صفحات العالمما يحدث في لبنان

اليسار في صحراء الانتخابات

الياس خوري
يبدو اليسار اللبناني، عشية الانتخابات النيابية، خارج المعادلة كليا. تجربة نائب حركة اليسار الديموقراطي في طرابلس، انتهت ببؤس محزن. اما احتلال امين وهبي موقعا في لائحة 14 آذار في البقاع الغربي، فليس سوى تكرار لتجربة طرابلس، بشروط اكثر سوءا. الياس عطالله كان عام 2005 مرشح منظمة يسارية لبنانية جديدة، لعبت دورا كبيرا في انتفاضة الاستقلال، بينما اختار تيار “المستقبل” الدكتور امين وهبي، قبل ان تعلن حركة اليسار تبنيها لترشيحه، في لحظة دخول الحركة في غيبوبة تشبه الموت السريري.
اما لماذا رضيت حركة اليسار بانتقال مرشحها من الشوف الى طرابلس عام 2005، فتلك حكاية تؤرخ لبداية انتهاء المشروع والشرعية، الذي وصل الى ذروته في حرب تموز 2006.
في المقابل وجد الحزب الشيوعي اللبناني نفسه خارج لوائح 8 آذار، لسبب لا يعلمه الا الراسخون في العلم الانتخابي الطائفي. فعلى الرغم من شبه التأكيد أن احد قادة الحزب سوف يكون مرشحا على لائحة التحالف الشيعي في الجنوب، اتضح ان لا مكان للشيوعيين في لوائح المعارضة، لأن عليهم ان يتابعوا دفع ثمن الزمن الذهبي للحركة الوطنية، وان يحمَّلوا وزر تراث استقلالية جورج حاوي التي لم يمانعوا في التخلي عنها، والتي دفع الأمين العام السابق للحزب حياته ثمناً لها.
اليسار خارج اللعبة في شكل كامل. هذا هو الواقع. وهو واقع يدعو الى الأسى ويطرح اسئلة كبرى على معنى ضمور اليسار وانحلاله في المعادلة اللبنانية الجديدة، التي نشأت بعد النهاية الرسمية لحقبة الهيمنة السورية على لبنان.
كانت الأمور واضحة في زمن الهيمنة. فالنظام السوري عمل في شكل منهجي على إخراج اليسار من مشروع مقاومة الاحتلال الاسرائيلي، وهو مشروع اسسه اليسار منفردا ووسط صعوبات هائلة. كان من الواضح ان إخراج اليسار اللبناني من المقاومة، كان تمهيدا لإخراجه من اللعبة السياسية اللبنانية. ولم ينجح هذا المشروع الا وسط الكثير من الدماء، حيث دفع المناضلون الشيوعيون ثمنا باهظا على كل المستويات، ولا تزال ذكرى مهدي عامل وحسين مروة ورفاقهما، خير شاهد على صعوبات تلك المرحلة ووحشيتها.
إخراج اليسار من المقاومة، لم يكن ممكنا الا عبر إخراجه من الجنوب والضاحية. هنا لعب “حزب الله” دورا كبيرا في إنجاز المهمة، كخطوة من أجل احتكار المقاومة وصبغها بلون ديني ومذهبي محدد.
على رغم محاولات قيادة اليسار إيجاد موطئ قدم لها في السياسة اللبنانية بعد الطائف، فإن الباب السوري بقي مقفلا في شكل كامل.
غير ان الأمور كانت مرشحة للتغير خلال انتفاضة الاستقلال وبعدها. هنا يجب التوقف عند مسألتين:
الاولى، تردد قيادة الحزب الشيوعي اللبناني امام الانتفاضة، ورفضها المشاركة فيها، واتخاذها موقفا عدائيا من مشروع “المنبر الديموقراطي”، الذي لعب دور المختبر التأسيسي للانتفاضة، مما افقد اليسار وزنا كبيرا ومنعه من المشاركة في مطبخ القيادة الفعلي، الذي بقي حكرا على القيادات الطائفية.
الثانية، ضعف حركة اليسار الديموقراطي، التي كانت في طور التأسيس، ووقوعها في فخ التحالف غير المشروط مع قيادات 14 آذار، مما اخرجها من ميزان القوى الحقيقي، وألغى إمكان ان تتحول مركز جذب لليساريين والديموقراطيين العلمانيين اللبنانيين. ثم جاءت حرب تموز 2006، لتكشف ان مشروع الحركة برمته قد انتهى الى التلاشى، وانها صارت مجرد ملحق ثانوي بالقوى المهيمنة في 14 آذار.
غير ان هذين السببين لا يفسران وحدهما الوضع البائس لليسار. الحزب يبحث عن مقعد او مقعدين في ضيافة “حزب الله”، واليسار الديموقراطي غائب عن الوعي، ويجاهد عبثا من اجل الاحتفاظ بمقعده الطرابلسي، ويرضى ببديله في البقاع الغربي.
بدل ان يتخذ اليسار موقفا مبدئيا من قانون 1960، الذي فرضته الدوحة، كتسوية اقليمية بين السعودية وسوريا بمباركة امراء الطوائف، جلس يستجدي على الرصيف السياسي. قانون 1960، الذي دمّر الجوانب الاصلاحية في مشروع فؤاد بطرس، كان يعني العودة الى الماضي، والى أن تقفل الطبقة السياسية ابواب السياسة الفعلية امام غير الطائفيين. لم يعد هناك اي مجال في النظام الانتخابي اللبناني للقوى العلمانية. فلماذا خوض الانتخابات في اطار تحالفات لا مبدئية؟ ولماذا يُفجع الشيوعيون واليساريون حين يجدون انفسهم وقد دُفعوا دفعا الى موقعهم الفعلي كقوة معارضة اعتراضية على بنية النظام اللبناني؟
اما حجة التحالف مع 14 آذار كمشروع استقلالي، فقد سقطت بسقوط المشروع نفسه. فالواضح من المؤشر الانتخابي ان المنتصر الأكبر سوف يكون التوازن الاقليمي، السوري – السعودي، الذي يفرض تحالفات هجينة يشكل الائتلاف الطرابلسي نموذجها الواضح، تمهيدا لعودة النفوذ السوري في شكل هادئ وثابت كي يلعب دورا مهيمنا في السياسة اللبنانية. وهذا ما يشير اليه “البارومتر” الجنبلاطي، في انعطافاته الجديدة، وقدرته على التأقلم كجزء من غريزة البقاء.
محنة اليسار لها سبب واحد، هو ان اليسار نسي او تناسى ان شرعيته لا تأتي من تحالفاته اللامبدئية، بل تأتي من كونه وحده الذي يستطيع ان يحمل مشروع الاستقلال ومقاومة اسرائيل والدفاع عن العدالة الاجتماعية في الآن نفسه.
الوطن لا تبنيه الطوائف. اقصى ما تستطيعه القوى الطائفية هو ان توافق على معادلة سياسية صنعها اسيادها، وتسمّي ذلك دولة واستقلالا. الوطن لا يبنيه سوى مشروع علماني ديموقراطي، آن للفكر اليساري اللبناني ان يبدأ ببلورته، ويخرج من كسله واتكاليته.
من الطبيعي ان تقفل الطبقة المسيطرة ابواب التغيير، وان يحاول زعماء الطوائف افتراس الوطن. لكن ما ليس طبيعيا او منطقيا هو هذا الخمول في الوسط الديموقراطي اليساري العلماني، الذي يجد نفسه اليوم تائها في صحراء الانتخابات.
النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى