مرتكزات الدولة القطرية العربية
د. ثائر دوري
عندما زال حكم بني أمية من دمشق و أصبح الأمراء الأمويين مطاردين مهددين بالقتل بسيوف بني العباس ، عبر عبد الرحمن الداخل ” صقر قريش ” إلى الأندلس ليقيم خلافة أموية هناك ، و يعلن نفسه خليفة لكل المسلمين. رغم أنه – على الصعيد الواقعي – لم يكن يحكم سوى الأندلس ، لكنه لم يعلن نفسه حاكماً لجماعة أندلسية،و لم ير للبلد الذي يحكمه هوية منفصلة عن الهوية الجامعة للأمة.
وعندما أقام الفاطميون دولتهم،أيضاً،أعلنوا أنهم خلافة و دولة لكل الأمة،و كذلك أعلن العثمانيون أنفسهم ، و حرص المماليك على استمرار تبعيتهم الاسمية للخلافة العباسية و ذلك بالدعاء للخليفة العباسي على المنابر .
كان الخيار السياسي محصوراً في ذلك الوقت بين حدين : إما اعلان التبعية، و لو الإسمية ، للخلافة العباسية القائمة في بغداد عبر الدعاء لخليفة بغداد في المنابر ، أو إعلان خلافة للمسلمين كافة . فلم يكن هناك ما يسمى بالدولة القطرية ، أو الشعور بوجود هوية منفصلة عن الهوية الجامعة للأمة لأن الشعور بوحدة الأمة كان طاغياً . و ظل هذا الشعور سائداً حتى القرن التاسع عشر، فلم يطرح أحد من فقهاء المسلمين ، أو من حكامهم ،أو من ساستهم مشروعاً لجماعة منفصلة عن الأمة.
ما الذي جرى في القرن التاسع عشر و خرق هذه القاعدة ، فبرزت الدولة القطرية ؟
أولاً- الاجتياح العسكري الغربي
إن أول دولة قطرية عربية ولدت في العصر الحديث هي الدولة المصرية بعد فشل تجربة محمد علي . يقول المستشار طارق البشري في تفسيره لهذا الأمر :
” إن منشا المصرية في صنيع محمد علي ، هو بناء الرجل للقواعد العريضة لجيشه و لجهاز دولته من المصريين،ابتداء من 1820،و لم يكن اختياره للمصريين ، كي يشكل بهم قواعد جيشه اختياراً قومياً، و لا كان اختيارا يتعلق بمفهوم جديد لديه عن الجامعة السياسيةو أنه لم يلجأ إلى تجنيد المصريين إلا بعد أن كان تجنيد المماليك من مناطق جلبهم السابقة قد انقطع ، و بعد أن فشلت تجربته للتجنيد من السودان ” .
فالأمر لم يكن يعدو ، حسب البشري ، سوى مجرد صدفة سببها تعذر الإحتمالات الأخرى للتجنيد . و لم تطرح هذه الكوادر في البداية فكرة المصرية أو التمصير ، بل ظلت تنظر إلى نفسها على أنها جزء من الجامعة الاسلامية ، و خاض محمد علي معاركه بها على هذا الأساس،فلم يحاول الاستقلال بمصر عن الدولة العثمانية على أساس مصري ، بل طرح نفسه احتمالاً لتجديد الجامعة الإسلامية لذلك أرسل جيشه إلى سوريا و حاول أن يتابع إلى الأستانة لكن الغرب منعه عسكرياً فهُزم مشروعه ، و ترسخت الهزيمة باتفاقية لندن عام 1840 م . و هذه الهزيمة ، حسب البشري ، هي التي أطلقت الحركة المصرية ، فالكوادر التي ابتعثها محمد علي إلى أوربا كانت قد تشربت بالفكر الغربي و تحديداً بفكر المركزية الغربية و رؤيته للتاريخ و للجماعات البشرية . وجدت هذه الجماعات في ظروف الهزيمة فرصتها كي تنعزل عن الجامعة الاسلامية و تمارس ثقافتها السياسية المتشبعة بالمركزية الغربية . هذا هو الركن الثاني الذي تنهض عليه الدولة القطرية ، و هو ما سوف نمر عليه لاحقاً. يقول البشري :
” و لنا أن نتأمل لو أن محمد علي نجح في دخول الأستانة ، و أقام نظام حكم شامل ، أكان سيبقي جيشه و دولته مصريين خالصين ؟ ام أن التكوين المصري استمر بسبب انحسار حكم محمد علي عما عدا مصر ، و فشل مشروعه الكبير ؟ لقد بدأ هذا التكوين المصري في إطار مشروع احيائي عثماني ، فلما انكسر المشروع بتدخل الأوربيين ، بقي المكون المصري يصنع صنيعه في هذا الإطار المضروب من العزلة ”
و يتابع :
” و يمكن ، بالمثل ، تتبع الإشارة إلى المؤسسات الحديثة التي ظهرت في مصر أيام محمد علي لتخدم مشروعه العام ، ثم أغلق الكثير منها ، و انصرف القليل الباقي عن مقصده الأساسي ليخدم من بعد سياسة التبعية للغرب ……ذلك أن معاهدة لندن عام 1840 لم تعزل مصر فقط عن الدولة العثمانية لتنفرد بها أوربا ، إنما أفضت إلى مزيد من الهيمنة الأوربية على الدولة العثمانية جمعاء ، و انكسر فيها أيضاً مشروع الإحياء …” ( راجع كتاب البشري الحوار الاسلامي – العلماني )
ثانياً – الاجتياح الفكري الغربي
اجتاحت المركزية الغربية عقول النخب العربية فكرياً، فعشعشت في الجامعات و المدارس ، ثم صار تداولها و التسليم بها شائعاً . يمكن تلخيص عمل هذه المركزية الغربية بالنقاط الرئيسية التالية:
1- اعتبار أوربا مركز الحضارة البشرية على مر العصور ، و النظر بدونية و احتقار للحضارات و للشعوب الأخرى .
2- اختراع عصر ذهبي موهوم للحضارة ، و هو اليونان في الحالة الأوربية .
3- تجاهل العصور الوسطى التي ساد بها العرب و المسلمون العالم ، و اعتبارها عصوراً مظلماً .
و بالتالي يصبح التاريخ عبارة عن عصرين ذهبيين هما اليوناني في الحالة الغربية،و الحضارة الغربية الحديثة ، أما ما بينهما فظلام و عصور مظلمة تمتد أكثر من عشرة قرون ، و بالتدقيق نجد أن الموصوف بالظلام هي حضارة العرب و المسلمين .
طبق الغربيون هذه النظرية بحذافيرها أينما حلوا في العالمين العربي و الاسلامي . و لقنوها لتلامذتهم من متعلمي و مثقفي تلك البلاد ، فإذا حلوا في أرض فارس ساهموا باحياء الحضارة الفارسية القديمة ،فاعتبروها العصر الذهبي للأمة الفارسية ، ثم جعلوا الحضارة العربية – الاسلامية التي تنتمي لها الأمة الفارسية المعاصرة حضارة بدوية متخلفة دمرت العصر الفارسي الذهبي ، الذي تستعيده الدولة الايرانية المعاصرة المؤسسة برعاية غربية معاصرة . و كذلك بالنسبة للأتراك الذين لا يملكون ماضياً سابقاً للاسلام يُعتد به ، فاخترعوا لهم ما يعتدون به ، ثم وصلوا الماضي الموهوم بقفزة واحدة مع دولة تركية حديثة ترفل برعاية الغرب و تتبعه . أما العرب فصاروا طارئين على الحضارة – حسب ما تقول المركزية الغربية – أعداءً للترك و للفرس . و سرعان ما ردد هذا الكلام التلامذة من فرس و ترك بل و حتى عرب .
تنطلق المركزية الغربية في تعاملها مع العالمين العربي و الاسلامي من ركيزتين ثابتتين ، الأولى اعتبار العرب طارئين ، هم و دينهم ،على الحضارة الإنسانية ، فهم نشأوا من الفراغ ، إذ لا علاقة لهم بالحضارات التي سبقتهم ، و هم ليسوا نتاجها و لا ورثتها ، و أيضاً لا علاقة لهم بمن أتى بعدهم ، فالذين يعيشون اليوم في جغرافيا العالمين العربي و الاسلامي لا علاقة لهم بالعرب و المسلمين ، كما تزعم المركزية الغربية و تلامذتها، فيقولون إن مصر المعاصرة يسكنها أحفاد الفراعنة ، و اليمن يسكنهاأحفاد السبئيين ، و أهل لبنان أحفاد الفينيقين ، و الجزائر يرجع نسبها إلى الوندال ، اما أين ذهب العرب فهذا ما لا نعرفه فالمركزية الغربية تقترح أنهم كما ظهروا من العدم و الفراغ في القرن السابع الميلادي ذهبوا إلى العدم في العصر الحديث .
أما الركيزة الثانية لنظرة الغرب إلى المنطقة فهي التفتيت،فأولاً تم فصل المسلمين من غير العرب عن العرب ، و بعد ذلك فتتوا العرب إلى دول قطرية، و اليوم يحاولون تفتيت الدول القطرية . فالمركزية الغربية ، سياسياً و حضارياً ، مهجوسة بتفتيت مكونات الحضارة العربية – الاسلامية إلى أصغر أجزاء ممكنة ، و التفتيت ليس سياسياً فقط بل يجب إيجاد مرتكزات فكرية له .
نعود إلى مختبر الدولة لقطرية الأول مصر ، لأن مصر هي أول أرض عربية بذر الغربيون فيها الأسطورة المؤسسة للقطرية، وهناك أنتشت البذرة ، ثم نمت لتصبح شجرة تطرح ثمارها الفاسدة حتى اليوم . بدأ الأمر مع الحملة الفرنسية على مصر التي تمخض عن جهود علمائها تأسيس ما يسمى بـ” علم الفرعونيات ” .
طبق الغرب في مصر خطوط نظريته السابقة بكل احكام ، فقد أحيا فيها عصر ذهبي يمثله العصر الفرعوني ، و أقيمت علاقة تناحرية بينه و بين العصر العربي الاسلامي الذي اعتبر عصرا مظلماً و عصر دمار للحضارة ، كما نظروا إلى المصريين المعاصرين على أنهم من سلالة أولئك الفراعنة و لا علاقة لهم لا بالعرب و لا بالإسلام . في حين أن المنطق العلمي يقول أن لا شيء ينبت من الفراغ و يذهب إلى العدم ، فالحاضر وليد الماضي ، و المستقبل كامن في الحاضر .
يتم ردم هذه الفجوة التي شغلتها الحضارة العربية الإسلامية بالتجاهل و الإهمال، و هذا الأمر يخلق فجوة معرفية لا يمكن أن يمر عليها أي قاريء رصين للتاريخ . لكن تلامذة المركزية الغربية من مثقفين و أكاديميين يمرون فوقها دون أن يرف لهم جفن.
و خلاصة الأمر إن الدولة القطرية العربية هي جماع الإجتياح العسكري الغربي،و الإجتياح الفكري ، و إذا كان الإجتياح العسكري واضحاً لأن بيارق الجيوش لا تُخفى عن الأبصار ، فإن الإجتياح الفكري الغربي مسألة أعقد و مقاومته أصعب ، فالمركزية الغربية قد فرخت و باضت ” مفكرين ” و ” كتاباً ” و ” سياسيين ” عرباً و مسلمين ، و أسست مؤسسات و جامعات و مراكز أبحاث و نخبة تكنوقراطية تنظر إلى أمتها بعيون غربية. و على هذه الجبهة تحسم المعركة، فإما دولة قطرية تابعة للغرب ذليلة لا يمكن ان تنجز التطور و لا الحداثة ، و إما مستقبل موحد يفتح طريق النهوض .و يتأسس على فهم أن هناك كتلة بشرية في هذه المنطقة الممتدة من السند إلى الأطلسي ذات تواجد مستمر منذ فجر التاريخ و حتى اليوم ، و هي ذات خصائص حضارية موحدة ، و قد أنتجت حضارات بمسميات مختلفة و بأماكن مختلفة من هذا الفضاء الجغرافي الممتد من السند إلى الأطلسي ، كما قلنا ، و في قلب هذا الفضاء الحضاري تقع جزيرة العرب بجغرافيتها الحقيقية ، التي تعني بالتعابير الجغرافية المعاصرة : شبه الجزيرة العربية ، و وادي النيل ، و بلاد ما بين النهرين ، بلاد الشام . فهذا القلب هو الذي ضخ كل الحضارات للعالم القديم ، و بالمقابل فهو قد استقبل من أطرافه كل ما هو هام و مميز و جديد . فكانت العروبة و كان الاسلام و كانت المسيحية .
كاتب سوري
القدس العربي