صفحات مختارةموفق نيربية

كلٌّ يدّعي وصلاً بليلى!

موفق نيربية
كان الشيوعيون أول من حاول توسيع مسألة الحزب السياسي الذي يحمل فكراً وبرنامجاً لتمثيل مصالح طبقة اجتماعية، للحلولِ مكانَ هذه الطبقة، من دون أن تدري بالأمر أو تُستشار، ثم جاء الفاشيون بتعميم مطلق، ليدّعوا تمثيل الشعب من أدناه إلى أقصاه. من مثل ذلك، أن يقدّم حزب من الأحزاب نفسه، انطلاقاً من فكره والإيديولوجيا التي يحملها، أو من اسمه وحده أحياناً، كممثل شرعي وحيد لأبناء عرق أو أتباع دين، وهذا من بذور الخطأ والفشل المستمر المتوالد.
اضطرت الإدارة الأميركية للسياسة العراقية حين واجهت العصبية الإسلامية السنية في أشدها وذروة احتدامها إلى الاستنجاد بالعصبية العشائرية، ونجحت في ذلك إلى حدٍ كبير. والعصبية الأولى «أحدث» من الثانية في التاريخ والقوام الاجتماعي، لكنها أضعف من حيث مكونات الروح القتالية، فهي صلة بالدم الساكن المتوارث، ثم بالدم المسفوح.
وفي العربية، نشأ اسم الحزب السياسي في مفهومه البكر، المعتمد أيضاً على مفهوم السياسة كعملية تستهدف السلطة أو الهيمنة، في إطار الدولة حديثاً، وإطار الجماعة البشرية قديماً، نشأ بالعلاقة مع القَبَلية والعشائرية. كان ذلك مجرداً قبل الإسلام، أيام حروب عبس وذبيان، وبكر وتغلب، وهادفاً إلى منافسة أو دعم العصبية الدينية الشابة. اعتمد حزب الأمويين على اليمنية، وكانوا أصهارهم وحسب، واعتمد ابن الزبير على القيسية. وبقيت «حروب» القيسية واليمنية قائمة قاعدة في بلاد الشام (فلسطين ولبنان والأردن خصوصاً) حتى ما بعد منتصف القرن التاسع عشر بقليل. وحتى الغطاء الطائفي في لبنان لم يكن قادراً على تجنيد عصبية كافية للقتال بمقدار العصبية القبلية آنذاك.
حديثاً، مع نشوء مسائل الدولة والاستقلال والمجتمع المدني، جرت محاولة لاشتقاق عصبية قومية أو وطنية، كما فعل الأوروبيون «بتعميم القبلية إلى العرق فالأمة» كوعاء يكون فيه «المواطنون» هم الأصل. ثم دخلت عليها عندنا العصبية الدينية لملء الفراغ الذي خلقه العجز عن متابعة التطور لأسباب عضوية داخلية وخارجية.
ولأصحاب الإيديولوجيا المستندة إلى الدين أن يجدوا طريقهم المشروع إلى التمثيل السياسي، من دون انغماس واستخدام لذلك في الضرب تحت الحزام، حين يجري اعتبار إيديولوجيا الحزب ممثلة للدين، لإقصاء الخصوم السياسيين خارجه. يجري أيضاً ادّعاء تمثيل جميع أهل هذا الدين، لتضخيم الحجم وإرهاب الآخرين، وابتزاز التأييد من دون تمحيص.
هنالك حزب في كندا، اسمه «حزب التراث المسيحي»، يدعو إلى أن تُحكم البلاد وفقاً للتعاليم الواردة في الكتاب المقدس، الذي يوصف عندئذٍ بأنه «كلمة الله الموحى بها والمعصومة عن الخطأ». تأسس الحزب في مؤتمره الأول في أونتاريو عام 1987، وقدم مرشحين للانتخابات في العام التالي، ولم يستطع تسمية خمسين مرشحاً في انتخابات 1993، فتم شطب تسجيله الرسمي.
ثم استطاع ذلك في انتخابات 2004 وأعيد تسجيله رسمياً. هدف الحزب المعلن تطبيق المبادئ اليهودية-المسيحية في العدالة وتلبية الحاجات السياسية العامة لكندا، لكنه «يعترف» بأن هنالك مسيحيين عديدين موجودين في أحزاب أخرى، وينكر خصوصاً سعيه إلى تنصير الكنديين غير المسيحيين.
تجادل جماعة الحزب بأن «العهد الكندي للحقوق والحريات» يذكر الله في ديباجته، ويعنون بذلك طبعاً الإله اليهودي-المسيحي. ومن مواقفهم تأييد الحرب على العراق، والدعوة إلى زيادة دعم الأسرة لتشجيع «أحد» الأبوين على البقاء في البيت لتربية الأولاد.
خلاف ذلك، تأسست الأحزاب الديمقراطية المسيحية في أغلبها على الاعتدال والوسطية ونفي احتكار تمثيل المسيحية والتمسّك بالديمقراطية والحداثة والدولة المدنية. ولو كانت غير ذلك لاستطاعت قوة الحياة الدستورية وعجينة المجتمع الحديث أن تحاصرها وتنهيها.
تركيا مثال وسيط بين الحالتين الغربية والإسلامية أو العربية. لن تستطيع إنهاء حزب العدالة والتنمية من دون تجاوز المبادئ الديمقراطية، ولن يستطيع هذا تجاوز الاعتدال في إسلاميته من دون الاصطدام العنيف بالدستور وقواه الفاعلة التي تجذّّرت إلى حدٍّ لا يمكن تحديه. لدينا أمثلة مختلفة، حدث فيها استنجاد من قبل عشيرة محدودة بالدعوة القوية، حتى تستطيع ضمان الهيمنة ونشرها في نطاقٍ أكبر. وهذا إن كان مقبولاً في سياق نشوء الأمم والدول، فهو غير مقبول بشكل دائم ومتعارض مع متطلبات التقدّم والمعاصرة والحفاظ تاريخياً على الشرعية.
أما ما هو خطر ومرفوض، فهو أن تدعي جماعة أو حزب أو تيار إسلامي مثلاً تمثيل الإسلام والمسلمين، وتخرج الآخرين وعقلهم من هذه الدائرة، والأسوأ بكثير أن يأتي فرد- مهما كان مقامه- ويدّعي مثل ذلك.
وإذ «يقولون إن ليلى في العراق مريضة»، فالأجدى الانتباه إلى علاجها، وليس التغزّل بقسمات وجهها «العليلة»، أو السعي للفوز بها على علّتها ودائها.
* كاتب سوري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى