صبحي حديديصفحات ثقافية

ناثر الوزن

null
صبحي حديدي
أمضيت ليلة 13 آذار (مارس) الماضية، التي صادفت عيد ميلاد محمود درويش، في تأمّل حصيلة مواقفه من قصيدة النثر، بادئاً من هذه الحقيقة البسيطة: أنه، في مجموعته ‘أحبّك أو لا أحبّك’، 1972، وفي مطوّلة ‘مزامير’ التي تتألف من 12 قصيدة فرعية، كتب ستّ قصائد نثر؛ وبالتالي ليس صحيحاً ما يزعمه كسالى الباحثين، أو جهلة المتحذلقين، من أنه لم يجرّب كتابة قصيدة النثر طيلة حياته. وهذه قصائد لم يتخلّ عنها درويش، بل نجدها في جميع طبعات أعماله الكاملة، بما فيها الاخيرة التي صدرت عن دار رياض الريس، 2005.
في سنة 1995، ضمن حوار مع اثنين من أبرز شعراء قصيدة النثر العربية، هما عباس بيضون وأمجد ناصر؛ وشاعر ثالث بين أفضل مَنْ اجتهدوا للمزج بين التفعيلة والنثر، هو غسان زقطان؛ قال محمود درويش: ‘بين ما يعطــــي شرعيــــة لقصيدة النثر أنها تقترح كسر نمطــية إيقــــاعية، وتســعى إلى إنشاء إيقاع آخر ليس بديلاً لكنه فعّال، فضـــلاً عن أنــه يؤسس لحساسية جديدة. اقتراح قصيدة النثر هذا هو أهمّ العوامل التي جعلتني أشعر بقدرة الوزن على أن يكون نمطياً. بالتالي هناك بيني وبين قصيدة النثر حوار ضمني، أو مبطن. لكني أجد حلولي داخل الوزن، والوزن ليس واحداً، ولو كانت له العروض نفسها. ثمة وزن شخصي في كلّ قصيدة، بل وأكثر من وزن داخل البحر نفسه’.
بعد أربع سنوات، في مجموعة ‘سرير الغريبة’، 1999، وفي قصيدة تأخذ شكل الـ’سونيت’، كتب درويش: ‘أحبّ من الشعر عفوية النثر والصورة الخافية/ بلا قمر للبلاغة: حين تسيرين حافية تترك القافية/ جماع الكلام، وينكسر الوزن في ذروة التجربة’. وبدا، وهو يبلغ ذروة التفنّن في تنويع التفاعيل والقافية داخل هذه القصيدة بالذات، كمَنْ يمتدح نثر الشعر على نحو ما؛ وكان، على نحو آخر، يحرّر الكتابة الشعرية من قدسية البلاغة والوزن والقافية. وتلك المجموعة كانت نذيراً بالغ الدلالة في احتساب متغيّرات الشاعر الأسلوبية: ميله أكثر إلى لغة ذات سيولة داخلية عالية، تُداني اليوميّ دون أن تتجاهل بهاء الفصحى؛ ومجاز أشدّ تخففاً من البلاغة، يمزج التصوير الحسيّ بالتأمّل الذهني؛ وعمارات إيقاعية هادئة وتشكيلية، تكاد تنثر تفاعيل البحر المتقارب (التي اعتُمدت في سائر قصائد المجموعة، القصار منها والطوال، الرباعيات والخماسيات والسونيتات)؛ فضلاً عن قافية ‘غير مباشرة’ إذا جاز القول، لأنها لا تختتم السطر الشعري دائماً، بل تتوزّع، ولعلها تتناثر أو تنتثر، مخفية أو مموّهة أحياناً. وفي تعليق سابق على هذه المجموعة، اعتبر أنّ هذه الخيارات (وعلى رأسها اعتماد تفاعيل المتقارب، الليّنة الخافتة الجرس)، يمكن أن تكون فضاءً وسيطاً بين وزن معتدل ليس بالوزن وحده، ونثر موقّع ليس بالنثر وحده. ولعلّها، بهذا المعنى، تشتغل في منطقة مشتركة بين ‘التفعيلة المنثورة’ و’النثر التفعيلي’.
وفي مجموعة ‘كزهر اللوز أو أبعد’، 2005، شاء درويش تصدير القصائد بهذه العبارة من أبي حيان التوحيدي: ‘أحسن الكلام ما (…) قامت صورته بين نَظْم كأنه نثر، ونثر كأنه نظم…’. والنصّ الكامل، كما يأتي في الليلة الخامسة والعشرين من ‘الإمتاع والمؤانسة’، يسير كما يلي: ‘وفي الجملة، أحسن الكلام ما رقّ لفظه، ولطف معناه، وتلألأ رونقه، وقامت صورته بين نظمٍ كأنه نثر، ونثرٍ كأنه نظم، يطمع مشهوده بالسمع، ويمتنع مقصوده على الطبع’. (وللتوحيدي، في المناسبة، عبارة أخرى بديعة حول الموازنة بين النظم والنثر، ترد في المقابسة 60 من كتاب ‘المقابسات’، وتسير هكذا: ‘في النثر ظلّ النظم، ولولا ذلك ما خفّ ولا حلا ولا طاب ولا تحلاّ، وفي النظم ظلّ من النثر، ولولا ذلك ما تميزت أشكاله، ولا عذبت موارده ومصادره، ولا بحوره وطرائقه، ولا ائتلفت وصائله وعلائقه’).
غاية درويش من ذلك الإستهلال كانت واضحة، كما خيّل إليّ: أنّ القصائد التي تضمّها المجموعة تسعى إلى إقامة القول الشعري بين نَظْم كأنه نثر، ونثر كأنه نظم. في عبارة أخرى: هذه قصائد تتطلع إلى جَسْر الهوّة، إذا كان ثمة هوّة بالفعل، بين وزن الشعر ونثر الشعر، أو ـ على نحو أوضح هذه المرّة ـ بين تسميتين تعانيان عسفاً إصطلاحياً ومفهومياً هائلاً: ‘قصيدة التفعيلة’، و’قصيدة النثر’. وفي نظري، لم تكن قصائد هذه المجموعة هي وحدها التي تسعى إلى غاية جمالية وتعبيرية رفيعة كهذه، بل تلك كانت الحال في معظم مجموعات درويش خلال العقدين الأخيرين، وربما منذ ‘وردٌ أقلّ’، 1986.
ومن جانبي كنت أرجّح أنّ ما في جعبة درويش من جديد في سياقات هذا الإشتغال، وربما في صيغة ‘النصّ الشعري المفتوح’ تحديداً، وافر وغنيّ، على نحو أتاح لي أن أغامر باجتراح نبوءة من نوع ما، مفادها أنّ هذا الإنهماك سوف يثمر المزيد من الأعمال ضمن الأسلوبية ذاتها. ولم يطل الوقت حتى صدرت مجموعة ‘في حضرة الغياب’، 2006، ويوميات ‘أثر الفراشة’، 2008؛ وفيهما يبلغ التواشج بين شعرية النثر ونثر الوزن أوجاً غير مسبوق، ضمن تصميم من جانب الشاعر، عالي القصدية وحصيف الموازنة.
ولقد رحل درويش في طور مبكّر من ارتقاء ذلك التواشج، ولم يغادرنا في إهاب شاعر كبير فحسب، بل كان ويظلّ أحد كبار ناثري الوزن في تاريخ الشعر العربي؛ وهمو ليسوا كثرة، للأسف، بل قلّة قليلة!
خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى