الحيـرة نصيـب أعـداء سوريـا
سمير كرم
حينما تتفق المقدمات مع النتائج يكون المنطق سليما، لكن حينما تعطي المقدمات نفسها نتائج مغايرة لتلك يكون المنطق السليم الموضوعي قد غاب.
هذا ما ينطبق على المحاولات الكثيرة المتدافعة في الأسابيع والأيام الأخيرة لمعرفة الدوافع والأهداف وراء ازدحام الاطراف الاقليمية والدولية المتعددة أمام أبواب سوريا تريد الدخول للتفاوض وطلب الوساطة أو طلب المساعدة لمواجهة هذه المشكلة أو تلك.
الجميع يستقون مقدماتهم من حقائق العلاقات والمواقف السورية من ناحية وحقائق علاقات ومواقف الأطراف الاخرى المتدافعة نحوها من ناحية ثانية. هذه المقدمات معروفة ولا يكاد يختلف عليها طرفان، انما الاختلاف يأتي عندما تبدأ مرحلة استخلاص النتائج من تلك المقدمات.
الجميع تعتريهم الدهشة من تدافع الأطراف الإقليمية والدولية التي كانت حتى شهور قليلة مضت تناصب سوريا العداء أو المقاطعة على اقل تقدير.. تتدافع الآن نحو سوريا طلبا لعلاقات افضل في فترة تنبئ التطورات بأنها فترة تحولات كبيرة في المنطقة وحولها وفي العالم ككل. وأكثر ما أثار الدهشة حتى الآن هو الاهتمام الواضح الذي تبديه الولايات المتحدة بسوريا، وهو اهتمام قد يتفق الجميع على انه وليد التفكير الجديد للادارة الاميركية الجديدة برئاسة باراك أوباما .. ولكنه في الواقع بدأ عندما كانت إدارة جورج بوش لا تزال في الحكم. وذلك عندما زارت السيدة بيلوسي رئيسة مجلس النواب الاميركي دمشق واجتمعت بالرئيس بشار الاسد وكبار المسؤولين السوريين. وهو ما اعتبر وقتها تحديا من جانب الزعيمة الديموقراطية للإدارة الجمهورية والرئيس الجمهوري. ثم لم يبد بعد ذلك ان زيارة بيلوسي لدمشق أحدثت أزمة بين الديموقراطيين والجمهوريين، وكأن الجمهوريين الاميركيين اعتبروا ان لا ضرر من وراء رد اعتبار لسوريا لا يكلف الادارة الاميركية شيئا.
لكن ثمة حقيقة مهمة من الوزن الثقيل تتعلق بالمساعي الاميركية التي بدأت مع بداية ادارة اوباما: لم يسبق للولايات المتحدة الاميركية في تاريخ علاقاتها الخارجية الممتد لأكثر من قرنين من الزمان أن أقبلت على الاقتراب من طرف إقليمي، من بلد في أي منطقة من العالم، على النحو الذي تفعله الآن مع سوريا، بينما سجل القوانين الاميركية والقرارات الصادرة من السلطتين التنفيذية والتشريعية في واشنطن مزدحم بقوانين وقرارات وعقوبات لا تكاد تحصى ضد هذا البلد … ولان المجال هنا لا يتسع لذكر هذه القوانين والقرارات والعقوبات الاميركية الصادرة ضد سوريا خلال سنوات إدارة بوش وحتى قبلها.
وكانت دائرة بحوث الكونغرس قد أصدرت في اواخر العام الماضي تقريرا لإطلاع أعضاء الكونغرس عن «سوريا: الخلفية والعلاقات الاميركية» تضمن كل ما صدر ضد سوريا من جانب السلطات الأميركية، لكن التقرير يؤكد في اكثر من موضع اهمية سوريا في الشؤون الجيوبوليتيكية في الشرق الاوسط، ويذكر ـ في الوقت نفسه ـ ان مجموعة التشريعات والتوجيهات الرئاسية تحظر مساعدة سوريا وتحد من العلاقات التجارية الثنائية معها … ويقول التقرير ان السبب في هذا كله ان وزارة الخارجية الاميركية كانت قد وصمت سوريا بأنها «ترعى الارهاب الدولي»… وكان آخر ما قررته إدارة بوش ضد سوريا هو اعتمادها «عدة ملايين من الدولارات سنويا لبرامج لدعم الديموقراطية في سوريا».
ويذكر التقرير نفسه أن «هناك طابورا من المسائل الثنائية التي تستمر في التأثير على العلاقات بين الولايات المتحدة وسوريا …». ويتناول التقرير ما يعتبره آخر التطورات في هذه العلاقات الثنائية فيذكر «مزاعم التعاون النووي بين سوريا وكوريا الشمالية». أما عن المسائل الثنائية السابقة على ذلك فتشمل وفقا لهذا التقرير: سوريا ودورها في لبنان، وتأتي في إطاره علاقات سوريا مع حزب الله، ومع ايران، ودعم سوريا للنشاط الارهابي، وسوريا وأسلحة الدمار الشامل، الكيماوية والبيولوجية والنووية والصواريخ، ويأتي التقرير ايضا على ذكر العلاقات بين سوريا وروسيا باعتبارها من بين المسائل الثنائية في العلاقات السورية الاميركية، أي باعتبارها من المشكلات المعرقلة لهذه العلاقات، وبصفة خاصة مبيعات الأسلحة الروسية لسوريا. وأخيرا سوريا وعملية السلام الشرق أوسطية.
على الرغم من هذا الجدول المزدحم بالخلافات والاختلافات والعقوبات فإن واشنطن فتحت الأبواب لرحلات مبعوثيها الى دمشق، كما فتحت أبواب وزارة الخارجية في واشنطن للقاءات مع الدبلوماسيين السوريين.
وقد سمح هذا باستنتاج أولي فرض نفسه من البداية بأن واشنطن تسعى نحو دمشق باعتبارها أقصر الطرق في الشرق الاوسط في الوقت الحاضر للوصول الى طهران. فالاستنتاج يقول ان واشنطن استيقظت فجأة من سبات عميق على إدراك بأن علاقات سوريا القوية مع ايران يمكن أن تفيد في خلق مناخ ـ على الاقل ـ لاتصالات بين أميركا وايران، مادامت أميركا أوباما قد قررت ان الدبلوماسية أجدى من التهديد باستخدام القوة ضد ايران.
مع ذلك فإنه عندما وجه الرئيس الاميركي رسالته الى ايران مؤكدا انه يفضل الدبلوماسية في التعامل مع ايران، وأهمية الاحترام المتبادل بين البلدين لإزالة الخلافات بينهما … ظهر بين استنتاجات الأطراف التي لا تشعر بارتياح إزاء انفتاح واشنطن على ايران وعلى سوريا، استنتاج يذهب الى ان رسالة أوباما الى ايران شكلت إحراجا شديدا للدول العربية المعتدلة الصديقة للولايات المتحدة … وهي نفسها التي أطلقت الحملة العدائية ضد ايران التي تذهب الى أن لهذه أطماعا وطموحات امبراطورية فارسية ـ شيعية ـ في وقت واحد ضد العرب والقومية العربية وضد المسلمين السنة (…)
ولم يلبث أن ظهر استنتاج آخر بأن سوريا لن تلبث أن تجد نفسها معزولة مرة اخرى لان تركيا تنافسها على دور الوسيط بين أميركا وايران، وربما ـ يذهب الاستنتاج نفسه ـ الى ان الدول العربية المعتدلة التي ساءها ان تنفتح أميركا على ايران قد تفضل وساطة تركية على وساطة سورية (…)
كان من الواضح ـ بين مقدمات عودة الاهتمام بسوريا الى تفكير الدبلوماسية الاميركية ـ ان موقع سوريا الجغرافي أثبت مرة اخرى أهميته. فسوريا متاخمة للعراق، وأميركا هي الآن بصدد تنفيذ خطة انسحاب من العراق وتريد الاطمئنان الى الوضع العراقي وسط محيطه الجغرافي. ولا يمكنها أن تحقق هذا الاطمئنان بمعزل عن سوريا، ولا بمعزل عن ايران.
وهنا يبرز على السطح استنتاج في صورة تساؤل، معظمه آت من تحليلات أميركية بالدرجة الاولى، هل مخاوف عرب الاعتدال من دور ايران الاقليمي حقيقية ام زائفة؟ بعبارة اخرى هل كانت هذه المخاوف وليدة العداء الاميركي لإيران ام انها وليدة شعور بأن الانسحاب الاميركي من العراق يترك هذه الدول عارية من حماية اكبر .. جزء منها كانت توفره أميركا بوجودها في العراق .. وجزء آخر يمكن تصوره من جانب اسرائيل (…)
وعلى جانب آخر من هذا الاستنتاج /التساؤل تساؤل آخر عما اذا كانت علاقات سوريا بإيران قابلة للانقطاع …سواء بالانخراط في مجموعة الدول العربية المعتدلة صاحبة هذا الشرط، أو بطلب ثمن كبير من الولايات المتحدة مقابل هذا القطع بين سوريا وإيران. ويتناقض هذا الاستنتاج بحد ذاته مع المقدمات التي قالت إن واشنطن تبني على العلاقات القوية بين سوريا وايران لا على هدم هذه العلاقات. كما يتناقض مع منطق المقدمة القائلة بأن سوريا تعتبر نفسها قادرة على إقناع أطراف المصالحة العربية بأن علاقاتها مع ايران يمكن أن تمتد الى هذه الاطراف نفسها، وان هذا أجدى للقضايا العربية من القطيعة مع ايران، ومن باب أولى أجدى من الدخول في حرب باردة أو ساخنة مع ايران ..فيما تجلس اسرائيل في مقاعد المتفرجين.
خلافا لهذا كله تناقضت المقدمات مع استنتاجات متناقضة في حد ذاتها. منها ما يقول إن سوريا لا تستطيع أن تدخل المصالحة العربية وأن تستمر في تحسين علاقاتها مع الولايات المتحدة دون تقديم التنازل الآخر المطلوب منها وهو التخلي عن احتضانها للمقاومة متمثلة في حزب الله (لبنان) وفي الفصائل المتمسكة بالمقاومة (فلسطين). ومن الاستنتاجات ما يقول ان وجود التنظيمات المقاومة في حضن التأييد السوري أفضل من خروجها منه. وينبغي أن نلاحظ هنا ان هذا التناقض بشأن علاقة سوريا بالمقاومة ـ لبنانية وفلسطينية ـ وقع في وقت اتخذت فيه بريطانيا قرارها بضرورة التحاور مع حزب الله … وهو قرار نادر من بريطانيا التي تؤثر عدم الاختلاف مع أميركا، وقد أغضبها القرار البريطاني بالفعل وطلبت تفسيرا من لندن. ووقع في وقت تتقدم فيه بخطى حثيثة الاطراف ـ حتى داخل اسرائيل ـ التي تدين الحرب الاسرائيلية على غزة والتي تعتبر ان صمود المقاومة فيها هو انتصار حقيقي. وهذا كله تأكيد لسلامة موقف سوريا من المقاومة بشقيها. هذا بالاضافة الى ان مصادر أوروبية أصبحت ترى ان الاتحاد الاوروبي سيجد نفسه ـ بالضرورة ـ مضطرا لاتخاذ موقف أكثر ايجابية من حزب الله وحركة حماس، اذا أراد أن يكون له دور في العملية السلمية في الشرق الاوسط.
مع ذلك كله فإن مصادر أوروبية ترى ايضا ان سوريا لم تكن هي التي طلبت ان تتوسط بين ايران واميركا… بل ان سوريا وضعت من البداية ـ حسب قول صحيفة «لا ريبوبليكا» الايطالية ـ شرطا للقيام بهذا الدور «بأن يقدم الغرب اقتراحا ملموسا ليقدم الى طهران». وهذا بدوره موقف متماسك يتمسك بالعلاقة مع ايران ويعرف شروط ايران من اميركا والغرب.
قبل أيام قالت مؤسسة «ستراتفور» المخابراتية الاميركية الخاصة في تقرير لها «ان الاميركيين والاتراك والاسرائيليين، وكذلك السعوديين، لهم جميعا مصلحة في دفع السوريين الى التضحية بحلفائهم الايرانيين وكذلك بوكيلهم العسكري الرئيسي، حزب الله». مع ذلك فإن التقرير نفسه اعتبر «ان الدينامية الجغرافية تسمح لسوريا بأن تستخدم هويتها العربية للتعامل مع السعوديين على صعيد، وباستطاعتها ايضا أن تستخدم سماتها الدينية للتعامل مع الايرانيين على صعيد آخر … ان التكوين الراهن للقوى في المنطقة يجعل سوريا مطلوبة على مستوى عال… ان السوريين ليسوا ـ ببساطة ـ موشكين على قطع روابطهم مع ايران أو حزب الله أو وكلائهم المقاومين الآخرين مثل حماس».
[[[
ثمة مثل عامي مصري يقول : «إمش عدل يحتار عدوك فيك».
ويبدو أن سوريا تطبق هذا المثل بدقة وبثقة … وتترك لأعدائها الحيرة في استنتاج ما تعنيه طريقتها في القضايا القومية والإقليمية والدولية.
([) كاتب سياسي عربي من مصر