سماعي نهاوند الطبقة الوسطى الجديدة: أثير إذاعي يلّون كآبة المدينة ببعض الإيقاع الكاذب
هاني درويش
أسفل ثنية هذا الحجاب من جهة الأذنين، على إمتداد ذلك السالف المقصوص بعناية، يخرج السلك الرفيع الأسود. وفي عز الغضب الصامت من تعطل إشارة المرور لنحو نصف ساعة يربت هذا السائق بإيقاع على عجلة القيادة من خلف زجاج سميك. هؤلاء جميعا مشغولون في هذه اللحظة بإلإندماج في الإيقاع الصادر من راديوهات المدينة المتجولة، من محطات الإذاعة الخاصة على موجة الإف إم. ولا أحد يدري كيف كان يمكن لأناس المدينة أن يتحملوا خشونة فضائها العام من دون هذا “الساوند تراك” المهيمن والقادر على تغييب نيف من الجمهور عن جغرافيا الحركة البطيئة، عن تحرشات الجماهير المزدحمة، عن قهر أن تكون خارج منزلك. فشارع القاهرة ايما كان هو عقوبة مستترة.
تعود ظاهرة محطات الإذاعة الخاصة لنحو خمس سنوات. قبل ذلك كانت الإذاعة بمفهومها الستيني المستقر وسيلة فقدت أهميتها منذ بدأ التلفزيون يوحّد ثقافة الطبقة الوسطى. الراديو المصري بمحطاته التقليدية كالبرنامج العام وإذاعة الشرق الأوسط أو الشباب والرياضة أو إذاعة القرآن الكريم، أو البرنامجان الأوروبي والموسيقي، كل هذه التنويعات المركزية لعلاقة الدولة بمستمعيها كانت قد انتهت فاعليتها، وتبدو ثمانينيات القرن الماضي تغريدة البجعة الأخيرة إذاعيا.
تمرد بعض من المراهقين منتصف الثماينيات على اللغة التي فقدت طزاجتها في إذاعة الشرق الأوسط ذات الحس الخفيف والبرامج السريعة وفواصلها التي تجمع بين صوت طه حسين في برنامج “لغتنا العربية ” وبين رباعيات صلاح جاهين في برنامج “تسالي”. رحل مراهقو الثانية عشرة وما بعدها إلى إذاعة المونت كارلو التي كانت تقدم طبقا شهيا من المنوعات الإذاعية: أغنيات أجنبية وعربية وفواصل إخبارية سريعة تنقل اخبارا غريبة عن مصر. من مونت كارلو تحديدا حدث ذلك التمرد الصامت على اخبار الوطن المقطرة من ملعقة نشرة أخبار التاسعة مساء في التلفزيون المصري، وتغاضى الجميع عن البرامج التبشيرية للإذاعة نفسها بعد التاسعة مساء. كانوا يحولون جماعيا المؤشر إلى البرنامج الأوروبي أو البرنامج الموسيقي في الإذاعة المصرية.
حتي ذلك الوقت، كان الإرتباط بإذاعة البرنامج العام أو الشرق الأوسط أو في أندر الحالات بالبرنامج الثقافي، حكرا على الجيل القادم لتوه من الريف. وراثة تقليدية لعلاقة الريفيين بالراديو، صديق الفلاح في ليالي الري، ونس صوت المقرئين العظام في طريق العودة الليلي من الحقل، أو مجال تثاقف شباب القرية إذا ما استمعوا لمسرحية ممثلة إذاعياً لدوماس الأبن. هؤلاء جميعا حملوا بعضا من ذلك الإرتباط العضوي بالإذاعة إلى المدينة. كان محمدين جارنا الصعيدي يقف على البالكون بالراديو الترانزستور الباناسونيك الأحمر لساعات وهو يتلصّص على بنات الجيران، وكأن أثير إذاعة أم كلثوم في أغنية “قالولي هان الود عليه” بصوت عبد الوهاب سيفك عقدة لسانه المعوج ويصبح مرسالا للغرام الصامت مع “شادية” ابنة الجيران المدينيية ذات 18 عاماً والمريلة الكحلية.
تراث نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات هذا ولّى إلى غير رجعة، ولم يتبق من عشاق الراديو عند منتصف التسعينيات إلا من اضطرته الظروف للسفر، حيث داخل بيجوهات التوصيل بين الدلتا والقاهرة. وعلى المسافات الطولى لسفر الصعيد يستعيد الراديو بهجته وأهميته كوسيلة لتزكية المسافة بين مسافرين مغتربين، أو، في موقع آخر، مستعادا هيبته بين حراس المنشآت ليلا، مع المجندين في ساعات الخدمة الليلية والبوابين أمام ركوة النار، وسائقي النقل الثقيل تحت حمى حبة الأفيون على الطرق السريعة.
هؤلاء جميعا لاعلاقة لهم بهذه الوجوه النضرة الشابة الضجرة التي ترتدي سماعات الأذن في المترو أو خلف زجاج السيارات الخاصة. لاينتمون إلى تلك الركضة لشاب وضع نصب عينيه المرور في حركة حشد بطيئة أمام فترينات محلات وسط البلد. تجدهم وقد إنتاب حركتاهم ذلك التصميم الخاص على خلق إيقاعهم اللاهث. يمرون سريعا بين العربات، وكأن مايجري في أذنهم من موسيقى يدفعهم للإنفلات أخيرا من جسد المجاميع ذات الحركة الواحدة، الحركة المجهدة و اليائسة، لأناس خرجوا دون إرادة تحت إلحاح لقمة العيش ثم عادوا خالي الوفاض.
سماعات الأذن تلك التي تتدلى ترتبط إرتباطا واضحا بثورة الهواتف المحمولة، تحديدا تلك الجيال التي تسمح باستخدام الراديو ومشغلات برامج الموسيقي الخاصة.فمن هوس رنات الموبايل المشتقة من الموسيقي التصويرية للمسلسلات والأفلام، إنتهاء بأحدث موسيقي كليبات الشباب، والبعض في ذلك الفضاء السمعي المتنابذ بحداثته مصمم على كسر رتابة سماعه الشخصي بإشاعة ذوقه بين مجاهيل الحضور، خاصة الشباب الشعبيين الذين وفرت لهم تكنولوجيا الهواتف الصينية الرخيصة فرصة لإسماع الجميع أغنيات من نوعية “الست عايزة راجل”، أو باقات منوعة من أغاني اللوع الشعبي الشهيرة في أفراح الطبقة الدنيا. تجد هؤلاء وهم يتحركون في جماعات عصبوية داخل المترو يشغّلون موسيقاهم بصوت مرتفع في إطار إستعراضهم الفارغ بالإرتباط بالحداثة.
الباقون من هواة السماعات الأذنية لا يلحظ جارهم نوعية الموسيقى إلا من هسهسة الإيقاعات المنفلتة غصبا من السماعات. تجدهم يحيدون بوجوههم عن المحيط البصري وقد زاغت أبصارهم في خيال آخر، يقاومون الإحتكاك ومجانية أجسادهم في هذا الإحتشاد الإضطرارى بسماعات كأنها تغلفهم عمن حولهم. يستمعون مثلا لإذاعة مثل نجوم إف إم العربية التي وثت بحداثة أغانيها إذاعة الأغاني الحكومية، وإذاعتهم المرتبطة بقوى سوق الكاسيت الإستهلاكية تقدم بإيقاع مدهش احدث ماتنتجه الشركات من أغنيات، على خلفية منضبطة لإعلانات سريعة او برامج إعلانية تمولها شركات كبرى كشركات المياه الغازية والسيارات.
المحتوى الذي يطن به غالبا راديو نجوم الإف إم 100 فاصل 6 يخدم في الغالب ذلك التطلع البرجوازي الجديد لطبقة وسطى ساعية للتشكل. فمن محتوي الإعلانات الفاصلية التي تشكل مايزيد عن 50 % من زمن الإرسال، يبدو جليا ذلك التركيز على مشاريع السكن الفاخر، تقسيط السيارات، إستهلاك الملابس متزامنا مع خلق ثقافة إستهلاك لاهثة نحو الجديد في مجالات التكنولوجيا. فإذا ما تطابق ذلك البث السمعي مع واقع بصري محبط يتمثل في الهواء الملوث من حول الجميع، حالة الطرق السيئة والإنتظار القاتل في إشارات المرور، الكآبة المسيطرة على إيقاع المدينة ووجوه السائرين المحبطة من إرتفاع الأسعار، بدا ذلك الساوند تراك المصاحب أقرب إلى سماع “خيط من طرف الجنة”، تغييب متعمد لواقع البصر الدامي والمحبط لصالح إغتراب جزء من الوعي عبر السمع.
بعض من جمهور الإذاعات الخاصة يستمع إلى القرين الإنجليزي لنجوم إف إم، أي راديو “كايرو هيت ميوزيك – نايل إف إم” 104 فاصل 20، حيث المحتوى يدور حول نفس الفواصل الإعلانية على أحدث الأغنيات الأنجليزية. الفارق الوحيد أن هذه المحطة أدركت العبء الذي يتحمله جمهورها من اصحاب اللغات الأجنبية والذين يقودون سيارات خاصة على كامل الطرق الإلتفافية والمحورية للقاهرة، تقدم الإذاعة خدمة نشر مرورية كل خمس دقائق، يتوإلى فيها الجمهور على إعلام بعضه البعض عبر رسائل هاتفية مناطق الإزدحام والطرق المغلقة. والمذيع يصل أحيانا مع تدفق الأنباء المرورية السيئة إلى التنبيه على من لم يخرج من بيته بعدم الخروج نهائيا. يقول مثلا: القاهرة كلها مغلقة، الطريق الدائري عند ميدان لبنان، المحور من الطريق الصحراوي، كوبري 6 أكتوبر من غمرة حتى المهندسين، نفق صلاح سالم حتي وسط البلد، شارع جامعة الدول العربية……ببساطة من لم يخرج من منزله حتى الآن يفضل ألا يخرج (ضاحكا): القاهرة واقفة.
غالبية هذا الجمهور المتابع والمتفاعل مع تلك الموجات الجديدة من الإذاعات هو نفسه المنفضّ حديثا عن متابعة إعلام الحكومة التلفزيوني. من يتابعون فضائية دريم او الحياة أو المحور أو فضائيات الفيديو كليب، وجدوا ضالتهم للتمايز السمعي أيضا في الفضاء العام، أي خارج منازلهم، هنا حيث لا ريموت كونترول يلصقون سماعات الأذن أو يشغلون ألبومات الموسيقي من على هواتفهم بإختيارهم الحر، ألبومات تم تحميلها من على النت لمطربيهم المفضلين، أو من تصر على تفضيلهم قنوات الفيديو كليب الشهيرة. فأصحاب القنوات الإذاعية نفسها هم اصحاب شركات إنتاج الكاسيت والسينما الجديدة، مجموعة جود نيوز للأخوين أديب تملك إذاعتي نجوم إف إم ونايل إف إم، لتلتحم بذلك أحلام الطبقة بصريا وسماعيا.
الحالمون بسماعات أذنهم بمدينة أخرى سماعية، المدندنون بأطراف أصابعهم على عجلات القيادة في لحظات توقف المحور إنتظارا لمرور مواكب الوزراء، وكل من إختاروا طوعا أو كرها إختلاق إيقاع خاص يلون مرارة التجوال المديني بألوان الإستهلاك الحلمية البراقة، هم ذلك الجمهور من الطبقة الوسطى الجديدة التي تراهن على صمته السلطات، وهي اطبقت على الآذان والعيون بعضاً من خبر المستقبل الموعود.
المستقبل