداثة.
لذا يطرح ملكيان نوعين من التديّن هما: التديّن السلفي والتديّن الحداثي. فإذا كان بمعنى التسليم والتعبد والتقليد فسيكون تديّنا سلفيا بسبب مناهضته لأسس الحداثة، أما إذا كان التقليد والتسليم والتعبد ليس من شروط التديّن آنذاك سنكون قادرين على القول بأن هناك تديّنا غير مناهض للحداثة. ومن الطبيعي للتديّن القائم على التقليد والتسليم والساعي للفرار من الاستدلال، وهو التديّن الذي تدعو له معظم الجماعات الإسلامية من سنية وشيعية، أن يناهض التديّن الآخر الحداثي، بل وأن يناهض كافة أنواع التديّن الأخرى، المذهبية أو تلك المرتبطة بالأديان غير الإسلامية وغير التوحيدية أيضا. فالمتدين السلفي بسبب أن تدينه قائم على التعبد والتقليد وعدم الاستدلال، يرى تديّن الآخرين ليس سوى انحراف لأنه يرى نفسه بأنه الوحيد الذي على حق مطلق ومع الحق المطلق، وأن الآخرين المختلفين معه ليسوا إلا مظهرا للعناد مع الحق. في حين أن المتديّن الحداثي يرى تعايشا مع المتديّنين حتى لو كانوا لا ينتمون إلى مذهبه أو دينه، إذ العامل الذي يجعله يتعايش دينيا مع الطرف الآخر هو عامل جامع وهو العامل العقلي الاستدلالي، وشتان ما بين التعصب الذي ينفّر الآخرين والاستدلال الذي يجمع الآخرين.
كاتب كويتي