صفحات ثقافية

‘الكرمل’: العدد الأخير

null
الياس خوري
في العدد الأخير من مجلة ‘الكرمل’، الذي انجز في 13 آذار/مارس الجاري، يعثر القارئ على احدى اجمل القصائد التي كتبها محمود درويش قبيل وفاته في 9 آب/اغسطس عام 2008. ‘لا اريد لهذي القصيدة ان تنتهي’، هذا هو العنوان الأخير للقصيدة، وللمجموعة الشعرية التي سوف تصدر قريبا جدا، وتكون بذلك خاتمة رحلة شاعر فلسطين والعربية مع مغامرتي الحياة والشعر.
في عيد ميلاده الثامن والستين، وبعد ستة اشهر على رحيله، عمل حسن خضر، مدير تحرير ‘الكرمل’ على اصدار عدد المجلة الأخير الذي يحمل الرقم 90. في تقديمه للعدد كتب خضر: ‘يمثل عدد ‘الكرمل’ هذا، تحقيقا لرغبة راودت محمود درويش، ولم نتمكن من تحقيقها. ففي اواخر العام 2006، عندما توصل درويش الى قناعة بضرورة تجميد ‘الكرمل’، اعرب عن امنية، بدت في حينها عصية على التحقيق، هي ان نصل بالمجلة الى العدد 90’.
امنية محمود تحققت اليوم، في عدد احتفالي جميل ضم الى جانب قصيدته الرائعة، حكاية مجموعته الأخيرة، التي قمت بتحقيقها وتحريرها بطلب من مؤسسة محمود درويش، (وهي مؤسسة قيد الانشاء، تهدف الى المحافظة على تراث الشاعر)، ومن عائلة الشاعر. اضافة الى مقالات لصبحي حديدي وفيصل دراج وكاظم جهاد، وشهادات لستيفن هيث، انجليكا نويفرت، امجد ناصر، قاسم حداد، اكرم هنية، محمود شقير، ليانة بدر، حسن خضر، سعدي يوسف، شيركوه بيكيه س. ويختتم العدد ببيان ‘الكرمل’، وهي افتتاحية العدد الأول من المجلة الذي صدر في شتاء 1981.
اكتملت اقواس ‘الكرمل’ بهذا العدد المخصص لشاعرها ومؤسسها، وصدر عددها الأخير احتفالا بالحياة وليس بالموت. اختيار العيد الثامن والستين لميلاد الشاعر، موعدا مزدوجا لاصدار ‘الكرمل’، ومجموعته الشعرية الأخيرة، وان تكون القصيدة المنشورة تحمل عنوان ‘لا اريد لهذي القصيدة ان تنتهي’، هو اعلان بأن مسيرة ابداع كبير شعراء العربية المحدثين، هي مسيرة مفتوحة على احتمالات الحياة وطاقاتها المتجددة.

‘لا اريدُ لهذي القصيدة ان تنتهي ابدا
لا اريد لها هدفاً واضحاً
لا اريد لها ان تكون خريطة منفى
ولا بلدا
لا اريد لهذي القصيدة ان تنتهي
بالختام السعيد، ولا بالردى
اريد لها ان تكون كما تشتهي ان
تكون:
قصيدة غيري. قصيدة ضدي. قصيدة
ندِّي…
اريد لها ان تكون صلاة اخي وعدوي.
كأن المخاطب فيها انا الغائب المتكلم فيها.
كأنَّ الصدى جسدي. وكأني انا
انت، او غيرَنا. وكأني انا آخري!’

هكذا يأتينا صوت درويش من اللامكان الذي اسمه الموت. يأتي محمولا على الايقاع، مأخوذا بوهج الحياة التي تجعل من الموت احد اسمائها. غياب هو الحضور بالكلمات، وامحاء الذات امام القصيدة التي تصير امتداد الشاعر نحو الآخرين، ونحو قصيدة بلا نهاية.
وكانت ‘الكرمل’، افقا يحمل جزءا من رؤية الشاعر، ورؤية كوكبة من الكتاب العرب والفلسطينيين الذين جعلوا من المجلة تجسيدا لرؤية ثقافية لفلسطين في وصفها استعارة انسانية، الى جانب كونها قضية حرية ارض وشعب. وكانت رحلة المجلة رمزا للفلسطيني المترحل، من بيروت حيث بدأنا المغامرة عام 1980، ليصدر عددها الأول في اوائل عام 1981، الى المنفى في جزيرة سليم بركات القبرصية، الى رام الله حيث عمل فيها زكريا محمد، قبل ان يستلم الراية حسن خضر، ويتابع المسيرة مع محمود درويش الى النهاية.
توقفت الكرمل مؤقتا عام 2006، وتزامنت الخيبات مع مرض الشاعر. قرر درويش ان يعطي آخر انفاسه للقصيدة، فجاء ديوانه الأخير مضمخا بالنضج والملحمية والحكمة، كي يترك لنا ارثا يجب ان نعمل كثيرا كي نستحقه.
نودع ‘الكرمل’ كي نستقبل الشعر. المجلة تنتهي بصورة شاعرها وبصوته الذي يلاعب النرد، ويكتب طللية البروة، ويبحث في قصيدة ‘في رام الله’ المهداة الى سليمان النجاب، عن مثواه الأخير:

‘لي امس فيها، في مدينته الصغيرة،
لي عصا الراعي، وعُرْفُ الديك لي فيها
وباقةُ نرجس في المزهريّة
لي تحيتُه التي تمتدّ من قاع الفراغ
الى اعالي السرو
لي ذكرى غدٍ فيها، ولي فيها اكتئابُ
ونافذةٌ على الوادي وبابٌ

لي امس فيها
لي غيابُ!’
القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى