السنة العالمية للمصالحة وذاكرة الحرب
فواز طرابلسي
الخبر مفاجئ.
أعلنت الأمم المتحدة هذا العام 2009 «سنة عالمية للمصالحة». وكأن الأمر لا يعني البلد الأحوج إلى المصالحات من سواه. ولولا إمام وقس نيجيريان لربما لم نكن لنأبه بالخبر ونحن في حمأة المباريات الانتخابية ومتابعة المصالحات الإقليمية.
وفَدَ الرجلان إلى لبنان لعرض تجربتهما كزعيمين ميليشياويين خلال الحرب الأهلية في بلدهما. مَن يمر على الخبر مروراً سريعاً قد لا ينتبه إلى أن الحرب المعنية التي يتحدثان عنها جرت في الستينيات من القرن الماضي. وها نحن في إزاء كهلين، مسيحي ومسلم، أعطبتهما الحرب شخصياً وعائلياً، يذكّران بأن بلادهما لا تزال تعاني من آثار تلك الحرب إلى الآن، ويعلنان أمام الملأ الندم ويطلبان المغفرة. وفي برنامج روعي فيه تماماً التوازن الديني بين الهيئات والمؤسسات التعليمية اللبنانية، يبشّر القس والإمام بـ«التسلّح الخُلقي» وضرورة انفتاح رجال الدين بعضهم على بعض.
ليس في النية هنا إلقاء ظلال الشك على صراحة الزائرَين أو الصدقية ولا القدح في إخلاص المبادرين إلى استحضارهما مثالاً يقتدي به اللبنانيون للذكرى والفائدة بل للتقليد إذا استدعى الأمر. غير أن تصوير الحرب بين نيجيريا وإقليم بيافرا خلال الأعوام 1967 ـ 1970 على أنها مجرد نزاع عرقي تطور إلى نزاع ديني بين مسيحيين ومسلمين ينطوي على مقدار من مجافاة للتاريخ بالمقدار الذي يجافيه تصوير الحروب اللبنانية 1975 ـ 1990 على أنها قابلة للاختزال إلى حروب دينية. يزيد في الطين بلّة أن هذه النظرة إلى الماضي تتم من منظار حاضر متعولم يفرَض فيه تحويل كل نزاع إلى نزاع «ثقافي» أو نزاع على «الهوية» بما يحجب كل ما له علاقة بالجيو ـ استراتيجيا والاقتصاد والاجتماع.
القليل القليل المطلوب التذكير به عن الحرب النيجيرية هو دور الاستعمار البريطاني، وإرساليته، في تأسيس سيطرته على إعادة إنتاج القبائل والإثنيات التي تتكوّن منها الفيدرالية النيجيرية بما فيها القسمة بين المسيحيين والمسلمين. وقد جرى تحويل تلك الجماعات إلى مؤسسات معترف بها سياسياً وقانونياً وإدارياً ذات حصص متفاوتة حكماً في مناصب الدولة وخدماتها والتوزيع الاجتماعي. على أن تحميل الاستعمار هذه التبعة لا يبرئ القوى المحلية من الوقوع الطوعي أو القسري في الفخ والقبول باختزال هوياتها إلى هويات إثنية ودينية وقبلية وجهوية. إلى هذا يجب أن يقال إن العامل الأبرز في تشجيع مقاطعة بيافرا على الانفصال ـ وهو العامل الداخلي الأهم للحرب ـ يتعلّق بحقيقة أن بيافرا تضم معظم حقول النفط في البلاد وأن استقلالها عن الفيدرالية كان بمثابة حلم الانفراد بثروتها تلك دون الأكثرية الساحقة من سكان نيجيريا. نسوق هذه النبذة لمجرد التذكير بأن الذاكرة قد تراوغ حتى الذين عاشوا الأحداث التي يجري تذكّرها.
تشترك الحروب النيجيرية واللبنانية في أمرين أساسيين: تشابك الانقسامات الاقتصادية ـ الاجتماعية ـ السياسية فيها مع النزاعات الدينية والفئوية وبروزها بما هي نزاعات دينية وفئوية؛ واختتام الاقتتال من دون غالب ومغلوب. هذا إذا استثنينا تفاصيل من مثل وجود رجال وعلماء دين مارسوا دور الزعامة الميليشياوية في الحالتين معاً.
في ضوء زيارة الوفد النيجيري، يستطيع المرء أن يتصوّر زعماء ميليشياويين لبنانيين بعد خمس أو عشر سنوات يزورون نيجيريا، ويعلنون الندم ويطلبون الغفران ويدعون إلى مزيد من الحوار بين الأديان والمذاهب. وما من شك أنه في العام 2020 مثلاً ستكون هناك جمعيات أهلية متخصصة في البحث في ذاكرة الحرب والتذكير بها. وسوف تستورد لنا المزيد من الحالات المشابهة في أنحاء مختلفة من العالم، وتعرض علينا المزيد من النماذج للتعاطي مع ماضي النزاعات الدموية.
وقد يزورنا القس ديزموند توتو حاملاً تجربة «الحقيقة والمصالحة» الرائعة والثرية في إنسانيتها وذكائها وجرأتها وإن تكن ليست ملائمة للنقل مباشرة إلى حالة لبنان الحروب المركّبة. لماذا؟ لأن ما جرى في أفريقيا الجنوبية لم يكن حرباً أهلية بالمعنى الدقيق. كان مقاومة شعبية مسلحة وسياسية، يقودها «المؤتمر الوطني الأفريقي»، ومحرّكه الرئيسي الحزب الشيوعي في جنوب أفريقيا، ضد سلطة التمييز العنصري للأقلية البيضاء. وقد اختتم ذاك النزاع بانتصار الأكثرية الأفريقية وانتقال الحكم إليها. وتفادياً لتكرار تجربة الاستقلال الجزائري التي ترافق خروج المستعمر مع هجرة وتهجير الأكثرية الساحقة من «المعمّرين» البيض الأوروبيين، تلاقت إرادتان أفريقية وأوروبية للتعايش والحفاظ على وجود وحقوق الأقلية البيضاء وامتيازاتها الاقتصادية في ظل نظام انتقلت فيه السلطة السياسية إلى الأكثرية الأفريقية. وكانت واسطة الانتقال إلى النظام الجديد تصفية الحسابات مع ماضي التمييز والقمع والاعتقالات الجماعية والعزل والتعذيب والتصفيات الجسدية للمقاومين والمدنيين معاً. جرت محاسبات وجرت مواجهات مؤثرة جداً بين جلاوزة سلطة التمييز العنصري وبين ضحاياهم وأهل الضحايا، نجم عنها عقاب وسجن وتعويضات.
لن تجري تصفية ذيول الحرب في لبنان إلا بالمصارحة والمصالحة والمحاسبة ولو السياسية والمعنوية والأخلاقية. الذين حوسبوا في أفريقيا كانوا موظفي أمن وجنود وضباط القوات المسلحة التابعين لنظام الأقلية البيضاء. والسؤال من هم المسؤولون عن الحروب اللبنانية الأهلية وفيها؟
يثير السؤال أسئلة كثيرة ومعقدة. قد تتفاوت الإجابات عليها. لكن معظم المعالجات لا يزال يدور حول النظر إلى الحرب بما هي عنف، أي أعمال خطف واغتصاب وقتل وجرائم واغتيالات ومجازر. ولعل على المنظمات الأهلية المعنية بتفتيح ذاكرة الحرب أن تفكّر ملياً ما إذا كان مجرد التذكير بالحرب بما هي أعمال عنف وحسب يستنفد الحرب كلها. خصوصاً عندما نشاهد يومياً زعماء الميليشيات يتبارون في تحويل ذاكرة الحرب والمصالحة والمحاسبة إلى البحث في اغتيال هذا الزعيم أو ذلك وما من أحد يحاسب هذا وذاك على قتل عشرات الألوف. ناهيك عن وقاحة السعي إلى المزيد والمزيد من ليّ عنق العدالة باستصدار العفو عن مجرمين إضافيين أدينوا بعد صدور قانون العفو.
بلى، يجب رفض قانون العفو ذاته الذي وضع من موقع زعماء الميليشيات وقد صاروا حكاماً وتبرئة لهم. ويجب أولاً تعديله للتخلّص من تمييزه المهين للأكثر من مئة ألف ضحية من ضحايا الحرب بين جرائم في حق مواطنين وما يسمى «جرائم في حق أمن الدولة»! وتأكيداً فكل هذا لا يعفي من المساءلة والمحاسبة والعقاب ولو كان معنوياً وحسب.
على أن الجريمة الأكبر في حق الذاكرة وضد ضحايا الحرب هي أن تلخيص الحرب بأعمال العنف يحجب ثلاثة مواضيع هي التي تبقى ذات فائدة لتحقيق الأهم: عدم تكرار الحرب.
الأول هو الاعتراف بالبحث والنقاش في الأسباب المؤدية إلى الحرب، أي تعيين العوامل التي سمحت بتحوّل الصراع السياسي إلى صراع عسكري. وهذا يشمل الانطلاق من الافتراض بأن الحرب لم تكن قدراً مقدراً بقدر ما كانت أقرب إلى خيار. لذا تتوجب محاسبة المسؤولين عن ذاك الخيار على الوجهين، بمن فيهم من عجزوا عن منع تدهور الأوضاع نحو العنف المسلح. من هنا يبدأ البحث في ما هو مكمّل لمعرفة أسباب الحرب: استخلاص دروسها والعبر.
هنا لا يفيد النموذج النيجيري ولا الجنوب أفريقي، إلا النموذج اللبناني. من هنا تبدأ المصارحة للمصالحة. ولا ينفع معها العويل ولا الندم ولا صرير الأسنان. ناهيك عن إلقاء التبعات على «الآخرين» أو على «الفلسطينيين» ولا طبعاً على الأديان.
السفير