صفحات سورية

النظام السوري يختنق بانتصاراته: سياسة اللاحرب واللاسلم تتحول إلى عبء على دمشق

null


بلال خبيز

لم يكد يمضي أسبوعان على الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان تحت تأثير ضربات مقاومة «حزب الله»، حتى غيب الموت الرئيس السوري حافظ الأسد، وخلفه في المنصب، بعد تعديل سريع للدستور، ابنه الدكتور بشار الأسد.

غاب حافظ الأسد في اللحظة نفسها التي توج فيها منتصراً على العدو الإسرائيلي، كان النصر الذي تحقق في جنوب لبنان نصراً سورياً بكل معنى الكلمة، لكنه النصر الذي يعقبه سؤال مرير: ماذا بعد؟ ذلك ان النصر الذي حققته سورية على يد «حزب الله» الشيعي، الذي كان يخدم سيدين: سورية وايران، في مواجهة اسرائيل، جعل الأسلحة السورية كلها تصدأ قبل ان تنتهي الحرب.

كان الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان، تنفيذاً لقرار الأمم المتحدة الذي حمل الرقم 425، يعني قطعاً للأصبع السورية المشاكسة في جنوب لبنان، يومذاك توج الرئيس الأسد بطلاً منتصراً، لكن التتويج كان بمنزلة دعوة إلى التقاعد، الجبهة اللبنانية في مواجهة اسرائيل باتت هادئة تقريباً، وكان يعكرها بين الحين والحين بضع عمليات تذكيرية تهدف إلى التذكير بمزارع شبعا المحتلة.

ارادت اسرائيل من الانسحاب المرعي من الامم المتحدة ان تضمن هدوءاً على جبهتيها الشماليتين، إذ لم يعد في استطاعة «حزب الله» ان يتذرع باحتلال مزارع شبعا ليصلي اسرائيل حرباً ضروس يستخدم فيها كل ما يملك من امكانات ومهارات، كانت المزارع حجة رقيقة الحاشية، ولا يمكن تعليق بلد، في اجتماعه وسياسته واقتصاده، على مشجب الدعوة إلى تحريرها، وعلى العكس مما كان متوقعاً، بدت مشكلة مزارع شبعا متعددة الوجوه، فمنذ الانسحاب الإسرائيلي من معظم الجنوب اللبناني، اندلع خلاف حقوقي بين سورية ولبنان على اثبات ملكية مزارع شبعا، ولا يزال مندلعاً حتى اليوم، الأمر الذي جعل موضوع مزارع شبعا مشكلة سورية بمقدار ما هي اسرائيلية. خصوصاً ان سورية رفضت وما زالت ترفض حتى اليوم الشروع في تحديد الحدود مع لبنان، والاعتراف الرسمي بملكية لبنان لمزارع شبعا.

سورية من دون غطاء

قضى حافظ الأسد بعد انتصاره الكبير، لكن الانتصار كشف السياسة السورية وتركها من دون غطاء، ومنذ ذلك اليوم فتح ملف الوجود السوري في لبنان على مصراعيه، ويمكن القول ان التراجع السوري على مستوى الادوار التي كان يلعبها نظام حافظ الأسد خارج حدود سورية قد بدأ يشهد منذ تلك اللحظة اولى علامات تصدعه. إذ فضلاً عن فتح ملف الوجود السوري في لبنان بعد الانسحاب الإسرائيلي منه، كان على النظام السوري ان يجد اجوبته المناسبة في ما يخص الجولان المحتل، وفي تلك الأثناء، راج الحديث عن الحدود السورية-الإسرائيلية والهدوء الذي يسودها منذ عام 1973، وكثر مطالبو سورية بأن تعمد إلى خيار المقاومة في الجولان لتحريره اسوة بما جرى في لبنان، وبهذا الانسحاب الذي قامت به اسرائيل، بدا كما لو انها نجحت في جعل نظام الأسد يختنق بانتصاره، فلم يكن وارداً ان يعمد النظام إلى تعريض الداخل السوري لاختبار رد الفعل الإسرائيلي على مقاومة من اي نوع تنشأ لتحرير الجولان، ولم يكن ممكناً ان يستمر النظام السوري مبرراً وجوده العسكري في لبنان إلى الأبد.

انتصرت سورية لكنها فقدت مقومات دورها الخارجي، سياسياً على الأقل، ورغم الادوار الامنية التي ادتها سورية في العراق، وبعض الدور السياسي الامني الذي امتلكت ناصيته في فلسطين، لكن النظام كان يشعر ان الدوائر تضيق عليه، وان مصيره بات على المحك فعلاً.

اليوم وبعد ثماني سنوات على الانسحاب الإسرائيلي، يخيل للبنانيين ان الدور السوري عاد إلى سابق عهده من القدرة على تحقيق اعتراف دولي وعربي ولبناني بالهيمنة على لبنان من جديد، ذلك ان حلفاء سورية في لبنان، اثبتوا على مدار الأعوام القليلة الماضية قوة وصلابة وحسن اداء إلى حد نجحوا معه في تعطيل الحكم اللبناني تعطيلاً شبه كامل، لكن السؤال يبقى: ماذا بعد التعطيل؟

لا جوائز سياسية

لا شك ان سورية اثبتت قدرتها على المشاكسة، لكنها مرة اخرى محكومة بأن تختنق بانتصاراتها، فلو سلمنا ان ثمة حصة راجحة لسورية في قطاع غزة الفلسطيني، وهذا امر معروف ومسلم به، فإن اقتحام الجدار في رفح مرة اخرى بين مصر وقطاع غزة، من اجل رمي المشكلة التي ساهمت سورية في صنعها على عاتق مصر لن يمر مصرياً مرور الكرام، والامر نفسه ينطبق اشد الانطباق على العراق، الذي ضبطت سورية فيه متلبسة بالتخريب الامني، عبر تهريب المقاتلين عبر حدودها، لكنها لم تنل اي جائزة سياسية حين حان وقت توزيع الجوائز، اليوم يمكن القول إن تركيا تملك في العراق سياسياً نفوذاً ما وكذلك ايران والمملكة العربية السعودية، لكننا لو فتشنا جيداً، لن نعثر على نفوذ سوري سياسي من اي نوع. والحال، سورية في الملف العراقي تخدم طرفاً ثالثاً، ولا تخدم نفسها، وهذا عين ما كان يقوم به «حزب الله» في جنوب لبنان، حين كان يقاتل بالدم اللبناني والارزاق اللبنانية ويهدي الانتصارات إلى سورية وقائدها وضباط مخابراتها.

أسئلة بلا أجوبة

هذا في العراق وفلسطين، اما في لبنان، حيث تضع سورية البيض كله في سلتها، فإن الامور تختلف كمياً، لكنها لا تختلف جوهرياً عما يجري في العراق، تستطيع سورية ان تعطل انتخاب رئيس في لبنان، وتستطيع ايضاً ان تقفل المجلس النيابي، وان تهدد الحياة اليومية للبنانيين، لكنها ليست بالتأكيد قادرة على حكم لبنان مجدداً، او استصدار عقد ايجار دولي اميركي جديد، تستثمر بموجبه موارد لبنان إلى امد غير منظور، ذلك ان الأسئلة التي لا تنفك جاهزة على الدوام تبدو كثيرة، وقد يكون ابرزها: ما الذي تستطيع سورية فعله في لبنان ولا يستطيعه غيرها؟ واي خدمات يمكن ان تقدمها للمجتمع الدولي في لبنان لا يستطيع هو نفسه ان يحصل عليها من دون مساعدة سورية؟ وايضاً، ما الذي يجعل النظام السوري واثقاً من اعتقاده بأن استقرار لبنان وازدهاره غال على قلوب هيئة الامم إلى حد التضحية ببعض مصالحها من اجل استقراره؟

هذه الأسئلة وغيرها لا تجد اجوبة سورية مقنعة، لكن النظام السوري على الأرجح لا يستطيع التفكير بهذه الأسئلة، إذ ان الأجوبة، كيفما قلبناها، تفيد ان الجهد السوري في لبنان يبدو عبثياً إلى حد لا يوصف.

أمام دمشق احتمالان

ثمة احتمالان يلحان في الوضع اللبناني سورياً، ولا يبدو في الأفق متسع لغيرهما،

الاحتمال الأول ان تنجح سورية في استرجاع الجولان عبر مفاوضات مع اسرائيل، باتت اسرائيل تطلبها بإلحاح، وفي هذه الحال سيكون الثمن المدفوع سلفاً هو انهاء شروط مقاومة اسرائيل من لبنان وسورية على حد سواء، وثمة كثيرون يعتقدون ان مهمة تقليم اظافر «حزب الله» في هذه الحال ستقع على عاتق النظام السوري بموجب الاتفاق نفسه، ولو سلمنا بحدوث مثل هذا الامر، يبرز السؤال التالي: ما وجه الاستثمار السوري في لبنان بعد انهاء المقاومة ضد اسرائيل وزوال اسبابها؟ الأرجح ان اي تفكر عميق في هذا الأمر يكشف بلا لبس ان النظام السوري سيجد نفسه بعد توقيع اتفاقية سلام مع اسرائيل من دون قدرة على ادعاء اي دور في لبنان او في فلسطين.

الاحتمال الثاني، ان تتعنت اسرائيل في مطالبها، وان تواكبها سورية في تعنتها، لأن سورية لا تريد السلام مع اسرائيل، بل تريد طاولة المفاوضات التي تتيح لها ان تمد نفوذها خارج حدودها، وان تستخدم الادوات التي تملكها في لبنان وفلسطين بكامل فاعليتها، وفي هذه الحال ستتفجر الجبهة الجنوبية في مواجهة اسرائيل وستلجأ حركة حماس إلى قصف سديروت وعسقلان بصواريخ القسام، وستجد اسرائيل نفسها في موقف حرج، وتستعيد سورية دورها وابهتها في العالم العربي باعتبارها احد اللاعبين الأساسيين على مسرح الشرق الأوسط، لكن هذا الاحتمال كان ممكناً قبل حرب عام 2006، ذلك ان ما يجري اليوم على جهتي الحدود يوضح ان «حزب الله» اللبناني يحرص اشد الحرص على ابقاء الجبهة الجنوبية هادئة، ومن دون ان يعكر صفو هدوئها اي حادث عارض، مما يجعل الحدود الجنوبية اشبه ما تكون بحدود سورية مع اسرائيل، فـ«حزب الله» يعرف ان الرد الإسرائيلي سيكون قاسياً، وسورية تبلغت الرسائل الإسرائيلية التي تفيد ان الآلة العسكرية الإسرائيلية سترد في العمق السوري إذا ما تعرضت اسرائيل لأي عدوان من جنوب لبنان، مما يعني ان الدور السوري في جنوب لبنان لم يعد مقتصراً على اكل العنب، في حين ان مهمة اللبنانيين قتل الناطور دون اكل العنب.

أضعف الأطراف قدرة

تأسيساً على هذا كله، يبدو النظام السوري كما لو انه يطالب بدور لا يستطيع اداءه. ورغم انه يستطيع النجاح في مسار التعطيل والمشاكسة الذي يعتمده لتأمين حضوره في المنطقة، لكنه اضعف الأطراف قدرة على حفظ الاستقرار وادامة النفوذ إذا ما انتهت الأوضاع إلى تسويات سياسية، وحين تتحول سياسة اللاحرب واللاسلم عبئاً على سورية، مثلما هو حاصل اليوم، يتحول النظام السوري إلى المشاكسة في الداخل العربي عندما تضيق به سبل المشاكسة على اسرائيل، هكذا لن تلبث حركة حماس الفلسطينية ان تفتعل مشكلة مع جارها المصري في ظل عجزها عن افتعالها مع الإسرائيلي، ويتحول العجز عن محاربة اسرائيل إلى مطالبة العرب الملحاحة بقتال اسرائيل، اما «حزب الله» فيريد ان يستثمر سلاحه في الداخل اللبناني لأن سبل المواجهة مع اسرائيل باتت مسدودة.

من اطرف ما يدور على ألسنة القادة الإيرانيين وقادة حزب الله وحركة حماس ان الحرب المقبلة ستكون الحرب التي ستنهي اسرائيل، وان مقاومي اسرائيل في فلسطين ولبنان على اتم الجاهزية لهزيمتها هزيمة نهائية. رغم ذلك، ما زال الطرفان يتريثان قبل تدمير اسرائيل، وما زالوا يعطونها الفرصة تلو الفرصة قبل الشروع في تدميرها. والحال، إذا كانت حركة حماس قادرة على هزيمة اسرائيل وتدميرها، فلماذا تطالب مصر بفك الحصار؟ وإذا كان «حزب الله» قادراً على هزيمتها حقاً فلماذا يشغل نفسه بانتخاب رئيس جديد للبلاد؟

الجريدة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى