العودة إلى “الصراع على سوريا”
د. خالد الدخيل
مثلت قمة الرياض الأربعاء الماضي ذروة ما يعرف حالياً بـ”جهود المصالحة العربية”، وهي جهود أطلق شرارتها الأولى العاهل السعودي، الملك عبدالله بن عبدالعزيز، في قمة الكويت الاقتصادية أواخر يناير الماضي. وقد اخترت التريث في الكتابة عن هذا الموضوع حتى ما بعد قمة الرياض. لم أكن متفائلا بأن طبيعة الخلافات العربية تسمح بالتوصل إلى شيء ينتهي بمصالحة حقيقية. فضلت انتظار ما قد تسفر عنه القمة من نتائج. ثم جاء البيان الختامي للقمة ليجمل هذه النتائج بجملة واحدة تقول: “الاتفاق على منهج موحد للسياسات العربية في مواجهة القضايا الأساسية التي تواجه الأمة العربية، وفي مقدمها القضية الفلسطينية”. وهي جملة مفتوحة، وحمالة أوجه. المعنى الأدق لها، كما اتضح لاحقاً، هو أنه تم الاتفاق في قمة الرياض على إدارة أفضل للخلافات العربية، والتعايش مع هذه الخلافات، وعدم السماح لها بتفجير العلاقات العربية العربية.
هناك زاوية يمكن النظر من خلالها إلى موضوع المصالحة العربية الحالية، وهي زاوية ظلت بعيدة عن الضوء الإعلامي، رغم أهميتها، بل ومركزيتها. تأتي هذه المصالحة في ظل ما يعرف بالانفتاح على كل من إيران وسوريا، وهو انفتاح لوحت به إدارة الرئيس الأميركي الجديد، باراك أوباما. الذي ينبغي الانتباه له أن الهدف من هذا الانفتاح هو بالدرجة الأولى إيران وليس سوريا. تبدو سوريا وكأنها ممر إلى شيء آخر. كانت الخطوة الأولى في هذا الاتجاه من فرنسا. تبعها الأوروبيون، والعرب. ثم بدأ الأميركيون السير على الطريق نفسه، لكن هؤلاء لم يتجاوزوا جس النبض حتى الآن. ماذا يريد هؤلاء من سوريا؟ وماذا تريد سوريا من هؤلاء؟ هذا هو السؤال.
من المفترض أن يكون هذا الانفتاح على سوريا، بعد أكثر من ثلاث سنوات من التشنج، والعنف والاغتيالات في لبنان، مؤشرا على مكتسبات حققتها السياسة السورية خلال تلك الفترة، وبالتالي على قوة الموقف السوري. لكن إذا كان الهدف من الانفتاح هو إيران وليس سوريا، يصبح الأمر ليس كما يفترض. يعزز ذلك أن معطيات الموقف السوري لا تبعث على التفاؤل في هذا الاتجاه كثيراً. فسوريا بقيت بمفردها في جانب ما يعرف بـ”الممانعة”. لم تتمكن أن تكسب إلى جانبها أية دولة عربية، حتى تلك التي عادة ما كانت تستعجل الانضمام إلى مثل هذه الاصطفافات، مثل الجزائر وليبيا واليمن. وهذا مؤشر على تغير الظروف، وعلى ضعف في الموقف السوري عربياً. بل قد يعني ذلك عزلة سياسية، وإن لم تكن دبلوماسية، في العالم العربي لم تعرفها دمشق من قبل. الأطراف التي تتحالف مع سوريا هي “حماس”، و”الجهاد الإسلامي”، و”حزب الله”، أي المنظمات التي لا تمثل دولا. وقدرة هذه المنظمات على تقديم دعم سياسي لسوريا محدودة. بإمكانها إثارة المتاعب للضغط على الأطراف الأخرى لصالح الموقف السوري، لكنها لا تستطيع أن تذهب بعيداً في ذلك. فسوريا في الأخير جزء من النظام الرسمي العربي، ولا تستطيع الاستمرار من دونه. ومن ثم فهي تحتاج إلى مظلة هذا النظام إقليمياً ودولياً. هذه التنظيمات بالنسبة لدمشق أدوات للتحريك، والمناورة، والضغط وليست للمواجهة والحسم. فعدا عن أن هذه التنظيمات لا تملك أن تحسم شيئاً على مستوى الدول، فإن سوريا ليس لديها مع الدول العربية التي تختلف معها ما يحتاج إلى حسم بهذا المعنى. ومن ثم فإن اعتماد سوريا على هذه الورقة يؤشر إلى أن موقفها السياسي بحد ذاته يعاني من الضعف.
الدولة الوحيدة التي تتحالف مع سوريا هي إيران. لكن يظل السؤال: هل تدعم إيران الموقف السوري، أم أنها توظف هذا الموقف لصالح سياستها الإقليمية؟ هل تدعم طهران المفاوضات السورية الإسرائيلية؟ وهل تتفق مع خيار السلام الذي تعتبره دمشق خياراً استراتيجياً؟ وهل توافق على تطلع سوريا إلى انفتاح واشنطن عليها؟ ثم كيف تنظر إيران إلى إمكانية مصالحة عربية تعيد سوريا إلى حظيرتها العربية؟ هذه أسئلة تشي بصعوبة الموقف السوري. المصدر الأول لهذه الصعوبة أن ما تريده سوريا، وعلى العكس من إيران، لا يتعلق مباشرة بالقضايا الإقليمية، عربية أو غير عربية. ما تريده هو شيء يخص النظام السياسي، وهو تحديداً: التوصل إلى اتفاق بشأن المحكمة الدولية في اغتيال الحريري، واستعادة الورقة اللبنانية، من دون العودة بالضرورة إلى هذا البلد عسكرياً. فالمحكمة تطور لا تملك إزاءه سوريا الشيء الكثير. وهي تدرك أنه ورقة في أيدي الآخرين. وبالتالي تخشى دمشق من تداعياته السياسية عليها. أما لبنان فهو الورقة الوحيدة التي من دونها تصبح سوريا معزولة في منطقة الشام أمام دولة إسرائيل، الدولة العدو، والأقوى عسكرياً في المنطقة. الشيء الثالث الذي تريده سوريا هو توفير غطاء إقليمي ودولي لشرعية النظام، وهو غطاء افتقدته دمشق منذ عام 2005. قمة الرياض يبدو أنها قدمت شيئاً مهماً بالنسبة لهذا العنصر الثالث.
يبدو أن اقتصار الهواجس السورية على هذا النحو هو السبب في أنها لم تحظ بتعاطف الدول العربية الأخرى معها. لذلك، ومن أجل دفع الأمور في اتجاه معالجة هذه الهواجس أصبحت سوريا في حاجة ماسة إلى دعم إيران، وإلى ورقة التنظيمات المذكورة. إيران تدرك هذا الشيء تماماً. لكنها تدرك أيضاً بأن علاقتها مع “حزب الله”، مثلا، تختلف عن علاقة الأخير مع سوريا. بالنسبة لسوريا “حزب الله” ورقة ضغط لا غير. أما بالنسبة لإيران فهو جزء من مشروع إقليمي. مما يعني أن إيران تملك مشروعاً سياسياً يتجاوز حدودها، في حين أن سوريا لا تملك شيئاً أكثر من هواجس تخص النظام السياسي، وقد لا تخص حتى سوريا كلها كدولة. لكن إيران دولة ليست عربية، وبالتالي لها استراتيجيتها المستقلة عن سوريا وغيرها. تحالفها مع دمشق هو من نوع الزواج المؤقت، فرضته ظروف هي بطبيعتها مؤقتة. لكل ذلك فقدت سوريا مركز القوة في التحالف مع طهران، وهو المركز الذي كانت تمتلكه في ثمانينيات القرن الماضي أيام الرئيس الراحل حافظ الأسد. ورغم تحالفه مع طهران، كان الأسد الأب يدرك أهمية معادلة التوازنات إقليمياً ودولياً. لذلك احتفظ بعلاقات سوريا ومصالحها مع الأطراف العربية، والدولية، حتى لا يجد نفسه في موقع الطرف الأضعف داخل هذا التحالف. كان يستخدم الورقة العربية مع إيران، والورقة الإيرانية مع العرب. وهذا ما تفتقده القيادة السورية الحالية: فهي لا تملك ورقة عربية في طهران، ومضطرة للدفاع عن علاقتها مع إيران أمام العرب. حتى ورقة المقاومة تتكشف حقيقتها، وتتآكل مصداقيتها مع الوقت، لأن دمشق بحكم سياستها وأهدافها تريد أن تستخدم هذه الورقة، لكن من دون أن تدفع ثمنها. هي تريد المقاومة، وفي الوقت نفسه تريد السلام، وتريد أن تبقى جبهتها هادئة. تريد واشنطن وطهران والرياض والقاهرة دفعة واحدة. وتريد استعادة هيمنتها على العملية السياسية في بيروت، في الوقت الذي تذهب فيه إلى إقامة علاقات دبلوماسية مع لبنان.
تبدو سوريا وكأنها تنزلق نحو الموقع الذي كانت تشغله مع بدايات النصف الأول من القرن الماضي. حينها كانت سوريا موضوعاً للصراع الإقليمي بين الرياض والقاهرة وبغداد. لم تكن لاعباً فاعلا في الصراع. كانت تستطيع أن تثير المتاعب، لكنها كانت أعجز من أن تشارك في صياغة سياسة عربية. تغير هذا الوضع على يدي الرئيس حافظ الأسد الذي جعل من سوريا لاعباً أساسياً في المنطقة، كما يقول الكاتب البريطاني القريب من القيادة السورية، باتريك سيل. حالياً فقدت سوريا هذا الدور. أصبحت مرة أخرى موضعاً للتجاذب والصراع بين أطراف إقليمية ودولية. العرب وأميركا يريدون أن يأخذوا سوريا بعيداً عن إيران. وإيران تريد أن تحافظ على حليفها الوحيد في دمشق. المطلوب عربياً توقف سوريا عن استخدام ورقة التنظيمات لتسهيل الأمور في فلسطين ولبنان. والمطلوب غربياً تحييد جبهة الشام في حال فرضت المواجهة العسكرية مع إيران نفسها. وتحديداً المطلوب ضبط “حزب الله”، وسوريا قد تملك تحقيق ذلك. لكن حتى من دون مواجهة، المطلوب أيضاً عزل إيران لإضعاف موقفها التفاوضي في شأن ملفها النووي، وهذا مرة أخرى يحتاج إلى أخذ ورقة “حزب الله” من يدها. قد لا تستطيع سوريا سحب هذه الورقة، لكنها تستطيع تحييدها. الهدف الأول من الانفتاح الغربي والعربي على سوريا إذن هو إيران. السؤال: كيف يمكن أن تتصرف سوريا بعد قمة الرياض؟
جريدة الاتحاد