قراءة في دفاتر السجن: تمهيد على شكل إضافة
نايف سلّوم
كراسات أو دفاتر السجن لـ غرامشي تذكرنا بـ “الدفاتر الفلسفية” التي كتبها لينين في الأعوام 1914-1915، التي تتضمن من بين ما تتضمن خلاصة “علم المنطق” لهيغل، حيث يلخص لينين “المنطق الكبير” المجلدات III، IV ، V ، إضافة إلى “المنطق الصغير” أو ما اشتهر باسم “موسوعة العلوم الفلسفية” وهو الجلد VI. وهي منشورة كاملة في المجلد 38 من أعمال لينين الكاملة بالإنكليزية.
وكان الياس مرقص قد ترجم قسماً من دفاتر لينين إلى العربية في ثلاثة مجلدات وبقي قسم من الدفاتر لم يترجم بعد. وهذا هو مصير كراسات أو دفاتر السجن لغرامشي- التي نعرض لها اليوم- حيث تشمل الترجمة العربية مختارات من كراسات السجن لغرامشي مترجمة عن الإيطالية إلى الإنكليزية. وكان ماركس قد مهد لكتابه رأس المال بمجموعة من الدفاتر سميت “الغروندريسّة ” أو “الأسس” ، وهي مجموعة دفاتر كتبها ماركس لنفسه ولم تكن معدة للنشر . إن أسلوب الدفاتر الذي ظهر عند كبار المؤلفين الماركسيين يشير إلى ضخامة المهمة النظرية الملقاة على عاتق الماركسيين، و يعتمدها المؤلف للتوضيح الذاتي في الموضوعات المبحوثة، أي هي نوع من التأليف “السلبي” إذا صح التعبير. فغير الضخامة والتنوع في القضايا، هناك عدم التبويب ، أو هناك فهارس لأجل الاستخدام الشخصي، وهي مكتوبة على امتداد سنوات عدة . هذا التوصيف ينطبق على كل من دفاتر السجن لغرامشي و دفاتر لينين الفلسفية ودفاتر ماركس الاقتصادية والفلسفية . يقول مترجم ماركس: “الغروندريسّة هي الذروة في نهاية رحلة خاصة طويلة وشاقة على حد تعبير مارتن نيكولوس أحد أبرز دارسي ماركس ” فخمس عشرة سنة من البحث الفلسفي والاقتصادي هي خيرة سني حياة ماركس محتواة في صفحات العمل” وهي سلسلة من سبعة دفاتر ، صاغها ماركس كمسودات أولية خلال شتاء 1857- 1858 لأغراض التوضيح الذاتي بالدرجة الأولى .. ولم تنشر إلا في عام 1953 وبنصها الألماني. إضافة إلى دفاتر ماركس لعام 1851 والمتضمنة مقتطفات عن ريكاردو.
يقول المترجم العربي لدفاتر غرامشي في مقدمته: “هذه ترجمة لمختارات من كراسات السجن حررها وترجمها إلى الإنكليزية كينتين هور وجيفري نويل سميث، دار لورانس، و ويشارت لندن 1978”. الطبعة العربية لهذه المختارات من منشورات “دار المستقبل العربي” القاهرة 1994.
اعتمدت الترجمة الإنكليزية على طبعة تورين التي نشرها إي نودي لكراسات السجن مع نص أو نصين لغرامشي لم يسبق نشرهما، مع إدخال تعديلات طفيفة على الترتيب في بعض المواضع. وإعداد مدخل لكل قسم من أقسام الكتاب.
بدأ غرامشي العمل “بكراسات السجن” في “فبراير” شباط 1929 وفرغ منها 1935. وتبلغ 33 كراساً (دفتراً). كانت الكراسات استمراراً لنضال غرامشي الثوري، وكانت كما وصفها غرامشي نفسه: “بؤرة حياتي الداخلية” “الكلام لـ غرامشي بالطبع“.
توفي غرامشي سنة 1937 إثر خروجه من السجن. وهو المولود سنة 1891 في جزيرة سردينيا جنوب إيطاليا
مفهوم الثقافة، ومفهوم المثقف العضويّ:
جاء في القاموس المحيط في معنى كلمة “ثَقُف”: ثقُف، ثَقْفاً، ثقافة، صار حاذقاً خفيفاً فطناً. فهو ثِقْف كـ حِبر. و الِثقاف ما تسوّى به الرماح .
هكذا تكون الثقافة حصيلة ما تكتسبه الجماعة تاريخياً ، حيث تصقل وتتهذب عاداتها وتقاليدها. ويفهم من كلمة ثقافة كل فعل للتاريخ في تهذيب الجماعة البشرية ، كل فعل للتاريخ في الطبيعة. فهي الثقافة ضد الطبيعة الأولية الخام والخشنة؛ “المتوحشة”. المشغول بفعل التاريخ، والمصقول بهذا الفعل هو المثقف. والثقافة هي المتولدة بالخبرة والمكتسبة بالتربية المديدة.
و جاء في المورد في معنى كلمة culture: حِراثة، تثقيف، تهذيب، حضارة أو مرحلة معينة من مراحـــل التقدم الحضاري… المستنبت أو نتاج عملية الاستنبات.
الثقافة: هي الحِراثة ، أي هي تهذيب الأرض من الحجارة والأعشاب الضارة، مع إحداث طبقة ترابية جديدة عبر قلب الوضع القائم أو إزالة حضور “الطبقة” السائدة.
إن دفع تعريف الثقافة إلى هذه العوالم الأخيرة المجازية يعني اتصالها بالأيدولوجيا العضوية أو إعادة إنتاجها(الثقافة) تحت هيمنة الإيديولوجيا العضوية، بحيث يشكل النتاج الإيجابي لنقد ثقافة قومية معينة، المحتوى “المادي” لهذه الإيديولوجيا إذا جاز التعبير. فإذا كانت الثقافة هي المسافة بين العلم التاريخي من جهة واحدة، وبين الإيديولوجيا من الجهة الثانية، فهذا يعني أن العلم التاريخي والثقافة و الإيديولوجيا ليست سوى لحظات ثلاث لعملية تاريخية واحدة هي عملية تشكل الإيديولوجيا العضوية كأيديولوجية للطبقة الصاعدة تاريخياً، أو الطبقة التقدمية، بالواجب وليس بالوجود، أي تقدمية بالقوة، وعليها أن تصبح تقدمية بالفعل عبر الوعي والتنظيم . تحيل الإيديولوجيا إلى الإيمان والعقائد ، بينما تحيل الثقافة إلى العادة والتقليد . الإيديولوجيا العضوية في عصرنا هي إيديولوجيا تدعو لتغيير التشكيلة الرأسمالية عبر القضاء على الملكية الخاصة الرأسمالية.
في حال غياب الشروط التاريخية لتشكل أيديولوجية عضوية بفعل تراجع الحركة الشعبية، تتصدع هذه الوحدة وتنفصل اللحظات الثلاث. ويمكن للثقافة في حالة كهذه أن تتشبه بـ الإيديولوجيا العضوية بحيث تطرح نفسها كخصم تاريخي للوضع السائد أو القائم وهذا هو حال الإسلام السياسي في الزمن الراهن في المواجهة المزعومة مع الإمبريالية الرأسمالية .
في الماضي القريب، زمن الحرب الباردة، ونظراً لسيطرة الفكر البيروقراطي السوفييتي، كان هناك استبعاد من قبل الأيديولوجية العضوية للثقافة القومية، بحيث ظهرت هذه الإيديولوجيا وكأنها غنية عن هذه الثقافة وعن جهد مراجعتها نقدياً. الآن وبعد تصدع الثقة بالأيديولوجية البيروقراطية خصوصاً والعضوية عموماً، وبعد الردة السلفية الدينية، راحت الثقافة الدينية السلفية تلعب الدور ذاته، حيث أبعدت بل أزاحت الأيديولوجية العضوية من حركتها في المواجهة المزعومة مع “الغرب” ، أو المواجهة مع التحديث “الغربي” في عصر انحطاطه. هكذا ظهر الجفاء بين الثقافة القومية من جهة والأيديولوجية العضوية من الجهة الأخرى مرتين. وهذه العملية في وجهيها لن تكون في صالح مشروع النهوض القومي العربي الديمقراطي .
أريد أن أفرق بين التدبّق من جهة و بين الارتباط العضوي من الجهة الأخرى. إنه كالفرق بين العين والبصر بعلاقتهما بعضوية الإنسان الفرد. العين متصلة ميكانيكياً وفيزيائياً كالفرد البورجوازيّ عضو الطبقة البورجوازية السائدة ، والبصر غير متصل وغير منفصل عن العضوية الفردية كالمثقف العضوي للطبقة البورجوازية. المثقفون ينفصلون عن الطبقة السائدة لكي يتحدوا بها اتحاداً أوثق، لكي يكوّنوا بنية فوقية حقيقية، لا مجرد عنصر غير عضوي، وغير متمايز من البنية الاقتصادية ، إنها حركة استيعاب الاقتصادي وتجاوزه أو رفعه إلى مستوى السياسي، إلى مستوى المهمة التاريخية للطبقة المعنية.
العضويّة تعني التمايز عن البنية الاقتصادية والارتباط بها من الجهة الثانية. وكلمة عضو organ تعني لسان حال كالجريدة أو المجلة تكون ناطقة بلسان حزب أو جماعة. و organic عضويّ أي جزء لا يتجزأ من كلّ. وكلمة عضو تعني أيضاً تميز العضو في وظيفته داخل الكلية العضوية. إن سمة العضوية تماثل تماماً علاقة الفكر بالدماغ البشري والأعضاء الأخرى؛ فالعضوية البيولوجية للفرد الإنساني هي في أساس حياة الفكر، ومع هذا فهي، أي الأفكار غير متصلة فيزيائياً أو حسياً مع هذه العضوية البيولوجية . “العضويّ” بالمعنى الفلسفي العميق تعني غير المنفصل وغير المتصل. وأنا أستخدم صيغة السلب لكي لا أخلط المعنوي بالفيزيائي.
يأتي استقلال المثقفين العضويين النسبي عن الطبقة التي ينتظمون بها من دور المثقفين الضروري كمنظمين ومربين وعلماء وباحثين ومحققي تجانس الطبقة في المستويات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. ويأتي استقلالهم أيضاً من أن المنظمة التي تربط المثقف بالطبقة هي ذات المنظمة التي تفصله عنها، وتعطيه نوعاً من الاستقلالية. ( نستعير من القاموس الصوفي: هذه المنظمة باب وحجاب)
الصفة العضويّة للمثقف منوطة بدرجة ارتباط التنظيم الذي ينتمي إليه مع الطبقة التي يمثلها هذا التنظيم، لكن هذه العلاقة العضوية منوطة بأمر آخر وهو المكانة التي يشغلها المثقف في المنظمات “الطبقية” للمجتمع المدني (منظمات الهيمنة أو المنظمات الاقتصادية / الحرفية) والمجتمع السياسي(أجهزة الدولة)
فمعلم المدرسة أقل عضوية من عضو في حزب النظام . وزعيم هذا الحزب أكثر عضوية في تعبيره عن مصالح طبقته السياسية من عضو طارئ وعادي.
وهكذا ، كلما زاد خضوع التنظيم الذي ينتمي إليه المثقف لطبقة بعينها، وكلما شغل وظيفة أرفع في هذا التنظيم صار أكثر عضوية كمثقف لهذه الطبقة.
بما يخص استقلال المثقفين النسبي ، يجب التفريق بين الكينونة الطبقية أو ما يشار إليه بالأصل الاجتماعي للمثقف ، وبين التنظيم الطبقي الذي يشمل الموقع الطبقي والموقف الطبقي والدراسة الطبقية . والدراسة الطبقية تعني استعمال البنية النظرية وأدواتها كمنطلق للبحث وإنتاج المعرفة الجديدة. بالنسبة للمثقف البروليتاريّ تعني، استعمال النظرية الماركسية أو نتائج العلم التاريخي / الاجتماعي بما يخص دراسة التنظيم الاقتصادي للمجتمع البورجوازيّ، واستعمال الديالكتيك المادي كمنهج إجمالي وثوري بطبيعته، كعلم جبر الثورة أو رياضياتها العالية ، مع الإشارة إلى ديالكتيك تحول محتوى العلم التاريخي/ الاجتماعي (الماركسي) إلى شكل وأداة للتحليل اللاحق. وهو ما يشار إليه بتاريخية الديالكتيك المادي.
تتوسط بين المثقف العضوي والبنية الاقتصادية كل من الطبقة الاجتماعية التي ينتظم فيها المثقف العضوي ، والمنظمة التي ينتمي إليها. والتوسط مقولة أساسية في الماركسية . من هنا مناهضة الماركسية لكل ربط ميكانيكيّ مباشر بين التنظيم الاقتصادي للمجتمع من جهة وبين البنى الفوقية الإيديولوجية والسياسية من الجهة الثانية .
لذلك أقول: إذا كانت دراسة البنية الاقتصادية أو ما يسمى بالتنظيم الاقتصادي للمجتمع يمكن أن تقدم إطاراً عاماً لتحليل مكانة المثقفين ووظيفتهم في المجتمع ، فإن هذا التحليل سيكون مرتبطاً مباشرة بدراسة الطبقات الاجتماعية والمنظمات القائمة في المجتمعين “المدني” والسياسي. أي في تنظيمات الهيمنة الاقتصادية والاجتماعية والأيديولوجية وفي تنظيم الإكراه أو الدولة السياسية الحديثة.
تراتب المثقفين:
لدينا أربعة أنماط من المثقفين: 1- الباحث(العالم) ؛ منتج العلم أو منتج معرفة جديدة. 2- المربي؛ المنظر أو الداعية لفكرة بعينها أو لمذهب بعينه ويسميه غرامشي بـ عضو الحزب الأيديولوجي 3- منظم الهيمنة ؛ عضو الحزب السياسي 4- منظم الإكراه؛ أو عضو الدولة بالمعنى الإداري والعسكري. ويوجد نوع خامس من المثقفين الاقتصاديين / الحرفيين وهم التقنيون.
يتوجب التمييز بين التكنوقراطيين ، والتقنيين على أساس تراتب المثقفين في بنية اجتماعية معينة . لقد أصبح التكنوقراطيون يلعبون أدوارا فكرية أكبر من التقنيين في النصف الثاني من القرن العشرين ، وأمام التفوق التراتبيّ في البنية الرأسمالية البورجوازية تم رصد ميل عند التقنيين نحو البلترة (من السمة البروليتاريّة) ، مما أوهم بعض المنظرين إلى اعتبار التقنيين طبقة عاملة جديدة.على سبيل المثال “سيرج ماليه” في كتابه “الطبقة العاملة الجديدة” وأصحاب الياقات الزرق والبيض في بعض تنظيرات هربرت ماركوز الخ..
سيكون للتكنوقراطيين وظيفة فكرية أكثر أهمية من التقنيين . من هنا التقنيون أقرب إلى العمال منهم إلى البورجوازية كميل.
توجد ضرورة رصد التراتب الذي يربط المثقفين من نمط واحد: مثلاً تقوم فوارق في نظام التربية الحديثة ملموسة بين أساتذة الجامعات من جهة وبين المدرسين في المدارس ما قبل الجامعية من جهة أخرى . المدرسون بحكم قربهم من الجماهير الشعبية يمكنهم بسهولة أن ينشدّوا إلى القوى التقدمية في المراحل الثورية أو فترات الأزمة العامة للطبقة المسيطرة. بينما تتعزز الميول الرجعية لدى أساتذة الجامعات بشكل إجمالي . هذا لا ينفي ظهور حالات فردية مفارقة . بالطبع ليس كل من يعمل في المدرسة مثقفا، وليس كل من يعمل في الجامعة مثقفا أيضاً.
في التنظيمين العسكري والإداري وفي الغالبية العظمى من التنظيمات التي تمارس وظيفة الهيمنة أو السيطرة توجد تشكيلة من الأعمال التنفيذية المحضة التي لا تتضمن أية وظيفة تنظيم أو تربية أو بحث، كالجندي البسيط أو الجندي الذي “تطوع” ليعيل أسرته، أو الكويتب في دائرة حكومية، الخ.. بينما يلعب كل كادر من كوادر حزب سياسي بعينه دور المثقف التربوي والتنظيمي و الدعاويّ . العامل في حزب سياسي من الطراز اللينينيّ، ليس عاملاً فحسب، بل هو مثقف عضوي للطبقة العاملة لأنه ليس في الحزب ليدافع عن مصلحته النقابية القريبة ، فهناك نقابة لذلك، بل ليدافع عن المصالح السياسية العامة لطبقته وللطبقات المتظلمة الأخرى في المجتمع المعني.
إن استقطاب الطبقة العاملة وامتصاصها لمثقفين من أصول إقطاعية يدل على اندحار تاريخي نهائي للطبقة الإقطاعية وعلى انحطاط مشروع الطبقة البورجوازية بكل أشكالها الكبيرة والمتوسطة والصغيرة. وحتى يلعب هؤلاء دوراً عضوياً ؛ سياسياً ومستقبلياً فعليهم الالتحاق بمواقع الطبقة البروليتارية. وإذ حاول مفكرون في أوربا لعب هذا الدور، والإقطاعية ما يزال دمها حارا، فقد ظهر ما يسمى بالاشتراكية الإقطاعية. جاء في البيان الشيوعي: “وجدت الأرستقراطية الفرنسية نفسها محكوماً عليها ، بحكم وضعها التاريخي ذاته ، بأن تهجو المجتمع البورجوازيّ الحديث . فأمام هذا الوصولي الكريه خسرت مرة أخرى معركتها في ثورة 1830 الفرنسية وفي الحركة الإصلاحية الإنكليزية 1831، وبما أن النضال السياسي الجدي لم يعد، بالنسبة إليها وارداً ، فلم يبق أمامها غير ميدان المعركة الأدبية . وحتى في ميدان الأدب كان إنشاء عهد الردة الملكية قد غدا مستحيلاً . كان على الأرستقراطية ، لكي تحرك مشاعر التعاطف معها ، أن تتخلى ظاهرياً عن مصالحها الخاصة ، وأن تصوغ قرار اتهامها للبورجوازية دفاعاً عن مصالح الطبقة العاملة المستَغلّة فقط. وهكذا وفرت لنفسها لذة إنشاد هجاء سيدها الجديد في أغان مقذعة ، ولذة الهمس في أذنيه بنبوءات مفعمة إلى حد قليل أو كثير بالتشاؤم. وعلى هذا النحو ولدت الاشتراكية الإقطاعية ، نصفاً أغنية حزينة ونصفاً هجاءً ساخراً ، نصفاً صدى الماضي ونصفاً وعيد المستقبل. وإذا كانت أحياناً تصيب بنقدها المر ، الذكي واللاذع للبورجوازية في الصميم ، فقد كانت دائماً تترك تأثيراً مضحكاً لعجزها الكامل عن فهم مسيرة التاريخ الحديث. ولكي يجتذب هؤلاء الأرستقراطيون الشعب إليهم لوحوا بخرج المتسولين البروليتاريين راية لهم ، لكن ما أن مشى الشعب وراءهم حتى لمح شارات الإقطاعية العتيقة مرسومة على مؤخرتهم ، فتولى عنهم وقهقهة السخرية على شفتيه. وقد مثل هذا المشهد المرح فريق من الشرعيين الفرنسيين ” كان بلزاك كاتب الملهاة الإنسانية أعظم ممثليه. ولدينا في سوريا اليوم ممثلون كثر من هذه الشاكلة ذات الرسوم العتيقة على مؤخرتهم. وهو ما نلاحظه أيضاً في مصر بعد الحرب العالمية الثانية من تحدّر مثقفي البروليتاريا وبنسبة ملفتة من أصول إقطاعية، وهذا ما يمكن رصد ملامح له في بعض قيادات الحزب الشيوعي السوري التاريخية.
يعارض غرامشي المثقفين الذين تنتجهم البورجوازية الصغيرة الريفية بالمثقفين الذين تنتجهم البورجوازية الصغيرة المدينية. فهؤلاء الأخيرون هم تقنيو الصناعة ، وبصفتهم هذه هم المثقفون العضويون للبورجوازية الصناعية . وهذا التقسيم الريفي والمديني لم يعد قائماً في سوريا بعد سياسة الاستيعاب العامة في التعليم بعد 1970. فقد بات الريف يقدم مثقفين تقنيين (اقتصاديين/حرفيين) بشكل واضح إضافة إلى الأطباء والمحامين والكاتب بالعدل، الخ ..
لقد كان مثقفو البورجوازية الصغيرة الريفية، أي الأطباء والمحامون والكاتبون بالعدل، الخ.. يؤلفون في بداية عهد الرأسمالية المثقفين العضويين للمركنتيلية(البورجوازية التجارية) والمعملية (المانيفاتورية) . لكنهم فقدوا مع نهوض الصناعة الحديثة، أولويتهم ، فناب منابهم التقنيون الممارسون لوظيفة معرفة تطبيقية أو اختصاص علم تطبيقي.
لقد حرصت البورجوازية دائماً على دمج مثقفي الريف التقليديين سواء أكانوا وجهاء ريف (أعيان ريف ) أو وجهاء بدو وعشائر أو مثقفين تقليديين كالأطباء والمحامين وذلك بصفة شخصية عبر ضمهم إلى جهاز الدولة الحاكم وعبر منحهم امتيازات قانونية وبيروقراطية ومالية. لا يمكن تمثّل المثقفين التقليدين بشكل كامل إلا بعد إنشاء الدولة الجديدة التقدمية. وتعود هذه المسألة عينياً إلى كيفية استعمال الدولة الجديدة لوسائل الإكراه ووسائل الهيمنة لإنجاز هذا التمثل . إن هذا الإلحاق للمثقفين التقليديين يتناسب تناسباً مباشراً مع قوة السمات العضوية لمثقفي الطبقة السائدة وتقدمية هذه الطبقة ويتناسب مع ضعف تنظيم المثقفين التقليديين.
يمثل المثقفون المذكورون والمتحدرون من أصول ريفية مثقفين تقليديين بالمقارنة مع مثقفي البروليتاريا . والتقنيون الذين هم مثقفو البورجوازية العضويون، فإنهم تقليديون بالميل والنزوع بالمقارنة مع مثقفي البروليتاريا . فما دامت البورجوازية في طور صاعد ، فلا مجال للقول أن مثقفيها العضويين تقليديون بالمقارنة مع مثقفي البروليتاريا . لكنهم يغدون كذلك بمجرد أن تخسر البورجوازية دورها التقدمي وتغدو رجعية في السياسة والأيديولوجيا، لكنها تبقي على تقدمها التقني / الاقتصادي . إن خسارة البورجوازية للتقدمية في حقلي السياسة والفكر تعني خسارتها لأية رؤية مستقبلية واعدة للبشرية، بالتالي يغدو مثقفوها عديمي البصيرة لهذا المستقبل ويتحولون إلى مجرد مثقفين اقتصاديين/حرفيين ومهنيين كرجال اقتصاد أو رجال دولة بالتالي يفقد هؤلاء صفة العضويّة وصفة السياسيّة بالمعنى التاريخي والمستقبلي ويمكن أن نطلق عليهم سمة الاعتباطية طالما بقيت البورجوازية حاكمة. بهذا لم تعد البورجوازية قادرة على إعطاء وعد بمستقبل أفضل بعد كمونة باريس وقد ظهرت هذه النزعة التشاؤمية عبر تيارات أدبية وشعرية تسمي نفسها “حداثة شعرية” وهي حقيقة ما بعد حداثة. وهي عبارة عن تيارات ناكسة نحو العوالم الصوفية القديمة، وتتميز بالعدمية الوجودية والصمت والتهكم تجاه مطارحات الحداثة الأوربية فجر صعود الطبقة البورجوازية.
يعرّف غرامشي العضويّة بشكل باطني؛ أي بالارتباط مع الطبقة المعنية في ذاتها ، ويعود ليعرّف العضويّة بالتقابل بين مثقفي طبقة صاعدة تاريخياً وأخرى في طور انحطاط هيمنتها التاريخية ومشروعها الإنساني المستقبلي.
سوف تعاني البروليتاريا من الانقسام بين بروليتاريا المراكز الرأسمالية وبين بروليتاريا الأطراف الرأسمالية في العصر الإمبريالي ، وبالتالي ستعمل البورجوازية على دمج وتمثل الكثير من مثقفي البروليتاريا في المراكز عبر ما سمي بأحزاب الدولية الثانية، وفي الأطراف عبر ما عرف بالأحزاب الشيوعية الرسمية ذات التربية السوفيتية البيروقراطية (الستالينية) . كل من هذه الأحزاب استوعبته البورجوازية في أجهزتها الهيمنية وفي جهاز دولتها. لا بد من الإشارة إلى أن أزمة البيروقراطية السوفيتية ، ومن قبل صعود هذه البيروقراطية ساعد إلى حد ما عملية التمثل البورجوازية هذه . لكن يبقى أساس الظاهرة هو الظاهرة الإمبريالية وسيطرة الاحتكار في التنظيم الاقتصادي الرأسمالي نهاية القرن التاسع عشر، ولاحقاً صعود دولة الرعاية الاجتماعية أو “دولة الرفاه” في المراكز وفي الأطراف الرأسمالية.
– راجع : قراءة في مقدمة مارتن نيكولوس للغروندريسّة . في العدد الأول من “جدل“