انتفاضات الرغيف
خيري منصور
ما عجزت عنه الحرية، وحقوق الإنسان قد تحققه الضرورة، وهي تتكثف في الرغيف بكل ما يعنيه لعرب صاموا زمناً طويلاً وأفطروا على لحم بطونهم، فكيف تحول الفائض إلى نقصان والدائن إلى مدين؟
لقد فرغت السلال، التي نسبت لهذا القطر العربي أو ذاك، ففي أرض السواد التي كانت لعصور أمثولة في الاخضرار والماء والخصب لم يبق من اسطورة البابليات اللواتي يحملن الجرار الفارغة والسلال الخاوية غير صدى لنشيج بعيد.
فهل ستأزف تلك اللحظة التي يتحلق فيها ربع مليار حول رغيف كما لو كان مائدة مستديرة، تتحقق من خلال ديمقراطية الجوع؟ إن الأسئلة التي تتناسل بلا نهاية لا تعثر على أية إجابة، ما دام الجميع يتهربون من مواجهة الواقع، بكل ما يمور به من حراك يبحث عن بوصلة.
والفارق بين انتفاضات الحرية والاستقلال وانتفاضات الرغيف هو ذاته الفارق بين الدماغ والأحشاء، لأن الحاجة ربطت حبل السرة بالعقل، وبشّر الواقعيون الجدد بمضادات الحلم، قائلين ان الإنسان يحيا بالخبز وحده.
أما الشاعر العربي الذي قال ان الزاد أشرفه القليل فقد خيبت الأيام ظنه، بعد أن تصاعدت وتيرة الاستهلاك إلى الحد الذي أصبح معه الإنسان اسفنجة ذات آلاف الأفواه الفاغرة.
ومن سماه هربرت ماركيوز “الإنسان ذو البعد الواحد”، لم يعد ضحية الرأسمالية المتوحشة في معاقلها التقليدية فقط، إنه بعد أن تعولم أصبح ضحية شقاء كوني عابر للقارات وللثقافات واللغات، فالصرخة سواء كانت استغاثة أو احتجاجاً لا حاجة بها إلى الترجمة، لأنها هي نفسها في كل لغات العالم تماماً كالضحك والبكاء.
فما من ضحك بالإنجليزية أو الفرنسية وما من بكاء بالألمانية أو الإيطالية أو العربية، لأن هذا المشترك البشري لا يعترف باختلاف الألسنة، ويخترق كل المعاجم.
قبل قرن من الزمان كانت الأحلام الكبرى تتجاوز نداء الأمعاء، ومن قتلوا أو سجنوا أو شردوا دفعوا أعمارهم ثمناً لحرية هي الأغلى من كل شيء.
لكن التقدم العلمي اقترن بتقهقر روحي وأخلاقي، فما كان عالياً يطال الجبال أصبح جبينه يلامس قدميه لفرط الانحناء، والمقولة الشهيرة عن الإنسان الذي يأكل ليعيش انقلبت، شأن كل شيء في عصرنا، وأصبح الإنسان يعيش ليأكل فقط، هذا إذا كان الطعام ميسوراً.
فثمة كائنات كانت آخر وجباتها أسمالها التي خلفت الجسد عارياً بعد التهامها. والمليارات من الجائعين والمشردين وفاقدي الرجاء بتغيير الحال، قد يندلعون من القماقم ذات ظهيرة سوداء، فتكون انتفاضات الرغيف هي البديل لانتفاضات الحرية والانعتاق من شتى الارتهانات.
فهل ضاقت الأرض وتضاعف عدد ساكنيها عشرات المرات بحيث اختلت المعادلات كلها، وأصبحت لقمة كل فرد في فم الآخر؟
إن ما قاله برنارد شو ذات مجاعة وهو ان العالم يشبه صلعته ولحيته بسبب غزارة الإنتاج وسوء التوزيع يصح على أيامنا، وما يستحق الانتفاضة ليس الرغيف، بل فلسفة الاحتكار والاستئثار التي غمسته بالدم