موجات العنف المتلاحقة ومستقبل المعارضة في سورية
غالب عامر
على امتداد خمسة وأربعين عاماً من عمر نظام قانون الطوارئ ,ما تزال الحركة الوطنية الديمقراطية بأطيافها المتعددة, تتعرض لموجات العنف المتعددة ,وشتى أنواع المحاصرة السياسية والثقافية والأمنية ,وسط استمرار حملات الاعتقال ,واحتجاز السياسة عن معظم الفاعليات الاجتماعية والمهنية والنقابية والطلابية .
وفي الإطار العام لسياسة احتكار السلطة ,والاستئثار بمقدرات الثروة الوطنية ,وتفشي ظاهرة الفساد والإفساد الاقتصادي والإداري ,وتردي مستوى المعيشة لدى معظم المواطنين, يمكن القول إنّ الإجراءات التعسفية لا تطال المعارضة وحدها ,وإنما تصيب المجتمع بكامله ,حيث تسيطر على العقول ثقافة الخوف وانعدام الأمن والاستقرار, مما أدى إلى تراجع المؤشرات الإيجابية لمفاعيل الوحدة الوطنية, لحساب التمييز المجحف وانعدام المساواة بين المواطنين, وتعطيل القوانين المدنية الناظمة للتوازن الضروري لمنظومة الحقوق والواجبات ,إضافة لتغول السلطة على الدولة في كافة هيئاتها ومؤسساتها.
في ظل هذا المناخ الاستبدادي الذي أثقل كاهل المجتمع , كان هدف السلطة, وما يزال, محاولة إنهاء المعارضة, واحتواء السياسة, وما يرتبط بها من ضرورات للاهتمام بالشأن العام, وذلك من خلال مركزة القرارات بأيدي فئةٍ قليلة من الذين أجازوا لأنفسهم أن يتحكموا بمصير الشعب والوطن, عبر نيابةٍ قسرية احتجزت حرية المجتمع في الخيار الديمقراطي, مما أدى إلى إقصاء الفاعليات السياسية والثقافية الوطنية عن دائرة الفعل والتأثير في الشؤون الداخلية, وفي تحديد المعايير الموضوعية للسياسة الخارجية, العربية منها, والإقليمية والدولية.
وقد وصل عنف السلطة ذروته على امتداد عقد الثمانينيات من القرن الماضي, حين زجت الأجهزة الأمنية بآلاف السياسيين من مختلف الاتجاهات في السجون والمعتقلات ,دون حسابٍ او محاكمات ,ودون احتكامٍ للدستور والقانون أو المحاكم المدنية.
وبالرغم من تراجع حدّة العنف في عقد التسعينيات ,إلاّ أن الاعتقالات والملاحقات “الأمنية” ومصادرة النشاط السياسي لم تتوقف, مما أدى إلى إصابة معظم الأوساط الاجتماعية بنوعٍ من العطالة الاستبدادية التي أُريد لها ان تكون السبيل للقضاء على أيّ نهجٍ سياسي معارض للنظام التوتاليتاري القائم بإرادة القوة, والفاقد لقوة الإرادة في إطلاق أي مبادرة للإصلاح السياسي.
ومع بداية هذا القرن,واستلام الرئيس الحالي لمنصبه وموقعه في سدّة الحكم , تنبعث الأوهام من جديد مع خطاب القسم الدستوري الأول, لتضخيم بعض السياسيين لمجال الحلم الوطني بالتغيير والإصلاح. إلاّ أنّ الآمال المعقودة لم تكن معبرة عن إدراك واقع الوضعية السياسية السائدة, والمحكومة بالطبيعة البنيوية للنظام, وإصراره على الاستمرار في النهج والمسار الذي يضمن إدامة حكمه وتحكمه في البلاد بذات الوسائل والأساليب, بالرغم من الفرصة السانحة لإحداث تغييرات بنيوية داخلية في مجال الاقتصاد والسياسة والإدارة والتنمية البشرية, مما لم يخرج عن نطاق الوعود التي تمّ التراجع عنها بصورةٍ متدرجة ,وقد أضاع النظام بذلك فرصته التاريخية في أن تتحول مؤسساته المتعددة إلى مواقع قادرة على المساهمة الفاعلة في بناء الدولة المدنية الحديثة, والتي أشارت إلى أهميته, معظم الآراء العربية والدولية التي قدّمت للنظام مشورتها الخاصة,وذلك للخروج من حالة الانكفاء الذاتي, ومن الافتراق في نهجه ومساره عن متطلبات التحولات العميقة التي تحدث في العالم, وعن الأهداف الحقيقية للمجتمع وقواه الحية المتعددة.
* * *
من جانبٍ آخر, لم تكن الانعكاسات السلبية التي أصابت الحركة الوطنية الديمقراطية ناجمةً عن الاعتقالات المتصاعدة في الآونة الأخيرة,وحسب, وإنما أيضاً عن مجموعة من الممارسات السلطوية الأخرى في الميادين المتعددة ,وأبرزها محاصرة الحراك الثقافي والسياسي ,عبر إغلاق منتديات الحوار الديمقراطي في كافة المحافظات,ومنع الاعتصامات حتى الصامتة منها,وحجب عدد هائل من المواقع الالكترونية والالتفاف على الاستحقاقات السياسية والقانونية من خلال منع الترخيص لأيٍّ من المنظمات والمنتديات المستقلة عن السلطة وأجهزتها الأمنية, إضافةً إلى الامتناع عن إصدار قانون الأحزاب الذي ينظم الحياة السياسية في البلاد.
وباختصار, فإنّ المجتمع السوري وأحزابه السياسية الديمقراطية , يمرّ في اللحظة الراهنة بمرحلة حرجة,لاتقل في أبعادها السلبية, وخطورتها على مستقبل الوحدة الوطنية ,عما شهدته في عقد الثمانينيات الذي أضحى متميزاً بما حدث فيه من تعسف واضطهاد ,ومن اعتقالات شملت كافة الاتجاهات السياسية دون تمييز .
إلاّ أنّ الواقع الموضوعي الذي تتجلى فيه الممارسات القمعية ,بوصفها تعبيراً عن طبيعة النظام وبنيته السياسية , وخياره التوتاليتاري في التعامل مع المجتمع, يجب ألا يعمينا أو يبعدنا عن رؤية العوامل الذاتية الخاصة بالمعارضة السياسية في معظم أطيافها واتجاهاتها الأيديولوجية, وما آلت إليه الأمور في مرحلة تواصلها منذ ربيع دمشق وحتى اللحظة الراهنة , وما تكشّف لديها من عوامل الضعف وأسباب التعثر , وارتكاب الأخطاء التي أسست لجملة من المواقف التي لاترتقي إلى المستوى الديمقراطي في العلاقات فيما بينها ,وكذلك الممارسات المعلنة التي ترصدها قطاعات من المجتمع,حاولت أن تبني آمالاً على مرحلة قادمة ,يكون فيها للقوى والأحزاب المعارضة دور البناء الوطني ,والانتقال إلى مرحلةٍ جديدة يتم بها ,ومن خلالها إعادة إنتاج الوحدة الوطنية الديمقراطية والتماسك الاجتماعي .
ولسنا الآن في هذا المجال بصدد تقديم جردة حساب ناقدة لتقييم ما حدث ويحدث من ممارسات تضيف على الأحزاب والقوى المعنية من الأعباء مالا طاقة لها به في مرحلة من تراكم المهام الوطنية التي نذرت نفسها لها ,فلكلٍ من هذه القوى مهمة التقييم الذاتي والموضوعي التي ينبغي إنجازها ,إلاّ أنّ الواقعة الموضوعية التي أثبتتها تجربة العقود الماضية تتجلى في إخفاق السلطة ( على نحوٍ ما) تحقيق هدفها الرئيس في احتواء القوى الوطنية الديمقراطية, بالرغم من موجات العنف التي أوهنت هذه القوى وباعدت بينها وبين ما حصل من تغيرات ديمغرافية وثقافية في الجسم الاجتماعي. كما أثبتت التجربة التاريخية أنّ القمع والاضطهاد لا يمكن ان يكون السبيل لمعالجة الأزمة الداخلية المتفاقمة بين قوى الاستبداد والمجتمع الطامح لتحقيق الحرية والديمقراطية.
ويبدو ,إذن, أنّ الإشكالية التي ينبغي معالجتها, تتعلق بطبيعة العلاقة التي ما تزال سائدة بين أطياف المعارضة نتيجة للاختلاف في بنية الفكر السياسي الذي تبنى عليه المواقف من تطورات الأحداث الجارية ,وترتسم من خلاله التوجهات السياسية ,وخاصة إزاء ما يحدث في المحيط الإقليمي, مما يؤدي إلى التباين في وجهات النظر حول العديد من القضايا حتى تلك التي تعتبر من السهل التوافق عليها, وأبرزها المضامين والأبعاد الخاصة بالتغيير الوطني الديمقراطي بوصفه العنوان الرئيس لجماع المشتركات التي ما إن يتم التوافق عليها حتى تبرز الخلافات حول طبيعة الممارسة السياسية لإنجازها.
وغالباً ما يتسم الحوار حولها ,وإعادة التأسيس لأبعادها,بالسجال الذي من شأنه ان يشكل المقدمة الموضوعية لممارسة الإقصاء المتبادل, ومما يجعل العديد من التحالفات عرضةً لاهتزازات داخلية عميقة ,يضاف إليها مجموعة العوامل الذاتية التي تدفع إلى تعميق الانعكاسات السلبية ,ليصل الأمر في المحصلة إلى ما يتعارض تماماً مع الأهداف والمقاصد النبيلة التي أدت إلى قيام هذه التحالفات .
إنّ حذر المسألة,إذن, يتعلق بعدد من القضايا التي تتفاعل فيما بينها ,لتؤثر بدرجةٍ كبيرة على مستقبل المعارضة في سورية ,ومآلها الأخير بما يحكم به المجتمع على توجهاتها الداخلية , وعلاقاتها البينية ,ومدى مقاربة خطابها السياسي للقضايا ذات الاهتمام المشترك لمجمل الفئات الاجتماعية. ومن أهم القضايا التي غالباً ما يتم إغفالها من قبل معظم الأطراف المكونة للتحالفات السياسية بوجهٍ عام:
1. لقد أوجد النظام الشمولي الذي يعيش هاجس المشروعية الدستورية ,ما يمكن أن نعتبره وضعاً يتسم بديمومة في السلطة متناقضة مع مقوماتها المنطقية وشروطها الموضوعية, وقد أضحت كذلك نظراً لاستناده إلى تحريم السياسة المدنية ,واحتجاز حقوق المواطنة التي ينبغي ان تكون الناظم الرئيس للدستور والقوانين النافذة , مما أدى بالتالي إلى أن تصبح ممارسة العمل الوطني والاهتمام بالشأن العام نوعاً من انتزاع الحق المستلب للمجتمع بكافة فاعلياته وقواه الحية . وهذا ما يجعل الفضاء الداخلي للقوى السياسية المتحالفة مشحوناً بنوعٍ من التوتر الناجم عن محاولة الوصول إلى النتائج الملموسة بمدىً زمني يقصر كثيراً حتى عن الإحاطة بجوانبها المتعددة , وعن ضرورة إدراك أبعادها وآفاقها المستقبلية.
2. يبدو أن الاختلاف حول طبيعة العلاقة بين المهام المرحلية والقضايا الاستراتيجية يعكس نوعاً من الارتباك في مجال الثقافة السياسية والأيديولوجية, إضافةً إلى أن الغموض الذي تتسم به المواقف المتباينة فيما يخص جدل العلاقة بين الداخل والخارج يجعل الرائز الوطني موضع تساؤل في المجتمعات التي اعتادت على تبعية النظام الاقتصادي والسياسي وارتباطه بمصالح القوى الكبرى في العالم .
3. إنّ حالة التوتر والقلق السائدة إزاء العلاقات بين أحزاب المعارضة, والخوف على مستقبل التحالفات القائمة, تتحول في ظل استمرار الضغوط الأمنية المتزايدة ,إلى محرض لإضعاف الشعور الداخلي باستقرار وتوطيد أركان العلاقات التحالفية, مما ينعكس سلباً على مضمون الخطاب السياسي ,في لغته ومفرداته , وعلى تناول القضايا التي غالباً ما تشكل هاجساً للنخبة, في حين يجري إغفال البحث في القضايا التي تهم المجتمع في مكوناته المتعددة.
4. ومن الملاحظ أنه بالرغم من توسع الاهتمام بالقضايا الدولية في ظل العولمة الراهنة,يتم التراجع عن الاهتمام بالقضايا العربية لحساب المصالح الوطنية ,في إطارٍ من الفصل التعسفي وغير المنطقي بينهما , وذلك نتيجةً لانعكاس خلافات الأنظمة على العلاقات الاجتماعية والسياسية العربية, من جانب, وتوحد هذه الأنظمة في قمعها واستبدادها إزاء الأحزاب السياسية العربية المعارضة لها, من جانبٍ آخر.
* * *
وفي المحصلة , يبدو أن مستقبل المعارضة في سورية , مرهون بعدد من الأمور التي ينبغي البحث فيها , والخطوات الإجرائية التي يفترض تنفيذها , إزاء القضايا العالقة, وخاصةً ما يتعلق بإتلاف إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي, حيث تشكل النتائج التي تمخضت عن اجتماع المجلس الوطني دلالة واضحة على مدى ما وصلت إليه علاقاته الداخلية من تراجع في الأداء المتواكب مع تباينات في الرؤية السياسية, والتي لم تعد خافيةً على أحد, إضافةً للبنية التنظيمية التي أضحت موضع نقدٍ واضح ,نتيجةً للأخطاء التي تفصح عن نفسها باعتبارها ما تزال تشكل عقبةً قائمة في طريق تصويب الأخطاء , مما يحتاج إلى حوارٍ مكثف للتوافق على مبادرة سياسية وتنظيمية تؤدي إلى إعادة إطلاق أفاعيله المتعددة من موقع الحرص على مستقبله وسط الحركة الوطنية الديمقراطية في سورية.
وتجدر الإشارة ,هنا, إلى أن الدور الرئيس للتجمع الوطني الديمقراطي, يمكن أن يتجلى في المبادرة للانتقال من وضعه الراهن ,وما فيه من إشكاليات داخلية ينبغي العمل على معالجتها ,إلى الموقع الذي اختاره لنفسه في العمل على توسيع وتوطيد أسس التحالفات السياسية للمعارضة, بما يضمن تفعيل قواها ودورها في تحديد المسار الوطني الديمقراطي المناهض بصورة فاعلة للاستبداد, والمقاوم لأطماع القوى الخارجية والإقليمية, من جانب, وتوثيق التعاون بين كافة أطياف المعارضة ,من خلال بلورة الأهداف المعلنة ,من جانبٍ آخر .
وبالتالي يمكن القول في اللحظة الراهنة ,أنه لا يمكن استشفاف آفاق الحركة الوطنية الديمقراطية ومستقبلها في ظل الأوضاع الداخلية الراهنة , إلاّ بعد إنجاز عدد من المهام التي تعزز موقفها داخل الجسم الاجتماعي وتفسح في المجال لتفعيل التواصل مع كافة مكونات المجتمع المعني ,وفي مقدمة هذه المهام تحقيق التوافق الديمقراطي حول عددٍ من المحاور التي ينبغي إدراك الارتباط الجدلي الوثيق بينها بعيداً عن أسر الأيديولوجيا الزائف لجملة المفاهيم والأفكار والتصورات المفتوحة دائماً على مقتضيات التحولات الثقافية و الاجتماعية والسياسية:
1. في الداخل الوطني , ليس ثمّة بديل عن الموقف الذي تكونت معالمه الرئيسة منذ أكثر من ثلاثة عقودٍ خلت ,والذي يتجلى في أنّ التغيير الوطني الديمقراطي السلمي والمتدرج ,إنما يفصح عن نفسه أولاً وقبل كل شيء ,بوصفه حاجةً مجتمعية سياسية راهنة , لإعادة إنتاج الوحدة الوطنية , وإطلاق مفاعيل التنمية والتطور التاريخي والاستقرار السياسي والاجتماعي ,ولابدّ ,إذن, لهذا التغيير أن يكتسب أبعاده من خلال بناء الدولة الحديثة ,وتوطيد أركان المجتمع المدني القادر على حماية الاستقلال والسيادة الوطنية .
2. وبالتالي فإنّ أبرز ما يمكن لدولة الكل الاجتماعي أن تتميز به ,يتجلى في ضمان التوزيع العادل للثروة الوطنية ,وتطبيق مبدأ المساواة التامة بين كافة المواطنين ,وإعلاء شأن العدالة الاجتماعية التي يمكن اعتبارها المستقر الأخير للعلاقات الاقتصادية التي تشكل أحد أبرز عوامل الاستقرار السياسي في الدول الناشئة,وذلك في الإطار العام لنظام الحكم القائم على سيادة القانون المدني واحترام حقوق المواطنة والتعددية السياسية .
3. وفي ظل العولمة الراهنة, وتقاطع مصالح القوى الخارجية والإقليمية في المنطقة, تبرز الأهمية المؤثرة لمستقبل العمل الوطني في سورية ضرورة تحديد المعارضة لتوجهاتها السياسية الخارجية, ومواقفها من تطورات الأحداث العربية والدولية ,إضافةً لابتكار السبل والآليات لتفعيل التواصل مع القوى السياسية وفاعليات المجتمع المدني عموماً في الوطن العربي ,وعلى مستوى العالم ,وذلك من خلال العمل بدلالة مشروع الأمة وليس بدلالة المشروع القطري المحاصر لذاته والمنكفئ على نفسه .
ويبقى ان نشير إلى أنّ توسيع آفاق العمل السياسي وتعميق ثقافة الحوار الديمقراطي ,ورفض سياسة الإقصاء أو الاحتواء , يبقى السبيل لتوطيد علاقات التحالف بين قوى المعارضة وأطيافها المتعددة