الثالوث المحرّم في خطاب اليسار المرتدّ!
نصر شمالي
على مدى السنوات العشر الماضية، تشكّلت في بلادنا تيارات سياسية معادية جذرياً للعروبة والإسلام، وللقومية والوحدة، وللاشتراكية واليسار، وللمقاومة والتحرير! لقد أصبحت هذه التيارات حقيقة قائمة نصطدم بها في حياتنا اليومية أنّى توجّهنا، وصارت لها حكومات رسمية تمثّلها،
كما هو الحال في العراق ولبنان وفلسطين وغيرها، أمّا الراية التي ترفعها هذه التيارات فهي راية الليبرالية والديمقراطية وحقوق الإنسان، مغفلة الإشارة إلى مسألة السيادة الوطنية أو القومية إغفالاً يبدو متعمّداً، أو تكتيكيّاً، ومغفلة أيضاً الإشارة إلى قناعتها المضمرة أن لا بأس من قيام الأنظمة الديمقراطية الليبرالية على أرض أيّ “كانتون” مجتزأ من أراضي الأوطان، وفي ظلّ أيّة سيادة حتى لو كانت سيادة أميركية بل إسرائيلية، مباشرة أو غير مباشرة! وقد تشكّلت هذه التيارات في معظمها من عناصر كانت، حتى انهيار الاتحاد السوفييتي، تنتمي إلى الأحزاب الشيوعية وإلى اليسار القومي، الأمر الذي أصاب بالصدمة القاسية أولئك الذين فوجئوا بهذا الانقلاب كمن أخذ على حين غرّة، أمّا الذين لم يفاجأوا بالظاهرة، بسبب متابعتهم لها منذ بداياتها، فإنّ معرفتهم المسبقة لم تجنّبهم الحزن العميق والغضب الشديد، وفي الوقت نفسه لم تزعزع تمسّكهم أكثر من ذي قبل بقضية تحرير و تحرّر واستقلال أمّتهم ووحدتها ونهضتها.
ولعلّ أغرب ما في الأمر أنّ هذه التيارات التي انقلبت على أمّتها تأخذ على البعض انقلابهم على الأميركيين، لكنها لا تأبه لانقلابها هي ضدّ أمّتها، وانتقالها إلى معسكر الأميركيين في المحصلة، سواء أعلنت ذلك أم لم تعلنه! إنها تحقد على أولئك الذين انتقلوا من معسكر الظالمين إلى معسكر المظلومين مع أنّ مثل هذا الانتقال يستدعي فرح واحتفاء وترحيب الأحرار، لأنّه عموماً تطوّرا في الوعيً معقولاً ومبشّراً ، وخروجاً من الضلال معقولاً ومبشّراً ، وانحيازاً إلى الحقّ والعدل معقولاً ومبشّراً ، بينما الذي يستحق الكره ويستدعي الغضب هم أولئك الذين ارتدّوا فانتقلوا من معسكر الوعي والحق والعدل إلى معسكر الضلال والنهب والظلم! وهل يستوي الذين كانوا يعلمون والذين كانوا لا يعلمون؟
لقد كان انهيار الاتحاد السوفييتي مناسبة كشفت حقيقة هؤلاء اليساريين المرتدّين، الذين تميّزوا عموماً في الماضي بتطرّفهم، وهي أنّ تركيبتهم قبل ارتدادهم كانت خليطاً من الانتهازية والجهل وعشق الوجاهة والثرثرة الببغاوية(المحفوظات عن ظهر قلب) وإنّه لمن الثابت المؤكد أنهم لم يرتدّوا بسبب أخطاء وانحرافات القادة السوفييت، بل بسبب انهيار الدولة السوفييتية التي كان وجودها سبب ولائهم السطحي لمعسكر الاشتراكية والنضال ضدّ الرأسمالية، فقد كانوا يعتبرون المعسكر السوفييتي عالماً مقابلاً لعالم الرأسمالية ومنفصلاً عنه وقائماً بذاته! وهذا هراء بالطبع، لأنّ العالم عموماً كان رأسمالياً قبل السوفييت وأثناء وجودهم، ولأنّ الاتحاد السوفييتي، من بدايته إلى نهايته، لم يكن سوى محاولة عظمى لتغيير النظام الرأسمالي العالمي، لكنها فشلت، إنما ليس من دون نتائج وعبر تاريخية عظمى سوف تكون لها أهميتها الفائقة في الجهود الأممية المستمرّة لتغيير هذا النظام الرأسمالي الاحتكاري الصهيوني الفظيع، وهكذا فقد فجع المرتدّون بانهيار ما كانوا يطلقون عليه اسم: “العالم الاشتراكي”! وماذا سيفعلون بعد انهيار “عالم” بكامله؟ هل ينتظرون أن تبدأ من الصفر عملية بناء “عالم” آخر غيره؟ طبعاً لن يفعلوا، فهذا مستحيل قياساً بتركيبتهم الضحلة! وسرعان ما جاء الخلاص من المأزق أميركياً يهودياً تروتسكياً، أي ماركسياً بصورة ما، فتلقّفوه بلهفة ما بعدها لهفة، بمن فيهم أولئك الذين كانوا في السجون، الذين شعروا بعد انهيار النظام السوفييتي أنه لم يعد هناك ما يستحق أن يسجنوا لأجله! لقد جاءهم الخلاص مدبّجاً تدبيجاً علمياً حسن السبك، فالعدالة في الأصل فكرة طوباوية، وبالتالي فإن التجربة السوفييتية نهضت على عقيدة طوباوية، وهنا يكمن السبب الأول والأخير لفشلها، أمّا نقيض الطوباوية فهو النظام الرأسمالي الواقعي الديمقراطي الليبرالي، الذي يأخذ فيه الناس ما يستحقّونه وليس ما يحتاجونه، فالفقراء يستحقّون فقرهم والأثرياء يستحقّون ثراءهم والمتخلّفون يستحقّون الاحتقار والوصاية عليهم من قبل المتقدّمين المتحضّرين! تلك خلاصة الفكرة التي بدأ التروتسكيون السابقون من اليهود الأميركيين تعميمها في مختلف أنحاء العالم منذ أواسط العقد الأخير من القرن الماضي، والتي تلقّفها اليساريون في بلانا بحرارة وحماسة، خاصة بعد أن فهموا أنّ الأميركيين سوف يقرنون القول بالعمل عندما يصلون إلى البيت الأبيض في العام 2000!
كان بول وولفويتز أحد أبرز الأميركيين اليساريين السابقين، الذين صاروا فيما بعد يعرفون باسم المحافظين الجدد، وحبّذا لو امتلك أحد اليساريين السوريين المرتدّين الشجاعة الكافية ليحدثنا عن ذلك الاجتماع الذي حضره في واشنطن عام 1995، وحضره وولفويتز وشرح فيه للعرب الحاضرين كيف يرى المستقبل الديمقراطي لبلادهم، وقد سلّم الحاضرون العرب يومئذ أنّ للولايات المتحدة مصالحها المشروعة في البلاد العربية! وسلّموا بدورها في عملية التغيير الديمقراطي! لكنهم استفسروا عن طبيعة العلاقات التي سوف تنهض في المستقبل بين واشنطن والديمقراطيات العربية، فأجابهم وولفويتز، بمنتهى الصراحة، أنّ الولايات المتحدة سوف تضرب نظام الحكم العربي حتى لو كان ديمقراطياً في حالات ثلاث: إذا هدّد مصالحها النفطية أولاً، وإذا هدّد أمن “إسرائيل” ثانياً، وإذا كانـت حكومته إسلامية وإن جاءت عن طريق الانتخاب الديمقراطي ثالثاً! ولنسجّل هنا على الفور أنّ كتابات وخطابات المرتدّين خلت منذ ذلك التاريخ، عام 1995، من أيّ حديث عن النفط المستولى عليه من قبل الأميركيين أو عن اغتصاب فلسطين، وصاروا يعبّرون تلميحاًَ أو تصريحاً عن إعجابهم “بالواحة الديمقراطية الإسرائيلية”، أمّا عن الإسلام فقد صاروا أشدّ خصومه منذ ظهوره قبل أكثر من ألف وأربعمائة عام وحتى يومنا هذا!
خاص – صفحات سورية –