طريق سوريا الجديد
غازي دحمان
ليس الحراك الدبلوماسي الذي تقوم به سوريا، والذي تشهده عاصمتها دمشق، وخاصة باتجاه الدائرة العربية، مقطوع الصلة عن الترتيبات التي تشهدها المنطقة في الآونة الأخيرة، ولا عن الاجراءات والتكييف التي قامت به سوريا لملاقاة الارادة الدولية عند عتبة الممكن والمقبول في هذه المرحلة المتحولة.
ولا تشكل زيارات الوفود الأميركية إلى دمشق، وإعلان إنهاء المقاطعة الدبلوماسية لسوريا. مثارا للاستغراب وخاصة بعدما اجتازت دمشق (اختبارات دولية) لتخرج من نفق (الدولة الممانعة) وتتوافق مع قواعد النظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية.
غير أن المبادرة الأميركية، ومثلها المبادرات العربية والاوروبية، ما كانت لتحصل لولا ذلك التغير الجديد الذي شهدته السياسة الخارجية السورية أخيرا. والذي بدأ بالاجراءات التي قامت بها سوريا على الحدود مع العراق، والتي كان لها مردود امني ايجابي، باعتراف القادة الميدانيين الأميركيين، ثم الدور السوري في الملفين اللبناني (اتفاق الدوحة) والفلسطيني (حوار القاهرة)، فضلا عن المفاوضات، غير المباشرة، مع اسرائيل برعاية تركية.
ويتوقع صانع القرار في سوريا تحقيق عوائد بعينها جراء هذا التغيير، ليس أقلها رفع حالة الحصار، وإنهاء العزلة، ناهيك عن المكسب الأكبر الذي يتمثل في معاودة الدور الاقليمي (الذي كان فد تعرض للحصار) والحصول على قبول دولي للدور السوري (الجديد).
وقد شكلت قمة دمشق الرباعية، التي جمعت الى الرئيس السوري كلا من رئيس فرنسا، وأمير قطر ورئيس وزراء تركيا، في نهاية العام الماضي، إعلانا بولادة الدور السوري الجديد، الذي ارتسمت ملامحه الأولى، بقبول مشاركة أطراف أخرى لدورها في الساحات التي طالما ظلت دمشق تعتبرها حكرا لها (لبنان) أو تلك التي تشكل قيمة ايديولوجية لإصباغ الشرعية على النظام السياسي (فلسطين)، أو تلك التي تشكل قيمة استراتيجية (العمق العراقي).
هذا التغير الذي يعتبر إعادة تعريف (ثورية) للدور الخارجي السوري تجاه مناطق وقضايا خارجية، يطرح أسلوبا جديدا من دول العالم الثالث في (التكييف التدريجي) لسياساتها الخارجية مع النظام العالمي، بأقل قدر من التصادم.. فلماذا أقدمت دمشق على هذا التغيير، وما هي ملامحه وتحركاته المستقبلية.
وقد ظهر هذا التصور الجديد مع النخبة المشار إليها، والتي يطلق عليها في كولسات السياسة السورية بـ(الاصلاحيين الجدد)، وهم برزوا مع وصول الرئيس بشار الأسد الى السلطة، وهم في اغلبهم تلقوا ثقافة غربية، وتربوا في مؤسسات دولية من أمثال (عبد الله الدردري نائب رئيس مجلس الوزراء للشؤون الاقتصادية، وعماد مصطفى السفير في واشنطن، وغيرهم في مناصب حكومية، ومستشارون في القصر الرئاسي. وينطلق هذا التيار في رؤيته الجديدة من عدة حقائق مهمة:
1ـ ان اضطلاع سوريا بدور خارجي يتخطى مقدراتها القومية سيؤدي الى تآكل الأساس المادي لهذا الدور الذي أصبح عبئا وأدى الى فشل الدور ذاته في مرحلة لاحقة.
2ـ ان أداء الدور الخارجي يجب أن يراعي ضغوط القوى الكبرى ومصالح ها، كما يجب أن يراعي التوازنات الدولية بحيث لا يصطدم بأكثر من قوة كبرى في الوقت نفسه، كما حصل في الفترة من 2003 حتى هذه اللحظة.
3ـ ان ضمان قيام الدول بأدوار مهمة وضمان استمرار هذه الأدوار في بيئة دولية وإقليمية سريعة التبدل، خاصة في عناصر قوة الدولة، بات يحتاج إلى أوراق قوة غير تلك التي تم الارتكاز عليها في مراحل سابقة ومن طبيعة مختلفة لا تحمل في مضمونها مخاطر المغامرة.
وقد اقترنت هذه الحقائق بإدراك مهم، فحواه انه ليس بإمكان دمشق الاستمرار في نمط السياسات والتوجهات التي اتبعت سابقا، ما يحتم البحث عن بدائل ممكنة لضمان إمكانية الاستمرار في لعب الدور الإقليمي.
ما سبق يقودنا الى محاولة استشراف ملامح الدور الجديد الذي تسعى الدبلوماسية السورية الى بنائه، وكذلك معرفة تحركاته المستقبلية:
ـ القبول بتحول سوريا الى لاعب ثان وربما ثالث في الساحات اللبنانية والفلسطينية والعراقية، فأن تكون موجودا أفضل من عدم الوجود غير ان هذا الدور مقدر له ان يكون ذا طابع سلمي، من خلال (المونة) على حلفائها في تلك الساحات، ليتكيفوا مع السياسات الوطنية (الحكومية) لبلدانهم.
ـ السعي لدى الإدارة الاميركية المنتخبة إلى تجديد (التوكيل) الأميركي، وبطريقة تتفق مع المتغيرات والتوجهات الجديدة (عبر تزكية دولية فرنسية وبمساندة اقليمية تركية)، بهدف تحقيق نجاعة اكبر في الدور، وتقليل الأكلاف، وضمان الدعم، وفوق هذا وذاك لشرعنة الدور الجديد.
ـ جعل الدور السياسي مدخلا، لتحقيق مكاسب اقتصادية، تسد الحاجة الاقتصادية السورية للنمو والتطور، فدمشق التي انقطع عنها الدعم العربي المادي، بحيث لم يعد ممكنا إعادته نظرا لتغير الظروف والمعطيات، تتطلع في ظل الفورة النفطية الكبيرة، الى الحصول على جزء من الريوع النفطية، ولكن هذه المرة عبر انفتاح اقتصادي، يجري التجهيز له: سواء من خلال حزمة المراسيم والقوانين التي حصلت في السنين الأخيرة، أو عبر تغيير النهج الاقتصادي، برمته، الذي تقوم به (النخبة) على خفر حتى هذه اللحظة.
([) كاتب سوري