الدم السوري على مذبح أعمدة المشانق في تدمر
حسن الهويدي
في بدابة اعتقالي عام 1987 عندما تم ترحيلي إلى سجن تدمر وضعوني في المهجع الحادي عشر وهو احد المهاجع التي نفذت فيه المجزرة. وفي أحيان كثيرة عندما نقوم بتنظيف أرضية المهجع المرقعة بقميص إسمنتي تلف بعض أجزاء المكان الذي نقوم بتنظيفه؛ كنا نجد بعض مقذوفات الطلقات المنغرزة في المكان، وبعض شظايا القنابل اليدوية وخاصة المسمارية منها، واثار دماء متناثرة على جدران وسقف المهجع نقوم أقتلعها من الجدران والزوايا ونضع عليها بعض القطرات من الماء وسرعان ما تتحلل فتتحول إلى دم يميل الى لون احمر قاتم، وقد روى لي احد سجناء القيادة القومية من المهجع الخامس في الباحة الأولى عن فظاعة ما تم ارتكابه وفظاعة المنظر بعد الإجهاز على جميع السجناء وطريقة نقل وسحل الموتى والتمثيل في الجثث بعد موتها، مثل قطع الرؤوس والايدي والأعضاء التناسلية وفج البطون وقطع الألسن. هذا الرجل الذي بكى وتوسد رأسه كتفي ناح وحشرج بجملته الشهيرة من يحاكم من، هل يوجد عدل في الأرض (..)، أنا بعثي الأمس إخواني اليوم..
1- المهجع الخامس والعشرين – الاثنين في 7/1990
أبو عزيز:
من قرية صغيرة تقع بين محافظتي حلب وإدلب عمره يقارب الخمسين حين التقيت به في سجن تدمر
اعتقل عام 1983 بتهمة مساعدة الإخوان المسلمين وتهريب مسلحين وإيواء فارين
اقترب مني وجلس إلى جانبي وهمس في أذني وقال: من وين أنت خيوه
فهمت من لهجته أنه من حلب
قلت له أنا من الرقة
رحب بي وقال اتمنى لو عرفتك ليس في هذا المكان اللعين، كان كمن يبحث عن مفتاح لتبادل الحديث فيما بيننا
قلت له: ماذا تقصد
قال: من أي عشيرة
صمت قليلا ابحث عن جواب، لأني لا أؤمن بذلك التوصيف، ولكن فكرت أن انزل عند رغبة سؤاله العفوي.
قلت له أنا من عشيرة زبيد
قال: كيف يعني، قلت له ابسطها عليك انا من قبيلة العفادلة
قال: على رأسي أنت وكل العفادلة أنت مبين عليك ابن عالم وناس ومبين عليك ابن الكرم، وسترسل بحديثه، كنت ازور الرقة دائما اذهب الى هناك بقصد التجارة، فيدعوني التجار الى منازل لتناول طعام الغداء لحم خراف ومناسف والمبيت عندهم، بالله اكرام الضيف من الايمان الصادق، نظرت إلى فمه وكان يسيل منه اللعاب أحسست انه جائع ويتذوق طعام أكله قبل سنوات من اعتقاله لا زال يتلذذ بطيب مذاقه
قلت: شكرا لك على المديح، و إن شاء الله إذا فرجت علينا سوف ادعوك الى منسف في داري
قال: بصدق وحسرة في عينيه الله ما بصعب عليه شيء ونعمة بالله قالها بإيمان صادق
أنت متزوج؟ قلت له لا
قال: احمد ربك
تعرف شو قصتي أنا هون في تدمر لأني أتزوجت.
نظرت اليه مندهشا؟
كيف هل من يتزوج يسجن في تدمر فسر لي هذا؟
قال بلهجة حلبية حادة: اشبك منك مسدء*، والله هيك الئسة *(القصة)
لم اخف اندهاشي للأمر واستهجنت ذلك هل يعقل ان هذا الرجل فقد صوابه، بسبب وجوده في سجن تدمر لسنوات طويلة
قال ركز معي حتى اروي لك القصة
أنا أتزوجت وأنا زغير الله يرحموا والدي زوجني من بنت صديق له* مستورة ما أشبا شي الله يستر عليها أول سنة كانت منيحة معي، بعدها أجانا ولد بكر سميته عزيز (عزيز الله أكبر) وبعدها بسنة أجتنى بنت سميتها عائشة (رضي الله عنها) كنا أنا وزوجتي مثل السمن والعسل أنا بشتغل بالمواشي (تجارة المواشي يعني) نهار بالرقة ونهار بحماه بغيب عن البيت اسبوع او اكثر، لما ارجع من تجارتي اعود الى البيت لم اجدها كانت تذهب كثيرا في غيابي الى بيت والدها، تعرف انا ارجع من تجارتي متعب وبحاجة الى من يهتم لامري* مرة عند أهلها مرة عند أختا أجيت قلتها(يا مرا هيك مابيصير)
ياروحي: عندما تكون لديك الرغبة في زيارة اهلك اتمنى ان يحصل هذا اثناء تواجدي في البيت ولك مطلق الحرية في هذا الامر
بقيت على هذا الحال معها، اصبر ان الله مع الصابرين كريم، وبعدين صارت ما تهتم فيني ولا تتطلع فيني كمان كل ما بقول الها روحي اعملي شغله بتقلي
مني فاضيه
شايف أولادك عم يتعبوني بسحب حالي واطلع من البيت،اقول حسبي الله ونعّم الوكيل
يا رجل لم تعد مثل سابق عهدها لم تعد تهتم بمظرهها الله يعزك صارت زي الغنم والمعز (استغفر الله العظيم) قمت وطرقتها جوازه بنت مستورة من حماة بعرف أبوها هو معي هون في السجن في الباحة السابعة. المسكين يا حرام زلمة كبير ومصاب بالسل الله يشفيه ويعافينه، قال شو اتهموا ابوها انو كان يخبي مقاتلين من شباب الإخوان، والله الرجل ليس له علاقة، رجل مستور وكبير وينوا وهيك شغلات ما خرجوا، اشبدك خويه كل واحد كان يمشي بالشارع يجيبوه ويقولوا له أنت اخوان، ذبحوا العالم بهيك تهمة، مقصودة ابن العم اللي كانوا يعملوه عشان يحطوا العالم كلهم بالحبس، المهم، عرفتوا من خلال التجارة، بعد شهر من جازتي.
أنا ماشي بالسوق حسيت في حدا مسكني من ورا مسكوني من يدي* طلعت يمين شمال وإذا بشخصين عريضي المنكبين، واحدن عرضه متل الحيط.. قالوا لا تتحرك تمشي معنا وتعمل حالك ماشي عادي، قلتلهم انا بأمركم بس أنتم مين؟ قالوا: اسكوت ما خصك بعدين تعرف مين نحنا. قول عشر أمتار عشرين متر ما عاد أذكر دحشوني بسيارة وطلعوا معي، وقال لي واحد راكب من قدام راسك بالأرض يا أخو الشرمو(..)، شفطت* السيارة شايف شلون خيوه متل البرق وأنا ما بعرف لوين رايح عشر دقائق ممكن اكتر وقفت السيارة ونزلوني منها وطمشو عيوني يمين يسار ارفع رجلك نزل رجلك سمعت صوت عم يطقطق دفشوني وقعت عل الأرض، بعد شوي حسيت في صوت عم بيقولي ارفع طميشة، والله ما حسنت أرفعها قلت أنت أرفعها، لم يكذب الخبر رفعها التفت يمين و شمال وإذ بأربع رجال يبلغ طول احدهم مترين وسواعد مفتولة، صفعني احدهم كف لم اعد ان اميز الاشياء من حولي من شدة الصفعة وفقدات التوزان، ولكن اتمنى لو يذهبوا الى جبهة الجولان؟ انهم قطعاً من اهل الكهف وليسوا بشراً. ما فعلوه بي لا يفعله بشر منذ ان خلقت البشرية الى يومنا هذا..
انه فرع السريان والله يا اخي حسن فرع السريان من يدخله ويبقى حيا لا بد ان عناية الاله لها دور في هذا البقاء.
نظرت اليه بتعجب وقلت له بلهجته، ليش اخوي شبو فرع السريان؟
ضحك ضحكة من قلبه الموجع وطبطب بيده على كتفي..
شو أخي حسن صرت تحكي حلبي
ضحكنا رغم مرارة اللحظة وانا بشوق لسماع قصته وطريقة كلامه بلهجة تعني لك من مخارج احرفها بالرجولة والانفة.
ضحكت نظرت به وأكمل قائلا: أنت تعرف الرائد نعسان او سمعت عنه، قلت له اسمع عنه من بعض السجناء
ولدي معلومات عن وحشية ذلك الضابط في فرع المخابرات العسكرية وكيف كان يقتل السجناء بعد تعذبيهم وانه اطلق النار من مسدسه، اثناء التحيقق مع بعض السجناء على رؤسهم وسقطوا شهداء، والبعض الاخر خوزقهم من الخلف عندما كان يامرهم بالجلوس على قنية الكازوز (ستيم) المصنوعة من الزجاج ثم يضعهم في زنزنات خاصة فيكون مصيرهم الموت بعد النزيف الحاد الذي تعرضوا له نتيجة الخوزقة…..
تنهد وصفن قليلا ومد ذراعيه متذرعاً السماء وهي يعبر بصدق بتوسله إلى الرب سبحانه وتعالى:
الله يفضح حريماته للرائد نعسان، الله ينتقم منوا، ادعي لربك.. ما جيت لعنده كان خوزقك
يا لطيف كان ظالم وابن حرام، الله لا يوقع مخلوق تحت يده، اذا كنت بريء من كتر ما يعذبك بدك تقول أي شيء لتخلص من إيدوا، ابن الحرام كان بخوزق الناس، تعرف قنينة كازوزة ستيم كان يدخلها بفتحة الشرج، والله انا شفت بعيني..
وإذا ما كنت اخوان مسلمين* بدك تعترف اجباري عنك انك اخوان، واحيانا يجبر السجناء على الاعتراف باعمال واشياء لم يفعلوها.. يجبرك تقول انك قتلت وقمت بعمليات تفجير، يا لطيف على هيك ابن حرام.. كثير من الابرياء هم برقبته
صمت… صمتاً عميقاً.
نظرت في تجاعيد وجهه البريء
ابن مدينة لها تاريخ عريق في بناء الحضارة والإنسان
افزعني بعد صمته قائلا اشو راح يجيبولنا غدا اليوم. والله امعائي تقطعت من البرغل والبحص
ليش ما يطعمونا متل الناس
اليهود ارحم منهم بكتير
موعيب عل اليهود بحياتهم ما عملو هيك
قلت له:ابو عزيز تسمح لي اسألك سؤال
تراجع قليلا واسند ظهره بحائط المهجع معتزا بنفسه يمسح قميصه المهترئ بيده
تفضل اسأل متل ما بدك
ابو عزيز الرائد نعسان بيخوزق مش هيك
قال: نعم.. يا لطيف
قلت: هل خوزقك
إنا أعوذ بالله شو الحكي بموت وما اتخوزق يا لطيف
نظر يمينا وشمالا وقال ليش الكذب كان لديه النية ولكن الحمدلله ربك اعمى عينه عني، هالظالم.
عيناه تنظر الى السقف وكف يده اليمنى متورم من ضربات الشرطي له وتعذيبه قبل ايام ولم تشف بعد.
سافر بنظراته الحالمة متجاوزاً سور السجن وتحصيانته عبر كل الآلام، حط به الرحال عند أعزائه: طفله عزيز وعروسة داره عائشة؛ يلعبان هناك جانب السور.. يركض ابو عزيز مسرعا بنظراته، مستمتعا بلهفة اللقاء، ما ان تنهد، أفزعه صوت البلدية منادياً
طلع بطانية يا اخو الشرمو(..)
ارتعش وقال: ليك هل الكلب ما بيعرف إلا الألفاظ الوسخة لان معلمو الكبير وسخ
نعم اخي حسن دعنا نرجع لموضوعنا
نعم تفضل اكمل؟
بقيت بحلب شهرين وعشر ايام وبعدها وضعوني ومن معي بسيارة ولا نعلم الى اين وجهتنا، ربطوا عيونا ورجلينا وأيدينا وبطحونا
سارت بنا السيارة مسافة بعيدة وكان الزمن غير معلوم لدي ولكن علمت عندما امر قائد الدورية السائق ان يتوقف في استراحة النبك لتناول الطعام واتصل بجهاز لاسلكي الذي معه يطلب تعزيزات كي تتواجد في مكان الاستراحة
خوفا منا ان نهرب بعد حين توقفت السيارة
وانضمت قوة التعزيزات والتي لا اعلم حجمها الى القافلة
ثم توجهنا الى احد الاستراحات المنتشرة على طرفي الطريق
وعملت انهم اصبحوا في منطقة النبك التي تبعد عن دمشق حوالي 100 كم
نزل على ما يبدو رئيس الدورية وطلب من العناصر عدم ترك السيارة، وقال لهم اللي بدوا يتناول الطعام بالدور كل عنصرين مع بعض.. بينما نحن نتضور جوعا.
تقدم مني احدهم الى داخل السيارة.. وقال: شو ابن القح(..) قديش معك مصاري؟ قلت له ليس معي شيء من النقود حضرة الشرطي؟ قال لي كذاب، طلع من جيبك شو في عندك احسن ما اطلعك واعدمك هون في الجبل.
لم اتفوه ببنت شفة مخاطبا نفسي، لقد سرقوا كل الاموال التي كنت احملها في جيبي وحتى جواربي سروقها.. سرقوا انسانيتي وكرامتي سرقوا احلام اطفالي وضحكتهم. غادر بعد ان فتش كل ثيابي ولم يجد شيئا.
وبعد وقت انهوا طعامهم وتابعت السيارة المسير..
بدأت احسب الزمن ليس بصدد تدمر.. لقد عبرنا مدينة حمص وهاي دمشق نقترب منها. وفعلا بعد ساعة او اكثر، وصلنا مشارف مدينة دمشق حيث الصخب واصوات ابواق السيارت.
انها دمشق، ولكن اي فرع سنكون ضيوفه فرع التحقيق ام فرع فلسطين ام فرع المنطقة؟ لا ادري.
توقفت السيارة.. وفتح الباب وقال احدهم بصوت ابح، انزلوا يا اولاد الكلب بحظي هلأ لخلي الشباب يعملو فيكن العجب..
ويا عين عمك، عينك ماتشوف الا النور.. ضربونا عصي وكرابيج وما بعرف شو حتى ورمّونا.. صار بدك تطلّع في وجه احدنا ما بتعرفوا، صار فينا متل تبعين السرك اللي يعملوا وشن كبير ومعجق… يا لطيف.. يا لطيف.
وكان واحد بضربنا ضرب ميكن ويصيح رقيب علي تعا لهون شوف الكلاب الخنازير كلهم ارهابيين.
واجا علي.. حرام اسمه لان سيدنا علي كرم الله وجهه ما بيشرفو هيك ناس تحمل أسمو..
مسكني من اذني وجرني ثم صفعني بكفه وركليني بقدمه ويحمل بيده عصى كبيرة
قال: شو انت اخونجي مجرم؟
قلي كم قتلت ولا، قلي يا ابن القح(..)، انت بشرفي اللي قتل الاستاذ محمد الفاضل
لم اجد نفسي الا مقعدا في الارض من شدة الضربة التي تلقيتها على ظهري
ثم اثنى باخرى، انت اللي فجر السيارة في الازبكية وانت اللي وضع المتفجرات في العباسيين؟
والله اخي حسن لم اعرف اي منطقة من اللي عم يحكي عنهن
ابن حرام عم يتبلى فيني
يا الله قالها وحرق الدمع عينيه..
بعد ما شبعوا فينا ضرب وقتل دخولنا الى غرفة صغيرة ما فيها كهرباء ظلمة كتير نحنا الأربعة حطونا فيها، يمكن عرضها متر وطولها مترين، هيك بقينا فيها سنة كاملة وكل يوم يطلعونا لتحقيق وخوذ على ضرب وتعذيب، الله ينتقم من كل ظالم.
بقينا على هذا الحال حتى تم ترحلينا إلى سجن تدمر، اخي حسن شفنا شيء والله يندى له الجبين.. يا عيب الشوم عليهم.
والله ما عملنا شيء و ليس لنا اي علاقة بأي تنظيم لا اخوان ولاهم يحزنون
هز رأسه وقال الحمد لله على كل شيء
ومد ذراعيه وتلى صورة الفاتحة
واذ بالشرطي يدق الباب:
رئيس مهجع الكل يسمع الأسماء واللي بطلع اسمه ببقول حاضر
رد رئيس المهجع: حاضر سيدي
تلا الرقيب الأسماء وكان اسم ابو عزيز من بين تلك الأسماء
أنهى الرقيب تلاوة الأسماء وخاطب رئيس المهجع قائلا:
كم عرصى طلع اسمه؟
رئيس المهجع: اثنان سيدي، طارق وابو عزيز
إيه ولك عرصى خليهم يجهزوا حالهم…
حاضر سيدي
غادر الرقيب إلى المهاجع الأخرى يتلو بقية الاسماء
انقسم السجناء في المهجع إلى فرح وحزين
الكل مودع طارق وأبو عزيز البعض يهنئهم بالفرج والبعض الآخر بالفوز بالجنة
وقف ابو عزيز الى جانبي، وقال لي: سوف احكي لك كيف كان يتم التحقيق بفرع فلسطين
قلت له اذهب وجهز نفسك للخروج، قد يأتي الرقيب في اي وقت، كي لا تسبب متاعب الى رئيس المهجع
قال: شو بدي اجهز كل ما املك ثيابي التي ارتديها..
لم ينه كلامه حتى فتح باب المهجع.. وخرج ابو عزيز وطارق
نظرت من ثقب الباب وشاهدت منصات خشبية ومعدنية في الطرف الاخر من الباحة تتدلى منها حبال.. والطرف المقابل يجلس ابو عزيز وعدد من السجناء.
يا الهي ما هذا ابو عزيز سيرحل عنا الى الابد، لم اعد احس بشيء ولم اعد ارى، اصاب رأسي دوار وطنين في اذني، يا رب هل يتم اعدام هؤلاء الان؟
يتبع..
* كاتب سوري، وسجين سياسي سابق
خاص – صفحات سورية –