الكتابة السياسية وإشكالية الليبرالية وعلاقتها بمشروعات التغيير
محمد عبد الحكم دياب
تحتدم المعارك على صفحات الصحف وشاشات الفضائيات وعلى مواقع الشبكة الألكترونية ( الانترنت)، وتصل مستوى من الحدة تضيع فيها الحقيقة وتغيب عنها المعلومة الصحيحة، وصار ما يجري أقرب إلى القتال وإراقة الدم بدلا من إسالة المداد..
ليست هذه طريقة مجدية لطرح الآراء ولا مناسبة لتناول الردود. لأنها تقوم على إهمال تفنيد الحجج والبراهين اللازمة في مثل هذه الظروف.. حتى استشرى داء المصادرة وانتشر مرض إصدار الأحكام الجزافية على أصحاب الرأي المخالف. وهذا وجه من أوجه عدة لما يمكن تسميته ‘أزمة المخالفة’، التي ألقت بظلالها على المعارك السياسية والفتاوى الدينية، وعكست مستوى التعصب وعدم التسامح الذي نحيا في كنفه، وكشفت الجهل الذي ينعم به القابضون على زمام التوجيه.. المحتكرون لناصية الحكمة، ومن الصعب أن تجد بينهم حكيما أو رشيدا يمتلك القدرة على استخدام لغة جامعة أو في إمكانه الدعوة ‘إلى كلمة سواء’. وقد جبل هؤلاء على التعامل بعنف مع الخلا ف أو المخالفة في الرأي والكلمة، وكأنهم معصومون أو منزهون عن الوقوع في الخطأ.. وسنن الحياة تبنى على ‘الدفع ‘ .. أي التفاعل والأخذ والعطاء، وتقوم على أن الصواب في مكان ما قد لا يكون كذلك في مكان آخر. والذي نراه اليوم خطأً قد يراه الغير عين الصواب في الغد القريب. صواب الأمس قد يصبح خطأ اليوم، والعكس بالعكس.. وهذا لا يقتصر على الكتابة والرأي بل يصيب الحقائق العلمية كذلك.. الصواب المطلق لا وجود له إلا في عالم افتراضي تسكنه كيانات علوية لا تمت بصلة للحياة الإنسانية، والخطأ المطلق مكانه عوالم سفلية ليست من عوالم البشر. لذا وجبت التفرقة بين الخطأ والشر، فالخطأ تقدير واحتمال والشر طبع وسلوك.. الخطأ يقع عفوا والشر يتم عمدا ، ويدخل في عداد الخطيئة، والشرير معرض للعقاب، وقد لا يخضع المخطئ للزجر أو التعنيف، ويكفي معه التنبيه والتحذير أو الحكم المخفف.
والكتابة السياسية التي يحتدم بسببها العراك، هي إفراز ونتاج توجهات وتجارب ومصالح متنوعة ومتعددة، وقد تكون متعارضة.. تحتمل الخلاف كما تحمل الاتفاق.. وإذا ما نشب خلاف يجب أن يبقى خلافا متحضرا.. قاعدته الذهبية هي ‘قد يكون رأيي خطأ يحتمل الصواب، وقد يكون رأيك صوابا يحتمل الخطأ’، وكما أن ‘أي إناء يضيق بما فيه إلا إناء العلم فإنه يتسع’. يمكننا تطبيق نفس القول على الكتابة والرأي، ونجعل منها متسعا للاجتهاد وتبادل الخبرة والمعرفة، ما دام ذلك محكوما بالثوابت والضوابط الإنسانية والوطنية والأخلاقية.. فالآراء والرؤى تصدر عن قوى وأطياف ومصالح عديدة ومتنوعة .. تتلاقى وتتوازى وتتعارض .. وكلها تصدر إما عن شخص وطني أو قومي عربي، أو عن إسلامي أ و من ماركسي، أ و ليبرالي.. وصِفة العيش في وطن واحد تجمع بين هؤلاء وقد تفرق آخرين من بينهم، إذا ما خرجوا على هذه الثوابت والضوابط .. ومن يدعو لاستقلال الإرادة، ويرفض التبعية، ويطالب بالمساواة القانونية والإنسانية والسياسية للجميع، ويجعل الوطن وعاء جامعا، فهو في اتجاه صحيح مهما كان مستوى الخلاف. أما المستسلم المستجيب لعوامل الضعف.. المقر بالتبعية.. الرافض للمساواة.. القابل بالتمييز.. والسالب للحريات. هذا في اتجاه مغاير ومعاكس تماما .
وتبعا لذلك أصبح الاستقطاب حادا في بلد مثل مصر.. بين قوتين تتنازعان ملكية الوطن.. واحدة وطنية والاخرى توصف بغير ذلك.. الأولى تراخت حتى سرق منها الوطن، والأخرى تربصت وانقضت فاستولت عليه لصالح السلاب والنهاب والسمسار والمحتكر.. القوى الأولى تضم الوطني بالمعنى التقليدي، وهو من يقبل باستقلال الإرادة والقرار ويعمل على حماية أمن الوطن ويحرص على سلامته ويلتزم بقواعد المساواة والعدل الاجتماعي ويتطلع إلى التضامن والتعاون مع الأشقاء والجيران. وهذا يحسب فصيلا وطنيا له مكانه بين القوى الساعية للتغيير. أما المستسلم لواقع وخرائط الغزاة والمحتلين، وينيب عنهم في حمل راية الفتنة ووراثة ثقافة الفرقة واستعارة ذرائع المذلة.. تجده في ممارساته متعصبا.. شوفينيا.. انعزاليا.. منكفئا.. عاملا على كل ما يضر بلده ويؤذي مواطنيه. وسبيله هو اللجوء إلى الكهوف والحفريات بحثا عن هوية طمستها عاديات الزمن وتأثيرات القدم وعوامل التعرية، وطلبا لانتماء استقر من قرون في المقابر و المتاحف وخزائن الآثار ورقع التدوين.. هؤلاء لا يهمهم استقلال ولا تعنيهم مساواة ولا يشغلهم تقدم أ و مستقبل .. اختاروا أن يكونوا في المكان المضاد للمصلحة الوطنية الجامعة.
وهناك الوطني العروبي.. ينطلق من وطنه الصغير.. متطلعا إلى بناء وطن أكبر. يجمع أمة ممتدة من المحيط إلى الخليج، ويسعى إلى تحويل الوطن الأصغر إلى جزء أو قاعدة للوطن الأكبر، وشرط العروبي الحق هو أن يحمي الاستقلال ويؤمن بالمساواة بين المواطنين ويعمل على تحرير إرادتهم وتحفيزهم على صناعة تقدمهم وبناء وحدتهم.
ومع ذ لك هناك من يربط الوجود القومي بالعرق والسلالة، فيتحول إلى داعية للعنصرية، وعاملا على شيوع القبلية والعشائرية باسم العروبة، وهؤلاء مصدر توتر وتعصب ضد القوميات والأعراق الشقيقة والمتآخية، وقد شق هذا الطرح طريقه مع طفرة النفط واستفحل إبان الحرب العراقية الإيرانية، حين استخدم الخطاب الرسمي العربي مفردات وعبارات موغلة في الرجعية والتعصب .
وإذا ما كان هناك الوطني العربي، فمن المنطق الاقرار بوجود الوطني الإسلامي أو المسيحي، وهناك من بين أتباع ‘الإسلام السياسي’ من يؤمنون بوحدة الأمة الإسلامية، على قاعدة الأخوة في الدين، ولا يمانع هؤلاء من العيش في كنف وطن جامع بالمعنى المعاصر، و يرون أن الوحدة العربية لا تمثل خطرا على المشروع الإسلامي، ومن أبرز رموز هذا التيار الفقيه القانوني طارق البشري ومجدي أحمد حسين في مصر.. الأول مستقل والثاني أمين عام حزب العمل المجمد، بجانب أن عناصر من الإخوان المسلمين، خاصة من جيل ‘ الوسط ‘.. جيل سبعينات وثمانينات القرن الماضي.. بدأت تحذو حذو أصحاب هذا الاتجاه، وتسعى للتعاون مع باقي القوى الوطنية والقومية واليسارية . هذا على الرغم من وجود اتجاه مؤثر في وسط ‘الإسلام السياسي’ مرتبط بالمصالح النفطية .. يميل إلى تغليب العنف، ويأخذ بنهج التكفير، ويرفض التعايش أو القبول بالمخالف.. سياسيا ومذهبيا وطائفيا ودينيا وعرقيا. . و ما زالوا يعتبرون الدعوات والأفكار الوطنية والقومية والديمقراطية والليبرالية والعلمانية دعوات ‘كفر’ ومعتنقها مرتد، وما يعنيهم هو ‘ إقامة شرع الله ‘ حتى لو كان ذلك على شبر واحد من الأرض .. وعلى أيدي هؤلاء سالت دماء المسلمين أنهارا . وانشغلوا بالفتن والانشقاقات وتكوين الجماعات والحركات الانفصالية، و تهديد الوحدة الترابية لكثير من الدول والمجتمعات ذات الأغلبية المسلمة . انشغلوا بذلك أكثر من انشغالهم بأي شيء آخر. والصومال نموذج صارخ لهذا، وليس في مقدور هؤلاء التعاون مع أي طرف من الأطراف السياسية. ومواقفهم معادية من مخالفيهم ولا يتسامحون معهم تحت أي ظرف.
وحملة لواء الماركسية مثلهم مثل غيرهم ليسوا كتلة واحدة.. فيهم الوطني الذي يرى الوطن حيزا اجتماعيا وسياسيا يمنحه فرصة الدعوة للعدل الاجتماعي والتخفيف من وطأة الاستغلال الاقتصادي، وهم وإن كانوا أمميِّ التوجه، مثلهم مثل الإسلاميين لكن أمميتهم معاكسة للأممية الدينية. ومع توجههم هذا تأتي مشاركتهم في المعارك السياسية و دفاعهم عن مصالح اجتماعية واقتصادية واسعة.. للعمال والفلاحين ومتوسطي الحال وصغار الكسبة والفقراء، وهذا ساعدهم على أن يكونوا قوة مؤثرة في صفوف القوى الوطنية، وهذا التيار ينظر إ لى العمل الديمقراطي كمُعَبّد للطريق أمام تحقيق الطموح الاشتراكي الأممي على المدى البعيد. وهم من المطالبين بالاستقلال الوطني والتحرر والديمقراطية ومواجهة الصهينة والتطبيع. ونقيض هذا التيار هناك حَرْفيون يرون الخطر في العروبة والدين، واتخذوا من ذلك مبررا للدفاع والتعاون مع حسني مبارك.. يحاربون معاركه ويحصلون على بعض فتاته، وحجتهم منع ‘الفاشية’ القومية والدينية، حسب ما يدعون، من الوصول إلى مقاعد الحكم. وبسبب ذلك الهوس تبوأوا مكانة متقدمة في مناصرة المشروع الصهيوني، والالتحاق بركب المحافظين الجدد، ومنهم من تبنى مخططهم بالكامل، والغريب أن عددا من هؤلاد يعمل في أجهزة الإعلام الحكومية المصرية والسعودية .
هنا نأتي إلى إشكالية الليبرالية. فبعد أن مرت بتطورات عدة خلال العقود الأخيرة، أصبح لها تأثيرها على أشكال ومضامين مشروعات التغيير المطروحة على دول المنطقة.. كثير من هذه المشروعات أخذ بالصيغ البرلمانية و الحزبية والاعتراف بالتعددية وبالرأي والرأي الآخر، وبالحقوق والحريات القانونية والإنسانية والسياسية. ورأينا بلدا مثل إيران، وهي تأخذ بنظام ولاية الفقيه استعارت كثيرا من الأنساق والآليات الليبرالية.. اعتمدت نظاما برلمانيا مناسبا. والتزمت بتداول السلطة عن طريق صندوق الانتخابات. على أساس صوت واحد للشخص الواحد.. دون تمييز.. وفي بلد مثل مصر نجد أن أغلب مشروعات التغيير فيها تحمل ملامح ليبرالية، حتى أن مسودة البرنامج السياسي لمشروع حزب الإخوان المسلمين تم تطعيمه ببعض مكوناتها.. وهذه المشروعات على تعددها وتنوعها.. يسارا ووسطا ويمينا.. قوميا أو إسلاميا.. أقرت بحق الآخر في الوجود والتعبير والمشاركة في الحكم، والاستئثار به متى حصل على الأغلبية البرلمانية، التي تمكنه من الحكم منفردا وهذا أخرج الليبرالية من قمقمها الغربي، وأصبحت شيئا شائعا.. أشبه بالبهار الضروري لصلاح الطبخ وسلامة الطعام.
هذه التطورات تعري ليبرالية السماسرة والمضاربين والمحتكرين من أعضاء أمانة السياسات.. حكام مصر الحاليين. وهم فضلا عن أنهم لا يملكون مشروعا وطنيا للتغيير، فإنهم ينفذون مخططا للاستحواذ.. ترعاه وتحميه منظومة كاملة للاستبداد والفساد والتبعية.. تجند كل طاقتها وعلاقاتها وثرواتها المسروقة لاتمام صفقة ‘التوريث’..
وحين عجزت عن اجتياز حائط مقاومة المصريين العنيدة لهذه الصفقة ارتمت في أحضان القوى الصهيونية وجماعات الضغط الأمريكية والأوروبية أملا في تمريرها. وفي ظروف خطر داخلي داهم واحتمالات خطر خارجي قادم، فإن وحدة القوى الوطنية بالمعنى الذي طرحناه.. تقتضي اعتماد لغة الحوار كأساس للتعامل مع الآراء والرؤى مهما اختلفت.. ما دامت تلتزم بالثوابت والضوابط الإنسانية والوطنية والأخلاقية. ولا تجب المراهنة على ‘أمراء الظلام’ الذين يكتبون بالخناجر والمداد السام. وهؤلاء لا تتوجه اليهم الكتابة الوطنية أو اللغة الجامعة أصلا، وفي النهاية لا يصح إلا الصحيح.
‘ كاتب من مصر يقيم في لندن
القدس العربي