صفحات مختارة

اليسار الجديد

د.عبدالله السيد ولد أباه
تشهد الساحة الإيديولوجية هذه الأيام مفارقة مثيرة، تكمن في أن اليمين في الغرب، أصبح يمثل القوة الدافعة للتحول، في الوقت الذي أصبح اليسار المدافع عن حالة الوضع القائم والواقف أمام ديناميكية التغيير الذي يعتبره أصبح خارج أي تحكم ومن دون أي أفق غائي.
يكفي لإدراك هذه الحقيقة الاطلاع على كتابات وتصريحات الساسة الاشتراكيين والشيوعيين الذين تغيّرت علاقتهم بالزمن، الذي لم يعد ينظرون إليه من حيث هو حركية التاريخ الحاملة بذاتها لقيم التحديث والتنوير، وإنما زمن العولمة الأعمى العدمي.
يظهر موقف اليسار من الرهانات الثلاثة الرئيسة المطروحات على المجتمعات الأوروبية وهي: العلاقة بالثورة التقنية الثانية والعلاقة بالعولمة الاقتصادية، والموقف من الدولة القومية.
فبخصوص الثورة التقنية الثانية القائمة على الاتصال والتصرف الجيني، نلحظ أن الفكر اليساري يرى فيها، على عكس الثورة الأولى المتمحورة حول الفيزياء، استعبادا للإنسان وتحكما فيه وتدميرا لأمنه البيئي، ما أفقد العلم التجريبي غائيته الأولى التي لخصها فيلسوف الحداثة الكبير ديكارت بمقولة «السيادة والسيطرة على الطبيعة».
ومن الواضح هنا ان اليسار أصبح في نقده للعلم والتقنية أقرب لتصورات الفيلسوف الألماني المعروف مارتن هايدغرالذي كان ينعت بفيلسوف النازية. فهايدغر هو من وصف العلم بأنه «لا يفكر»، واعتبر التقنية «ميتافيزيقا الحداثة» المفضية إلى تدمير الوجود الإنساني الأصيل، وتحويل الكون إلى مجرد مخزون للطاقة في ما يشكل إعلان حرب على الطبيعة. إنها الانتقادات عينها التي نقرأها اليوم في الكتابات اليسارية، التي كانت في الماضي تتخذ العلوم التجريبية أنموذجا للتأسيس الابستمولوجي للمباحث الإنسانية وتراهن على قدرتها في تحرير الإنسان من قبضة الخرافة والفقر والعجز.
فالثورة التقنية الثانية ولدت من هذا المنظور إيديولوجيا خطيرة تكمن في النزوع إلى «تحسين النوع الإنساني» بالتصرف في الموروث الجيني، ما يعني عمليا إلغاء حرية الإنسان ببرمجة سلوكه والتحكم مسبقا في ميوله وغرائزه.
وبخصوص العولمة الاقتصادية، نلاحظ أن عموم التيارات اليسارية تقف موقفا مناهضا لها، وترى فيها تحقق أقصى درجات الاستغلال الرأسمالي، وتوسع منطق السوق وتمدده إلى كل مناحي الحياة الإنسانية. نقرأ هذه الأفكار في أدبيات تيار «العولمة البديلة» الذي برز بقوة في السنوات الأخيرة، وتشكل في إطار شبكة بورتواليغرو، التي هي النقيض المعلن لنادي دافوس، وكتلة الثماني (الدول الصناعية الأكثر تقدما).
ففي مقابل رهان ماركس على الدينامية الاقتصادية في تقدم الإنسانية، تنظر التيارات اليسارية الجديدة بعين الارتياب والشك للحركية الاقتصادية التي ترى فيها تقويضا لمنطق الإنتاج القائم على الصراع الطبقي، بالعمل على فك الارتباط بين الإنتاج الاقتصادي الحقيقي والسيولة المالية المنفلتة من كل رقابة، في الوقت الذي تحولت بنية العمل ببروز نمط «العمل غير المادي» القائم على الذكاء الإنساني.
وبخصوص الدولة القومية، نلاحظ أن اليسار الذي كان في الماضي حامل التصورات الأممية الكونية، غدا اليوم المدافع الرئيس عن فكرة السيادة التي ارتبطت بالتصورات اليمينية للأمة، متلائما في هذا الموقف مع التيارات اليمينية المتشددة. ولا شك أن خلفية المقاربة اليسارية هنا، هي ما هو ظاهر من ارتباط حركية التكتل والاندماج الإقليمي والدولي بمنطق العولمة الاقتصادية.
تتمسك تشكيلات اليمين الأوروبي بالثورة التقنية الثانية التي ترى فيها امتدادا طبيعيا للثورة الأولى، وتجسيدا عمليا لحلم الإنسان في المعرفة والتواصل من دون قيود، وفي القضاء على العجز والمرض. كما تتمسك بمنطق العولمة الاقتصادية، وما يقوم عليه من قيم كونية، وما يقتضيه من صيغة «سيادة متقاسمة».
وتنعكس هذه التحولات بين اليمين واليسار في القوالب الفكرية الجديدة، حيث نلمس التروتسكيين السابقين في أميركا يتحولون إلى«محافظين جدد» يدعون إلى نشر الديمقراطية والقيم الليبرالية بالقوة. ونرى رموز ثورة 1968 في فرنسا يتبنون منطق «التدخل الإنساني»، ويدافعون عن حروب بوش الاستباقية. ونرى الماركسيين الراديكاليين من نوع الفيلسوف الايطالي انتونيو نغري يعيدون اكتشاف أطروحات المفكر والقانوني الألماني(النازي) كارل شميت حول السيادة والشرعية.
نلمس التحول نفسه في الخارطة السياسية، فهذا الاشتراكي الحالم كوشنير، وزيرا لخارجية اليميني المدعوم من اللوبيات المالية والصناعية ساركوزي، وهاهم رجال بوش يتقاسمون حقائب المسؤولية مع رجال حملة أوباما الذي كان نجاحه حدثا استثنائيا بنيت عليه توقعات بالتغيير الجذري الوشيك.
لم يعد خط التمايز القديم بين اليمين واليسار المفتاح السحري لتركيبة الحقل السياسي التي يحتاج استكناهها لأدوات نظرية ومفهومية جديدة تتناسب ومعطيات العالم الراهن.

كاتب من موريتانيا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى