الإخوان المسلمون وملامح خطاب اجتماعي يتكوّن على استحياء
حسام تمام *
الغياب المتعمد لجماعة الإخوان المسلمين عن الاحتجاجات الجماهيرية ذات المطالب الاجتماعية التي شهدتها مصر مؤخراً أعاد الجدل حول قضية تاريخية تتصل بقصور موقف التيار الإسلامي في مجمله عن القضايا الاجتماعية، ومدى قدرته على تجاوز هذا القصور إذا ما كان يطمح إلى قيادة حقيقية للشارع العربي والإسلامي.
وقد عُرف الإخوان المسلمون تقليدياً كتيار قليل الاهتمام بالمسألة الاجتماعية وقضايا العدل الاجتماعي، بما جعله دائماً أقرب لليمين في الاقتصاد. وربما لم تعالج قضية العدل الاجتماعي في أدبيات الجماعة التي جاوز عمرها الثمانين عاماً إلا في كتابي «العدالة الاجتماعية في الإسلام» لسيد قطب في بواكير تحوله إلى التوجه الإسلامي، و«اشتراكية الإسلام» لمصطفى السباعي إبّان المد الناصري الاشتراكي. ودائماً ما غلبت المقاربات الإحسانية والتكافلية على تعامل الإخوان مع قضايا الفقر والفقراء، ولم يكن حظ العمال وقضاياهم أفضل حالاً، فقد ظلوا دائماً موضوعاً دعَوياً يدلف إليه الإخوان من باب الدعوة إلى الالتزام الديني، أكثر من كونهم موضوعاً اجتماعياً سياسياً.
لذلك لم يعرف للإخوان رموز في قيادة الحركة العمالية بقضايا اجتماعية عمالية وبشعارات مطلبية. فدائماً ما كان المعين الدعوي والأخلاقي هو ما ينهل منه الناشطون الإخوان في الحركة العمالية، كما كان انتشارهم بين العمال جزءاً من حالة التمدد التي شهدها المشروع الإخواني منذ بدايات السبعينيات، وما صاحبه من تسارع عملية الأسلمة وامتدادها داخل فضاءات جديدة لم يكن لها حضور فيها من قبل. ومن ثم، لم يك غريباً ما رأيناه من مواقف جاءت أقرب لليمين تبنّاها الإخوان في القضايا الاقتصادية والاجتماعية، مثل موافقتهم على قانون الإيجارات الزراعية الجديد الذي يعيد أراضي الإصلاح الزراعي إلى الملّاك الأصليين، بعدما كانت الثورة المصرية قد وزعتها على الفلاحين الأجراء، وعدم رفضهم من حيث المبدأ سياسات الخصخصة وبيع القطاع العام التي تبناها النظام في العقدين الماضيين، مع التحفظ فقط على بيعها لمستثمرين أجانب.
والحق أن جذور موقف الإخوان من المسألة الاجتماعية يمكن أن نجدها في الرؤية الفكرية الإسلامية السائدة في مجمل العالم الإسلامي، التي تبدو أقرب في تصوراتها الاقتصادية والاجتماعية إلى الأخذ باقتصاد السوق أو الاقتصاد الحر، مع توقع أن يكون للدولة دور اجتماعي مؤكد لمصلحة الطبقات الفقيرة.
لكن أيضاً كان الوضع الاجتماعي للإخوان مسؤولاً بدرجة كبيرة عن رؤية الجماعة للمسألة الاجتماعية عموماً؛ إذ تنحدر الغالبية العظمى لقواعد الإخوان من الطبقة الوسطى، فقد تموقع مؤسسها الإمام حسن البنا اجتماعياً داخل الشريحة الوسطى في الطبقة الوسطى، فيما كانت قطاعات الموظفين وطلاب الجامعة أهم الشرائح الاجتماعية التي استجابت لدعوته وتكوّن منها بناء الجماعة.
يقل وجود الإخوان التنظيمي في الطبقات الفقيرة، ويهتم المسؤولون عن التجنيد بتجنب التوسع في ضم عناصر من الطبقات الفقيرة، إلا لحساب ميزات استثنائية تتمتع بها هذه العناصر دون أن تكون هذه قاعدة معلنة. ويُعَدّ الانضمام للجماعة أحد آليات الصعود الاجتماعي في الطبقات الدنيا، إذ تتيح الجماعة لأعضائها فرصة للتحقّق من خلال شبكة حماية اجتماعية كبرى، وتساعد هذه الشبكة على تأمين الحد الأدنى من الضمان الاجتماعي للأعضاء والمساعدة للمتعاطفين والمؤيدين والأنصار. وتعتمد الجماعة في ذلك على إدارتها لعدد كبير من المساجد ومؤسسات البر والصدقات التي ظلت تمارس دوراً مهماً في غياب مظلة حماية من الدولة.
لقد أدت هذه الاستراتيجية إلى انفصال تدريجي للجماعة عن الطبقات الفقيرة والمهمَّشة، على مستوى الانتشار التنظيمي ثم على مستوى المشروع الذي تطرحه والذي صار أقرب إلى تعبير عن طموحات الطبقة الوسطي والبورجوازية المصرية المتديّنة، وهو انفصال ظهر جليّاً في غياب الطبقات الفقيرة كأشخاص أو كبرامج أو حتى كشعارات، في تظاهرات الإخوان وبياناتهم التي نادراً ما كانت القضايا الاجتماعية محركها أو مركزها.
ولكن تغيرات جذرية في المجتمع المصري جرت في السنوات الأخيرة أدت وستؤدي إلى تعاظم المسألة الاجتماعية وإلحاحها على كل القوى السياسية والاجتماعية، بما لا يستبعد الإخوان مهما كانت «يمينية» رؤاهم الاقتصادية.
لقد أدت سياسات الخصخصة وإعادة الهيكلة والتحول لاقتصاديات السوق إلى تغييرات جذرية في تركيبة المجتمع المصري، كان من أبرزها تآكل الطبقة الوسطى بشكل غير مسبوق، وتزايد معدلات الفقر، إضافةً إلى ارتفاع معدلات البطالة، وتردّي بعض المهن التي ظل أصحابها في مأمن من العوز، وعرفوا تاريخياً بثبات مستواهم المعيشي. وزاد على ذلك، الارتفاع القياسي في أسعار السلع الغذائية والخدمات الأساسية، وفي مقدمتها السكن بما يفوق قدرة أبناء الطبقة الوسطى على توفير الحد المعقول من تلك السلع والخدمات، بل توفير الحد الأدنى أحياناً. لقد تصاعدت أولوية المسألة الاجتماعية حتى تصدرت المشهد، وعرفت البلاد احتجاجات مطلبية لم تُستثنَ قطاعات ظلت بعيدة تقليدياً عن هذه المسلكية، إذ لم تقتصر الاحتجاجات على العمال والحرفيين، بل ضمت المعلمين والأطباء والصحافيين وأساتذة الجامعات وحتى القضاة الذين لم يسبق أن كانوا جزءاً من حركة احتجاجية تتبنّى مطالب، بعضها يتّصل بأوضاعهم الاجتماعية والمعيشية!
تفاعل الإخوان المسلمين مع كثير من التغيرات الاجتماعية أو وجدوا أنفسهم مضطرين إلى ذلك، فبدأت الآثار الاجتماعية الناتجة من عمليات الخصخصة وبيع القطاع العام، وضحاياها من العمال الذين أضيروا اقتصادياً، في الحضور تدريجياً في مفردات متناثرة للخطاب المتداول بين الإخوان لتصبح لاحقاً موضوعاً مهمّاً في خطابهم السياسي. ظهر ذلك في الأداء الرقابي للكتلة البرلمانية للإخوان في برلمان 2000- 2005، ثم تأكد بشكل أقوى في البرلمان الحالي الذي احتدمت فيه صدامات كثيرة حول قضايا اقتصادية واجتماعية، فاشتبكت الكتلة البرلمانية مع قضايا الآثار الاجتماعية لبيع بعض القطاع العام، وقضايا الكادر الخاص للمعلمين والأطباء وأساتذة الجامعات، وأداء المجالس المحلية، وأموال التأمينات الاجتماعية، وموجة الغلاء.
كما كان لافتاً ما أقدمت عليه الجماعة نهاية عام 2006 من ترشيح عدد كبير من كوادرها في الانتخابات العمالية لأول مرة، بعدما كانت تراعي دائماً حساسية النظام من اختراق الجماعة لقطاعات العمال التي ظلت ضمن الملفات التي لا يسمح النظام بالتخلي عنها لأي قوى سياسية تحت أي ظرف.
من المبكر الجزم بأن ثمة تحولاً طرأ على مواقع الإخوان المسلمين التي عُُرفت تقليدياً بعدم حساسيتها تجاه القضايا الاجتماعية؛ فهل يتعلق الأمر برغبة الجماعة في تبني قضايا لها حضورها في الشارع المصري، ومن ثم مدّ نفوذها إلى مساحات ظلت بعيدة عنها تقليدياً؟ أم هو جزء من سعي الجماعة إلى تعزيز حضورها كقوة رئيسية في البلاد، ونيل مكاسب على حساب النظام، ولو في قواعده التقليدية؟ كما ليس مؤكداً أن الدخول الإخواني في المساحة العمالية سيؤدي بالضرورة إلى بناء أجندة مطلبية عمالية متجاوزاً أرضية التاريخ الدعوي وما لدى الجماعة من رصيد في الاستقامة والنزاهة أخلاقية.
والسبب في ظني، أنه رغم ما يمكن أن نلمسه من تفاعل إيجابي مع المسألة الاجتماعية وهمومها على نحو ما سبق، إلا أنه لم يصدر عن جماعة الإخوان ما يؤشر لتحول فكري واعٍ في المسألة الاجتماعية. أقصى ما نجده تصريحات وبيانات تحذر من خطورة تردي الأوضاع الاجتماعية وتفشي الظلم والفقر، وما يجرى من نهب ثروات البلاد وتجويع الناس. وهي وحدها لا يمكن أن يقوم عليها تطور نوعي في حركة بحجم وتأثير جماعة الإخوان المسلمين.
* باحث مصري في شؤون الحركات الإسلامية
عدد الخميس ١٠ نيسان ٢٠٠٨