هل يصبو الإنسان إلى الحرية؟
ياسين الحاج صالح
أكثر ما يزعج السجين بعد إقامة طويلة في السجن هو… حريته التي حلم بها طويلا، إنه مضطر الآن لاتخاذ قرارات عسيرة وغير مضمونة النتائج بشأن حياته، بينما الوقت أضحى أكثر ندرة بسبب ما ضاع منه في السجن. وتلك قرارات قد تكون لها تبعات مؤلمة عليه وعلى من يُعنى بأمرهم،
نفترض بعامة أن الناس يريدون الحرية، بيد أن هذا يحتاج إلى تدقيق وتلوين.
فالحرية تعني أن يفكر الإنسان من رأسه لا من رأس غيره، وهذا شاق. وهي تعني أيضا أن يتخذ قرارات صعبة وغير مضمونة النتيجة، غير تارك للمقادير ومقدريها أن يسيّروا حياته، وهذا شاق بدوره.
وتعني الحرية كذلك أن يحرص الإنسان على استقلاله وفرديته، وما قد يحمله ذلك من عزلة. وهذا شاق أيضا.
وقد تعني أن يتمرد وينفلت، «قاتلا الأب»، ومحطما سياج البيت، متطلعا على اعتلاء قمة رأسه، وهذا أشد مشقة بعد وقد يفضي إلى الجنون.
يميل الناس عموما، في الغرب وليس لدينا فقط، إلى الاقتداء بمرجعيات أو سلطات يعتبرونها أكثر حكمة وأوسع إدراكا منهم، إن زعيما سياسيا أو رجل دين أو نجما من نجوم الفن أو إعلاميا مشهورا… «يعرف» أكثر وأحسن منا، فإذا رأينا رأيه أو اعتنقنا عقيدته أو قلدنا زيه أو تكلمنا كما يفعل… كبرت فرصتنا في أن ننجح مثله، أو على الأقل ألا نضل ضلالا بعيدا. الرئيس عبقري، والشيخ الفلاني بحر علم، والنجم الفلاني مثال للوسامة، فهل نحن أذكى أو أوسع علما أو أكثر تقى أو أكثر وسامة؟ وحزبنا هو أحسن الأحزاب، فهل أنت، أيها المتنطع، «أفهم» من الحزب؟ هذا شيء يقوله المرء لنفسه، أو يقوله آخرون له إن أوجسوا منه شكا، وحرية تفكير.
***
الأمر أصعب بعد على مستوى اتخاذ القرار. أكثر ما يزعج السجين بعد إقامة طويلة في السجن هو… حريته التي حلم بها طويلا، إنه مضطر الآن لاتخاذ قرارات عسيرة وغير مضمونة النتائج بشأن حياته، بينما الوقت أضحى أكثر ندرة بسبب ما ضاع منه في السجن. وتلك قرارات قد تكون لها تبعات مؤلمة عليه وعلى من يُعنى بأمرهم، ما يدعو أناة وتريثا قد يسلمان إلى إحجام أو خور.
هذا يواجه الإنسان في كل وقت. ينبغي أن تتوافر له معرفة وافية في شأن العالم الذي يعيش فيه، وتحت تصرفه غير قليل من المال وغير قليل من الوقت (شاب)، كي تثمر قراراته النتائج المرجوة، أي كي لا يكون لفشلها المحتمل آثار مدمرة. لكن من يحوزون وقتا ومالا ومعرفة ليسوا كثيرين بيننا، ويحتمل أن يستغنوا بمالهم عن حريتهم. الأفضل إذن ألا نقرر، نترك الأمور تجري على أعنتها، ونساير جميع السائرين حولنا. أو كما يقول المثل الشعبي السوري: «حط راسك بين الروس، وقول يا قطاع الروس»! أي امتثل ولا تخالف ولا تستقل، فأن يكون رأسك مقطوعا بين الرؤوس أصوب من أن يبقى موصولا بجسمك وحيدا. والدين يثبت هذا الشرط الامتثالي المضاد للحرية والاستقلال الشخصي حين يجعل من مفارقة الجماعة مساسا بالإيمان ذاته. والأعراف الشعبية تفعل الشيء نفسه حين تجعل من مخالفة العرف بحثا محتقرا عن الشهرة: خالف تعرف!
فوق ذلك يحمل الانفراد والتطلع على الاستقلال خطر العزلة وخسارة «دفء» المجتمع الأهلي، ومقاطعة الأصدقاء والرفاق. ها أنت حر، لكنك معزول ووحيد!
وكقضية عامة، تقتضي الحرية إقداما قد يكون باهظ الكلفة، بل هو غالبا كذلك. وسوء التفاهم المتكرر الذي يقع فيه «المناضلون من أجل الحرية» هو افتراضهم أنهم يدافعون عن قضية عامة بديهية. هذا قلما يكون صحيحا.
تفكير شخصي، قرارات صعبة وغير مضمونة، انفراد وعزلة، إقدام مورد للمهالك، هذا ما تساويه الحرية. فهل هي ذلك الشيء العظيم؟ إنها محنة وليست كسبا صافيا، مشقة وليست فوزا. لكن:
لولا المشقة فاز الناس كلهم الجود يفقر والإقدام قتّال
على أنه يبدو أن الناس لا يتحملون بالفعل، ما استطاعوا، خسارة نوع من الحرية: أن تنصب عراقيل دون ممارستهم نمط الحياة الذي اعتادوا. أي أن يكونوا أحرارا في تقرير نمط تخليهم عن الحرية الذي ارتضوه لأنفسهم. لا تفرض علي أن ألبس حجابا أو ألا ألبس حجابا. قد أتبعك، لكن لا تقرر عني أن أتبعك. لا تسخّرني. لا تحرّرني. اتركني بحريتي. والحرية التي يبدو أننا نحرص عليها ولا نطيق خسارتها، هي الحرية السلبية (بتعبير إيسايا برلين). ليست حرية أن نفعل كذا وكيت، بل أن نترك لما نرضى أن نفعل، ألا تنصب الحواجز بيننا وبين ما نريد.
أما الحرية الإيجابية بمصطلح برلين نفسه، أو الحرية الجمهورية، التي تقتضي سلطة تحددها وأهدافا تتوافق معها، والتي تضيق بمفهوم الحرية السلبية، الليبرالية، فتجنح إلى التدخل في حياة الأفراد والجماعات، وقد تتحول إلى استبداد «محرّر»، يبرر نفسه باسم حرية جمعية. إنها تريد أن تعلمنا وتنورنا وتضمن لنا المساواة وتزجنا في العملية التحررية التي قد تسمى بناء الوطن أو الاشتراكية أو التنمية الشاملة. كل ذلك لمصلحتنا، نحن الجماهير أو الشعب أو الإنسانية…، المصلحة التي يعرفها على حقيقتها محررونا المفترضون.
لكن ينتهي الاستبداد المحرر أن يحتكر التفكير والقرار والاستقلال الذاتي والإقدام. فهو وحده الحر.
***
الحرية الإيجابية مستبدة. بيد أن حرية سلبية ترتد إلى غياب العوائق أمام ما قد نريد، قد ترتد هي ذاتها إلى ضرب من النزعة المحافظة الخاملة، تكرار لما اعتدنا وجمود عليه. مفهوم الحرية السلبية لا ينصب أي حواجز ضد قيام وسيادة نظم تخنق الحياة والإبداع والجديد من حيث هي تكتفي برفع أي حواجز من أمام ما يرتضيه الناس لأنفسهم. ولما كانت الحرية جهداً شاقا، فإن الحرية السلبية إذ تؤهل الظروف المناسبة لتجنب المشقة، قد تولد استبداد التقاليد والعرف، مما نعرفه جيدا في مجتمعاتنا العربية.
إنقاذ فرص الحرية يقتضي مبدأ آخر، غير رفع الحواجز. أي مبدأ؟ كيف تنتظم الحياة الاجتماعية بحيث توفر أوسع مضطرب حياتي وفكري لأكبر عدد من الناس؟ الإجابة الماركسية تقفز إلى الحرية الجمهورية التي آلت إلى استبداد محرر مخيف. ثمة إجابة نيتشوية (أخلاق الإنسان المتفوق)، بيد أنها نخبوية، وقد تحمل عناصر فاشية.
ربما يمكن لمزيد من الأفراد أن ينعموا بالحرية والاستقلال بنتيجة تحول اجتماعي وثقافي وتربوي واقتصادي مديد. والسؤال الحاسم هو: هل يمكن أن يحظى الناس جميعا باستقلال ذاتي تام؟ هل يمكن أن تتكون البشرية يوما من مليارات الأفراد القائمين برؤوسهم، المستقلين، الأحرار؟ هذه هي على أي حال طوبى الليبرالية التي كانت اعتنقتها الشيوعية، وأسستها على فاعلية إنتاجية متقدمة و«مسيطرة على الطبيعة». لكن الحرية هذه تبدو خطرة ومكلفة، وربما مستحيلة. فهي تقتضي استعبادا مطلقا وغير مسؤول لكوكب الأرض، والكوكب منذ الآن يئن من حرية ربع سكانه فحسب.
السؤال إذن: كيف نتجاوز الحرية الليبرالية من أجل حريات أوسع لأعداد أكبر من الناس مع الحفاظ على الحاضنة الطبيعية للحياة الإنسانية، بل مع احترامها وإغنائها؟
* كاتب سوري
خاص – صفحات سورية –