رنا تشتري البرتقال
حسام عيتاني
ذهبت رنا إلى الدكان لشراء البرتقال. يبعد الدكان عن بيت رنا عشر دقائق سيراً على الأقدام، وكانت تقطع مسافة مئتي متر في الدقيقة… السؤال هو: كم برتقالة اشترت رنا؟
يتضمن السؤال أعلاه، ما يسمى في لغة المناطقة، عزل المقدمة عن المسألة، فإذا كانت المقدمة تصف المسافة بين بيت رنا والدكان الذي يفترض أن تشتري البرتقال منه، فإن المسألة يجب أن تتناول- منطقياً- المسافة أو الوقت الذي يستغرق وصولها من بيتها إلى الدكان، لكننا نُفاجأ بأن السؤال أو «المسألة» انتقل إلى موضوع آخر لا علاقة له بالمقدمة.
المثال هذا يتكرر في السياسة العربية على نحو مُضجر، وهذه بعض الأمثلة الحديثة: تستعر الحرب في الجنوب السوداني بعد استيلاء الفريق عمر البشير على السلطة إضافة إلى القمع في الداخل، وتنتقل البلاد من مجاعة إلى مجاعة ومن كارثة إلى كارثة، وتتدخل القوى الأجنبية، ومن بينها الولايات المتحدة وإسرائيل، لتحقيق مصالحها وجداول أعمالها، وعندما يقترب السودان من الانهيار الشامل، يتم التوصل إلى جملة من اتفاقيات السلام مع القوى الجنوبية التي باتت عملياً، وبعد سقوط مليون قتيل سوداني بالتمام والكمال، شريكة للحكم في الخرطوم وتستعد لخوض الاستفتاء الذي يتوقع المراقبون أن ينهي وحدة الأراضي السودانية ويمهد الطريق لقيام دولة مستقلة في الجنوب.
في هذه الأثناء، يتطور صراع بين رعاة ومزارعين- من نفس نوعية الصراع بين الفريقين منذ أيام قايين(قابيل) وهابيل- إلى حملة للتطهير العرقي والمذابح الجماعية وعمليات الاغتصاب المنظمة، تقف فيها الحكومة السودانية إلى جانب الرعاة ضد المزارعين. سبب الانحياز هذا هو ما قيل عن أصول عربية للرعاة مقابل الأصول الإفريقية للمزارعين. التزم العالم (والعالم العربي خصوصاً) الصمت واللامبالاة إلى أن أصبحت شهادات الضحايا أثقل من أن يمكن تجاهلها، وتحركت المحكمة الجنائية الدولية وصدرت مذكرة الاعتقال بحق البشير.
التجارب السابقة مع العدالة الدولية لا تشجع على القول بحيادية المحكمة، لكن هذه الحركة الدولية كانت كافية لنقل الجدال من مكان إلى آخر، ومن سياق إلى سياق… من الدفاع عن السودانيين في وجه حكم منحاز في صراع أهلي، إلى الدفاع عن سيادة دولة عربية واستقلالها أمام هجوم استعماري جديد، وصار الهمّ هو الدفاع عن حق البشير في السفر والمخاطر التي يمكن أن يواجهها. ما نُسي في هذه المعمعة هو مصير السودانيين العاديين في الجنوب وفي دارفور، وكذلك نُسيت مواقف شخصيات من وزن حسن الترابي أو الأسقف ديزموند توتو، اللذين أدانا التضامن مع البشير والصمت حيال المجازر في دارفور.
القضية المهمة في المجال هنا، هي إعادة صياغة علاقة المواطن العربي، أو المواطن في الدولة العربية، بسلطته السياسية وجعلها فعلاً سلطة تمثله وتمثل مصالحه وتحمي حقوقه.
مثال آخر: تشهد القضية الفلسطينية ربما أسوأ وضع لها منذ الخروج الفلسطيني من بيروت أثناء الاجتياح الإسرائيلي… انهارت التسوية وأرجئت مفاوضات «عملية السلام» إلى أجل بعيد، على ما يبدو، وتفاقم الانقسام الفلسطيني إلى صراع مازالت محاولات معالجته تتعثر، إضافة إلى انحسار لا سابق له في التأييد للقضية الفلسطينية على المستوى العالمي، وهو ما يشهد عليه انتقال التأييد الأوروبي، على وجه التحديد، من القوى السياسية التي تمثل التيارات الرئيسة، إلى هوامش الحركات الصغرى الشعبوية والغوغائية، وسط تصاعد الممارسات الإسرائيلية في عمليات الاستيطان ومصادرة الأراضي واحتقار مقدسات الفلسطينيين إلى مستويات قياسية.
المصير القاتم الذي يُخشى أنه يُعد لقضية الشعب الفلسطيني، قوبل عربياً بطرح سؤال غريب آخر يتمحور حول الموقف من إزالة إسرائيل أو بقائها. مَن كان مع إزالة هذه الدولة بات مقاوماً ومن ليس كذلك صار عميلاً أو عدواً.
يفترض أن السؤال الحقيقي والعميق يكمن في صيغة أخرى، في كيفية العمل على استعادة حقوق الشعب الفلسطيني والوسائل اللازمة لذلك، والأدوات المتوافرة لهذا النضال، بغض النظر عن مستقبل إسرائيل وما يمكن أن تحمله الأيام من تطورات تتعلق ببقائها أو زوالها. المسألة الرئيسة، أولا وآخرا وبين بين، هي استعادة الحقوق الفلسطينية، وليس إعادة رسم خرائط المنطقة، على الرغم من إمكان وجود علاقة بين الأمرين.
زبدة القول، إنه إذا كنا نريد أن نعرف فعلاً كم برتقالة اشترت رنا، يتعين تكييف المقدمة مع السؤال، أو العكس، من خلال جعل المسألة ترتبط فعلاً بالمقدمة. أما القفز من طرح إلى سؤال يبدو وكأنه سقط سهواً، فلا يفيد سوى في تعزيز نزعات يتلخص كل ما تجلبه إلى الإنسان العربي في المزيد من الاغتراب عن الواقع والعجز عن تغييره.
* كاتب لبناني