أنماط العبودية الجديدة
أحد القطاعات النامية في السوق العالمية هو خداع الملايين من البشر ليتحوّلوا الى العمل بالسخرة.
مجلة “نيوزويك” (15 نيسان 2008) نشرت تحقيقاً موسعاً تحت عنوان “إغراءات العبودية”. ومنه نقتطف:
بعض أبرز صانعي الكومبيوتر في العالم لا يريدونك أن تعرف عن “لوكال تكنيك إنداستري”. إنها شركة ماليزية عادية، وواحدة من الكثير من الشركات الصغيرة لتصنيع هياكل الأقراص الصلبة المصنوعة من الألمنيوم والمستعملة في معظم ماركات أجهزة الكومبيوتر المعروفة في السوق. لكن هذه هي المشكلة بالتحديد: إنها شركة ماليزية نموذجية.
نحو 60 في المئة من موظفيها البالغ عددهم 160 هم من خارج ماليزيا، يقول أحد مديري الشركة إنه يشفق على هؤلاء العمال الأجانب. “لقد تم خداعهم بالكامل. وتم الاحتيال عليهم“.
فالوسطاء غير الشرفاء خارج البلاد خدعوا العمال وحثوهم على دفع رسوم هائلة لإيجاد وظائف لهم لا تدر عليهم أي مدخول تقريباً. يقول المدير: “يزعمون أن الوسطاء وعدوهم بأنهم سيتقاضون 3.000 رينجيت (950 دولاراً) شهرياً. كيف عسانا ندفع هذا المبلغ؟ إذا فعلنا ذلك، فسنفلس بسرعة“.
إذن لماذا لا يترك هؤلاء العمال الأجانب وظائفهم ببساطة؟ لأنهم لا يستطيعون، حتى بعدما يكتشفون أنهم خدعوا. فالقانون الماليزي يفرض على العمال الأجانب التوقيع على عقود عمل لسنوات عدة وتسليم جوازات سفرهم لأرباب عملهم. أولئك الذين يهربون لكن يبقون في ماليزيا يصنفون بأنهم أجانب غير شرعيين، ويواجهون احتمال توقيفهم وسجنهم، وفي بعض الأحيان يتم ضربهم بالعصي قبل ترحيلهم من البلاد. يقول رجل من بنغلادش عمل في لوكال تكنيك (على غرار غيره من العمال الذين تم ذكرهم في هذا المقال، يخشى أن تتم معاقبته إن ذكر اسمه): “الشركة أخذت جواز سفري. يقولون لك: “أتيت الى هذه الشركة، ويجب أن تعمل لهذه الشركة، لا يمكنك العمل في مكان آخر. وإذا عملت لمصلحة شركة أخرى، فستقبض الشرطة عليك”. لقد دفع 3.600 دولار لأحد السماسرة في بنغلادش كي يدبر له عملاً في لوكال تكنيك. وعندما وصل، علم أنه سيتقاضى 114 دولاراً شهرياً بعد حسم إيجار الغرفة وكلفة الطعام والضرائب من أجره. الحسابات بسيطة: بعد اقتطاع أجر السمسار، يصبح أجره الشهري الصافي 14 دولاراً. إذا لم ينفق فلساً واحداً على نفسه، فسيتقاضى 504 دولارات بعد ثلاث سنوات من العمل.
هذا فصل جديد في قصة العولمة: يد عاملة مهاجرة متنامية عالقة في ظروف تكاد تشبه ظروف الاستعباد. عندما شددت وسائل الإعلام الضغوط على شركة “نايكي” في تسعينات القرن الماضي لتعاملها مع مصانع استغلالية في العالم النامي، كانت هذه المصانع تعمل لمصلحة الشركة الأم مستعينة بعمال محليين. الآن، فيما تطالب النقابات العمالية بحصة أكبر من أرباح الشركات في دول تخطت المراحل الأولى من التقدم، مثل ماليزيا وتايوان، يتم استيراد اليد العاملة الرخيصة بشكل متزايد من البلدان الأفقر مثل الفلبين وكمبوديا. وغالباً ما تكون ظروف عمل هؤلاء العمال المهاجرين أسوأ بكثير من ظروف العمل في المصانع الاستغلالية. بعد تعرضهم للخداع في بلدانهم من قبل سماسرة توظيف يعدونهم بأنهم سيتقاضون أجوراً عالية، غالباً ما يجد هؤلاء العمال، الذين يتم الاتجار بهم، أنفسهم في بلد لا يتكلمون لغته، ومثقلين بالديون التي يستحيل عليهم الوفاء بها، ومحرومين من جواز السفر الذي يحتاجون إليه للعودة الى ديارهم. يقول ريني أوفرينكو، مدير مركز العدالة العمالية في جامعة الفلبين بمانيلا: “كان العبيد في السابق ملكاً لأرباب عملهم. لكن الآن يعمل السماسرة الشرعيون وأرباب العمل معاً لخداع العمال الذين يجبرون على قبول الظروف القاسية، بسبب شعورهم بالضعف والعزلة في بيئة غريبة. هذه هي الظروف التي تؤدي الى تفشي العمالة القسرية اليوم“.
لقد تم التنبه لتنامي نزعة العمالة القسرية المهاجرة منذ فترة قصيرة لدرجة أنه يصعب تحديد حجمها وتعقب جذورها. الدراسة الأكثر شمولاً أجرتها منظمة العمل الدولية التابعة للأمم المتحدة، التي حاولت تقييم مدى انتشار المشكلة لأول مرة قبل ثلاث سنوات فقط. تقريرها الصادر عام 2005 يقدر وجود 12.3 مليون شخص عالق اليوم في ظروف العمالة القسرية، ويتم تحديد هذه العمالة على أنها وظائف يتم فيها الإيقاع بالناس من خلال الضغوط النفسية أو الديون أو الخداع أو الإكراه الجسدي أو التهديدات بالعنف أو بالتوقيف أو بالسجن أو الترحيل لإجبارهم على العمل القسري.
ثمة تقديرات تشير الى أن هذا الرقم يصل الى 27 مليوناً، وتشير تقديرات أخرى الى أنه لا يتعدى أربعة ملايين. في حين أن لا أحد يعرف تماماً عدد العمال الذين تم خداعهم للذهاب الى بلدان أجنبية، فإن منظمة العمل الدولية تعتبر التجارة بالعمال من “الأشكال الجديدة” للعمالة القسرية التي تزداد انتشاراً في سوق عالمية قائمة على التنافسية. وتحذر منظمة العمل الدولية: “يبدو أننا ما زلنا لا نرى سوى جزء صغير من المشكلة المقلقة الأكبر حجماً”. ويقدر تقرير الاتجار بالأشخاص الصادر عام 2007 عن وزارة الخارجية الأميركية أنه يتم الاتجار بـ800.000 شخص عالمياً كل سنة. مخاطر أسفارهم دائمة: في آخر حادث، اختنق 54 عاملاً بورمياً الأسبوع الماضي في حاوية شحن في طريقهم الى منتجع فوكيت التايلندي. وهم من ضحايا مهربي الأشخاص.
أحد أسباب تجاهل سوق العمالة القسرية الغامضة وعدم تنظيمها بشكل كاف هو أن معظم وسائل الإعلام تركز على الاتجار بالنساء لأغراض جنسية، مع أن هذا ليس سوى جزء صغير من المشكلة الأكبر، حيث يقدر عدد المومسات اللواتي يتم الاتجار بهن بنحو مليونين عالمياً. يقول ريتشارد دانزيغر، من منظمة الهجرة الدولية في جنيف: “نتحدث كثيراً عن الاتجار بهدف الاستغلال الجنسي (لأن) الجنس والعنف يزيدان من مبيعات الصحف. الآن فقط أصبحنا قادرين على إقناع الناس بأن الاتجار بالبشر لا يقتصر على ذلك“.
لقد أقرت الأمم المتحدة ما لا يقل عن ستة بروتوكولات ومعاهدات تحظر الاتجار بالبشر والعمالة القسرية. لكن حتى الآن، لم تتخذ الدول المصدرة للعمال والدول المستضيفة لهم والمجتمع الدولي، سوى خطوات صغيرة لضبط الاتجار بالبشر. رداً على الشكاوى، توقفت ماليزيا موقتاً عن استقبال العمال من بنغلادش. ومن جهة أخرى، تعهدت حكومة داكا بالتحقيق في الاتهامات بأن تصدير العمال من بنغلادش يشكل عبودية مشرعة. غير أن تحرير العبيد لا يزال مجرد حلم.
المستقبل – الاحد 20 نيسان 2008