مدخل سياسي إلى العلمانية، أو مدخل علماني إلى السياسة
جاد الكريم الجباعي
العلمانية ضرورية للشعوب التي لم تفلح بعد في إنتاج حياتها النوعية دولةً وطنيةً حديثة، أو لم تفلح بعد في إنتاج شكل سياسي حديث لوجودها الاجتماعي. فمنذ اغتالت “الثورةُ” جنينَ الدولة الوطنية، في بلداننا باتت هذه البلدان أمام أحد خيارين: إما الدولة الوطنية الحديثة وإما اللادولة، والخيار الثاني هو استمرار العسف والطغيان والتأخر والاستبداد.
وضع المسألة على هذا النحو قد يخرجنا من السجال الثقافي، بل الأيديولوجي، حول الدين والسياسة أو حول الدين والدولة. فحين تصير الدولة الوطنية خياراً واضحاً وأكيداً يحظى بإجماع وطني لا بد أن يتركز النقاش على ما هي الدولة وما هي وظائفها، وعلى طابع علاقتها بالفرد من جهة وبالمجتمع من جهة أحرى.
تستند هذه المقاربة على تعريف الدولة بأنها “الفكرة الأخلاقية المتحققة بالفعل”؛ أو بأنها “الروح الأخلاقي من حيث هو إرادة جوهرية تتجلى وتظهر وتعرف وتفكر في ذاتها، وتنجز ما تعرف بقدر ما تعرف”. وبأنها “توجد على نحو مباشر، بالعرف والقانون؛ وعلى نحو غير مباشر في الوعي الذاتي للفرد ومعرفته ونشاطه” …، بتعبير هيغل (أصول فلسفة الحق، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام، مكتبة مدبولي القاهرة، 1996، ص 497). أو بأنها “الحياة النوعية للإنسان” وتجريد المجتمع المدني وتجريد كل فرد من أفراده، بتعبير ماركس، وسنعود إلى ذلك في موضعه.
وفي ضوء هذه التحديدات، تبدو العلمانية جوهر الدولة السياسية، وأساس كونها دولة وطنية، أو قومية (وهما بمعنى واحد، في نظر الكاتب.). فالعلمانية ليست صفة خارجية نطلقها على الدولة جزافاً وننزعها عنها جزافاً، وليست حكم قيمة ذاتياً يطلقه العلمانيون على الدولة، بل هي حكم واقع يتعلق بأساس الدولة الوطنية الحديثة ومبادئها، وليست اختياراً ثقافياً أو انحيازاً أيديولوجياً، إلا على صعيد الأفراد. الدولة الوطنية إما أن تكون علمانية وإما لا تكون دولة وطنية، بل لا تكون دولة. هذا الأمر لا يتعلق بواقع الاختلاف والتنوع، على الصعيدين الديني والإثني فقط، بل يتعلق بماهية الدولة الحديثة، دولة الحق والقانون أساساً. أما الاختلاف الديني والمذهبي والإثني وغيرها فلا يستنفد واقع الاختلاف، ولكنه يضيف سبباً آخر إلى الأسباب التي تقضي بأن تكون الدولة علمانية، لكي تكون دولة جميع مواطنيها. فإن تطلع القوميين العرب إلى دولة قومية عربية نقية عرقياً يشبه تطلع الجماعات الإسلامية، جماعات الإسلام السياسي، إلى دولة إسلامية نقية مذهبياً، وتطلع الماركسيين اللينينيين إلى دولة “اشتراكية” نقية طبقياً (بعد “القضاء على البورجوازية والرجعية”) وتتبنى عقيدة سياسية أو مذهباً فلسفياً. هذه التطلعات تنفي بالتساوي وطنية الدولة، وتنفي من ثم علمانيتها، ما يعني أن الحركة القومية العربية والحركة الشيوعية، كالحركة الإسلامية تماماً، لم تكونا حركتين علمانيتين، في رؤيتهما إلى السياسة بوجه عام وإلى الدولة بوجه خاص؛ فقد كان لهما موقف سياسي من الدين، يخفض الدين إلى مستوى الوسيلة والأداة، وموقف ديني من السياسة يضفي عليها طابع المعصومية والقداسة. علمانية الدولة هنا هي الشرط الضروري للمساواة، نعني المساواة أمام القانون، والمساواة هي التعبير العملي عن العدالة. الحرية والمساواة والعدالة هي الخصائص الجوهرية للدولة.
قبل الشروع في مناقشة هذه المسائل لا بد من الإشارة إلى أن مقاربتنا تنطلق من الاعتبارات الآتية:
1 – من الفارق النوعي بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي (الدولة)؛ إذ الأول، أي المجتمع المدني، هو ميدان التعدد والتنوع والاختلاف والتفاوت وعدم المساواة، وميدان التنافس والتنازع وتعارض المصالح وميدان الحرية / الحريات الذاتية. فالمجتمع المدني هو الميدان الذي تتعين فيه الأديان والمذاهب والطوائف شعائر وعبادات ورموزاً ومؤسسات وعلاقات داخلية وخارجية، وتتعين فيه الإثنيات لغات وثقافات وعصبيات وعلاقات داخلية وخارجية، فضلاً عن انقساماته الطبقية. والثاني، أي المجتمع السياسي، هو ميدان الوحدة ومملكة القانون، والقانون الوضعي (العلماني) وحده يعبر عن العناصر العقلية والأخلاقية المشتركة بين الأفراد والجماعات والفئات الاجتماعية، ويضمن تساوي المواطنين في الحقوق والواجبات، وفي حرية الفكر والضمير وحرية الاعتقاد وحرية العبادة وحرية التعبير بلا استثناء ولا تمييز، ويوفر للأديان والمذاهب والطوائف والإثنيات شروط النمو والتفتح والازدهار، وفق قوانينها الخاصة، وينمي العناصر الإنسانية: العقلية والأخلاقية، الكامنة في كل منها، إذ لا يفرق فيما بينها، ولا يحابي أياً منها، ولا يضيِّق على أي منها.
2 – من حقيقة أن الاختلاف الديني أو المذهبي أو الطائفي أو الإثني لا يستنفد واقع الاختلاف بين الأفراد والجماعات في كل شيء، ولا ينفي تماثلهم وتماثلها، في الحيثية الإنسانية وفي الحيثية الوطنية، فلا اختلاف بلا تشابه وتماثل؛ ولا ينفي، كذلك، حقيقة أن ثمة دوماً ما هو مشترك بين المختلفين. فإن ما هو مشترك بين الأفراد والجماعات هو بالضبط ماهية الدولة الوطنية وقوام الوحدة الوطنية، التي لا سبيل إلى قيامها وتحققها إلا بقيام الدولة الوطنية وتحققها.
3 – من اعتبار الأديان والمذاهب والطوائف والإثنيات، في ذاتها، وكذلك الأيديولوجيات والطبقات الاجتماعية، في ذاتها أيضاً،ً متساوية في القيمة الإنسانية والروحية والأخلاقية، بغض النظر عن عدد أتباعها والمنتمين إليها، وأتباعها والمنتمون إليها متساوون في الحقوق والواجبات؛ فإن كثرة العدد أو قلته لا يجوز أن ينتج منهما أي نتيجة سياسية، ولا يجوز كذلك أن ينتج منهما زيادة أو نقصان في الحقوق والواجبات وفي الالتزامات والمسؤوليات.
4 – من حقيقة أن الدولة هي الشكل السياسي للمجتمع المدني، منظوراً إليه من خلال عملية / عمليات الإنتاج الاجتماعي، المادي والروحي بالتلازم الضروري، أو هي الشكل السياسي للوجود الاجتماعي، فهي من إنتاج المجتمع المعني نفسه، تحمل جميع خصائصه الجوهرية، وليست تجلياً لقوة مفارقة أو عقل أعلى، كما أنها ليست من إنتاج الطبيعة، وليست معطى بديهياً، مثلها في ذلك مثل المجتمع الذي ينتجها. إنها بالأحرى روح المجتمع المعني، أعني عقله وضميره الأخلاقي، لأنها تعبير عما في كل فرد من أفراد المجتمع من عناصر عقلية وأخلاقية.
5 – من الروابط الضرورية، المنطقية والواقعية، بين مفهوم الدولة ومفهوم الأمة؛ وهذه الأخيرة جماعة سياسية، نسجها تطور تاريخي، لا جماعة دينية (ما قبل وطنية وما فوق تاريخية) ولا جماعة إثنية، أو عرقية / لغوية (ما قبل وطنية وما فوق تاريخية). وهي، إلى ذلك، نظام أخلاقي يستمد جميع عناصره من واقع المجتمع المعني ومن تجربته التاريخية. هذه الرؤية تطرح علينا، نحن العرب، خاصة، تحدياً فكرياً وأخلاقياً للتفريق بين مفهوم العروبة ومفهوم “الأمة العربية”، الذي نسجت حوله وانبنت عليه الأيديولوجية القومية، لكي نتمكن من إعادة تأسيس الدولة الوطنية على مبدأ الإنسان ومبدأ المواطنة، وعلى فكرة التاريخ ومبدأ التقدم. فإن علمانية الدولة تتأسس على مبدأ الإنسان وعلى مبدأ المواطنة، وهما مبدأان حاكمان على الدولة الوطنية. العروبة فضاء ثقافي، روحي وأخلاقي، مشترك بين العرب جميعاً، وليست انتماء سياسياً، ولا يجوز أن تكون كذلك. ومن ثم، فإن مقولات الأمة العربية والدولة العربية والقومية العربية، كمقولة الدولة الإسلامية، مقولات أيديولوجية خالصة.
6 – من حقيقة أن المجتمع المدني، حين ينتج الدولة الوطنية، بل حين ينتج ذاته دولةً وطنيةً، أو حين يتشكَّل دولةً وطنيةً، إنما يحقق كليته العينية، ووحدته التناقضية، الجدلية، في الواقع وفي التاريخ؛ فيتعدى مفهوم “الجماعة” / “الجماعات” الدينية أو الإثنية إلى الجماعة السياسية، إلى الأمة، ويتجاوز انقساماته العمودية والأفقية أيضاً إلى الوحدة السياسية. (المجتمع المدني والدولة الوطنية، معاً، كلية عينية، ووحدة تناقضية، جدلية)؛ فلو افترضنا أن مجتمعاً ما جميع أفراده من العرب المسلمين السنة، وهذا مجرد افتراض نظري، فإن الدولة التي ينتجها هذا المجتمع المفترض لا يمكن ولا يجوز أن تكون عربية مسلمة سنية، لأن الدولة الوطنية الحديثة تعبير عما هو عام ومشترك بين أفراد المجتمع المعني مما يشكل ماهية كل واحد منهم وجوهره، والعروبة والإسلام السني، هنا، ليسا مما يشكل ماهية الفرد وجوهره (قبل العروبة والإسلام هنالك الإنسان، الكائن الحر العاقل والأخلاقي، بالتلازم الضروري بين الحرية والعقل والأخلاق؛ هنالك الفرد الطبيعي والمواطن. العرق واللغة والدين وغيرها لا تضيف إلى ماهية الإنسان شيئاً ولا تنقص منها شيئاً، ولا تضيف إلى ماهية المواطن شيئاً ولا تنقص منها شيئاً). ولا تكون الدولة دولة وطنية إلا حينما يكون القانون الوضعي العام ماهيتها وجوهرها، لا العقيدة القومية (العربية) ولا الشريعة الدينية (الإسلامية). العروبة والإسلام محمولان على الإنسان / الفرد، كسائر محمولاته الأخرى، لا يضيفان إلى ماهيته شيئاً ولا ينقصان منها شيئاً؛ العربي وغير العربي متماثلان في الإنسانية ومتساويان في المواطنة، وكذلك المسلم وغير المسلم. جميع محمولات الإنسان / الفرد تستمد قيمتها من الإنسان، لا العكس. وقد أكدنا مراراً أن تسييس العروبة كتسييس الدين سواء بسواء، لا ينتج منه سوى العسف والاستبداد، وأن تسييس الفكر والثقافة كتسييس الدين سواء بسواء، لا ينتج منه أيضاً سوى العسف والاستبداد.
7 – من حقيقة أن جميع محمولات الفرد وتحديداته الذاتية تستمد قيمتها من حاملها، من الفرد ذاته، بوصفه كائناً عاقلاً وأخلاقياً، الحرية هي ماهيته وجوهره وأساس قدرته على الحب، وعلى الخلق والإبداع، وليس لأي من محمولاته قيمة مطلقة، ومن ثم فإن الدولة تجسيد لما هو جوهري في جميع مواطنيها، نعني العقل والأخلاق والإرادة والحرية والعمل والإنتاج والخلق والإبداع، والملكات والاستعدادات المتساوية لدى جميع الأفراد، لا تجسيد لمحمولاتهم وتحديداتهم الذاتية أو لصفاتهم الفردية؛ لذلك وصفت الدولة بأنها “تجريد المجتمع المدني وتجريد كل فرد من أفراده“.
الدولة هي المجتمع المدني مجرداً من تحديداته وتعييناته: العرقية / اللغوية والعشائرية والدينية والمذهبية والطائفية والطبقية والأيديولوجية .. ومن جميع ما يحول دون كونه أمة حديثة هي شكل التوسط بين المجتمع المدني والدولة، تجريد المجتمع المدني، على هذا النحو، هو ما يجعل منه مجتمعاً سياسياً عمومياً. والمواطن، الذي هو أساس الدولة الوطنية، هو الفرد الطبيعي مجرداً كذلك من جميع تحديداته وتعييناته: الإثنية والدينية والطبقية، ومن جميع محمولاته، ومن جميع صفاته الشخصية. من دون عملية التجريد هذه لا يمكن التوصل إلى الأساس الذي يقوم عليه تساوي المواطنين أمام القانون الوضعي (العلماني)، الذي هو ماهية الدولة.
يجب أن نؤكد هنا أن الدين، كغيره من محمولات الإنسان / الفرد، يستمد قيمته من الإنسان / الفرد، لا العكس، (يجب أن نؤكد أن الإسلام يستمد قيمته من الإنسان، لا العكس)؛ فقد وجد الدين من أجل الإنسان، ولم يوجد الإنسان من أجل الدين. ذلك لأن “الروح الذي يسري في الدين (أي دين على الإطلاق) هو الروح الإنساني فحسب”. الروح الإنساني هو الذي يتعيَّن علاقاتٍ ومؤسساتٍ اجتماعيةً وثقافةً وقيماً أخلاقية، ودولةً سياسية، ثم دولةً ديمقراطية، لا الإسلام ولا المسيحية ولا الكونفوشية ولا الطاوية أو غيرها من الأديان والمذاهب المعروفة.
8 – من حقيقة أن ما هو جوهري في عالم الإنسان (المجتمع والدولة) هو الإنسان ذاته، بتعبير ماركس. ومن ثم فإن الإنسان هو أساس المواطن، الذي هو أساس الدولة السياسية (الليبرالية)، وأساس الدولة الديمقراطية؛ وإن الإنسانية هي أساس الوطنية ورافعتها. الوطنية، التي لا تقوم على هذا الأساس، هي بالأحرى عنصرية مولدة للكراهية ومولدة للعنف.
9 – من العلاقة الجدلية بين الشكل والمضمون، بين الوجود الاجتماعي المباشر وأشكاله المختلفة: الاجتماعية / الاقتصادية والثقافية والسياسية والأخلاقية. فالشكل في مغزاه الأكثر عينية هو العقل بوصفه معرفة نظرية، والمضمون، في مغزاه الأكثر عينية، هو العقل بوصفه الماهية الجوهرية للواقع، سواء كان واقعاً مادياً أم أخلاقياً، بحسب الفيلسوف الألماني هيغل.
في ضوء هذه الاعتبارت، يبدو للكاتب أن العلمانية ليست موضع اختيار ذاتي، رفضاً أو قبولاً، بل تقع في مجال اختيار آخر، أعني: إما اختيار الدولة الوطنية وإما اختيار اللادولة، إما اختيار الوطنية ذات المحتوى الإنساني وإما اختيار المذهبية والطائفية والانغلاق الإثني، إما اختيار التبعية والولاء لغير الذات الحرة، العاقلة والأخلاقية، وإما اختيار الحرية. إن فصل مطلب العلمانية عن مطلب الدولة الوطنية الحديثة، وعن سيرورة نشوء الأمم الحديثة، سيرورة الانتقال من الملة إلى الأمة، بتعبير ياسين الحافظ، هو أساس ما شهدناه وما نشهده من هذيان ديني وهذيان علماني.
ما من شك في أن كسب معركة العلمانية، في مجال الثقافة، مدخل ضروري لكسبها، في مجال السياسة، ولكن بعد إدراك جدلية الفصل والوصل بين الثقافة والسياسة وجدلية الفصل والوصل بين المجتمع المدني والدولة الوطنية، وبين الفرد الطبيعي والمواطن.
ليس ثمة فرد إنساني خارج الجماعة، خارج الاجتماع البشري، ثم خارج المجتمع المدني والدولة. كل فرد إنساني هو فرد / جماعة، أو فرد اجتماعي، ثم سياسي وأخلاقي. وكل جماعة تنظم حياتها الداخلية وعلاقاتها الخارجة على نحو يحافظ على حياة أعضائها ويوفر شروط مناسبة لحفظ النوع؛ أي على نحو يلبي دافع الجوع ودافع الجنس، بحسب فرويد.
على هذا الأساس الأنتروبولوجي تنشأ الحياة الاجتماعية بوجهيها المادي والروحي. أعني بالوجه الروحي العلاقات التي تربط أفراد الجماعة بعضهم ببعض ومحتوى تلك العلاقات، أي الأشكال الاجتماعية والثقافية والسياسية والأخلاقية التي يتشكل وفقها الوجود الاجتماعي المباشر. مبدأ تنظيم حياة الجماعة الطبيعية هو العرف الوضعي ومبدأ تنظيم المجتمعات البطريركية هو الشرع الإلهي؛ ومبدأ تنظيم المجتمعات الحديثة هو القانون الوضعي. ويبدو لي أن هذا مطرِّد في تاريخ سائر الجماعات والمجتمعات، التي كانت تنتقل من الروابط الطبيعية إلى الروابط الدينية ثم إلى الروابط المدنية.
الشرائع الدينية، بلا استثناء، ولا سيما الشرائع التي جاءت بها الأديان التوحيدية، تعبير عن تآكل الأعراف والعادات والتقاليد الوضعية وتفسخها، لعدم قدرتها على مواكبة تطوّر الجماعات المعنية. وقد كان من المستحيل أن تعاود الأولى نهوضها من جديد إلا من خلال القوانين الوضعية الحديثة، فإن توسط الشرائع الدينية بين الأعراف الوضعية القديمة والقوانين الوضعية الحديثة يجعل من الأخيرة أعرافاً مدنية سامية، ذات جذر أخلاقي، تستمد طابعها المجرد والمطلق من الفكر، وتستمد سموها من سمو الله. إعادة إنتاج الأعراف والعادات والتقاليد شرائعَ دينية يختلط فيها الواقعي والأسطوري والمادي والميتافيزيقي ليس سوى تركيب جديد من أعراف وعادات وتقاليد عشائر مختلفة، أو جماعات مختلفة، مرفوع إلى درجة القداسة، وممهور بخاتم إلهي. ذلك لأن أي فرد حرّ لا يطيق أن يكون تابعاً لفرد حرّ مثله، وأيّ جماعة ذات كيان لا تقبل أن تكون تابعة لجماعة مثلها تفرض عليها اتباع أعرافها وتقاليدها، ولا سيما أن لكل عشيرة أو لكلّ جماعة معتقدها الدينيّ، لا تتخلى عنه بسهولة، إلا في حال التحالف مع جماعة أخرى، أو في حال استتباعها قسراً، وفق قاعدة الاقتداء بالغالب.
لعلّه كان من الضروري أن تدخل الأعراف والعادات والتقاليد في مصهر الدين التوحيدي، لكي ينفصل ما في كل منها من عناصر عقلية وأخلاقية عامة هي لحمة الدين التوحيدي وسداه. هذه العناصر العقلية والأخلاقية العامة المشتركة بين جماعات مختلفة لا يمكن وعيها وتعرفها، في صيغتها هذه، إلا بوصفها ذات طابع مقدس، لأن الوعي لا يزال في طفولته، ولم يخرج بعد من قوقعته الفردية، الأنانية، ولأن الأقوى لا يزال قادراً على تحويل قوته إلى حق. فإنّ تعارض تعاليم الدين التوحيدي مع أعراف كل جماعة على حدة هو مهماز تطور هذه الجماعات. ولكن الدين التوحيدي لا يلبث أن يصير غطاء للعسف والظلم والاستبداد وتسويغاً للتفاوت الاجتماعي، ما يحفز المصلحين والمفكرين والفلاسفة وفقهاء القانون على تجريد تلك العناصر العقلية والأخلاقية من القداسة الدينية، لتصير قوانين فوق الجميع وملزمة للجميع، حاكمين ومحكومين (القانون فوق أثينا، فوق المدينة، أثينا، وفوق الإلهة أثينا، حامية المدينة) ولتصير ضامنة للحقوق، التي لن تقوم بعد ذلك على مبدأ “حق الأقوى” بل على مبدأ الاعتراف المتبادل، الذي يمهد لنشوء العقد الاجتماعي، ولكي يجدَّ أصحابها في طلبها، فيصير التفاوت الاجتماعي هذه المرة هو مهماز التقدم، فإنّه من التعسّف ربط ما يسمى الصراع الطبقي، الذي ابتلع الديالكتيك، بظهور الملكية الخاصة.
إن خطّ التطور، الذي نقترحه ذو إيقاع ثلاثي: وضعي – ديني – وضعي. الوضعي الأخير، أعني القانون، هو مركب جدلي من الحدّين الأولين يجمع ما هو جوهري في كل منهما: العناصر العقلية (العلمانية) في الأوّل والعناصر الأخلاقية (الإنسانيّة) في الثاني. لهذا السبب يوصف القانون بأنه روح الشعب وماهية الدولة، لأنه تعبير عما هو عام ومشترك بين جميع أفراد الشعب، أعضاء الدولة، ولذلك ترتبط العلمانية بالعقلانية والإنسانية ارتباطاً وثيقاً لا تنفك معه إحداهما عن الأخريَيْن، وترتبط بالديمقراطية، لأنها الصفة الجوهرية للقانون.
الطابع الأخلاقي الأصيل لسلوك الأفراد، في أي مجتمع، لا يتأتى إلا من المشاركة في الشؤون العامة وفي حياة الدولة، ومن التزام القانون واحترامه، ومن التزام القانون الأخلاقي، غير المكتوب، الذي تقوم عليه العلاقات الاجتماعية. ونعني بالطابع الأخلاقي الأصيل للسلوك الاجتماعي، السلوك المؤسّس على الحرية والمعبّر عن الروح الإنساني، لا السلوك المؤسس على الخوف والرهبة والمسكنة والنفاق، ولا على ” قوة الأسد ومكر الثعلب “.
البنى المجتمعية المتيبسة: العشائرية والقبلية والدينية / المذهبية لا تزال تتجاور لديها الأعراف التقليدية والشرائع الدينية، من دون أن تتأثر إحداهما بالأخرى تأثراً جذرياً، إن لم نقل إن الأولى استمدت من الثانية طابع القداسة والإطلاق. ويمكن أن نستنتج من ذلك أن مبادئ الدين الإنسانية وقيمه الأخلاقية أقل رسوخاً في حياة المجتمعات البطريركية المتأخّرة من الأعراف والعادات والتقاليد، سواء في البوادي والأرياف، أو في المدن المريَّفة. والتطرف المذهبي الذي تشيعه جماعات الإسلام السياسي، اليوم، يؤكد هذه الواقعة، ولا ينفيها، ولا سيما أن التطرف قرين الجهل، فالجهل بما هو الدين، وعدم تمثل قيمه ومبادئه الأخلاقية، الإنسانية، الكونية بالضرورة، هو أساس التطرف وأساس الأيديولوجيات المذهبية المغلقة، وأساس تحول الدين إلى مجرد شعائر وشكليات ومظاهر، وأساس ارتباطه بالاستبداد السياسي (كثرة المدارس الشرعية ومدارس تحفيظ القرآن وكثرة كليات الشريعة وكثرة “الفقهاء لا تنفي واقعة الجهل، بل تؤكدها).
فبدلاً من أن يكون الإسلام، عندنا، حداً أخلاقياً يتوسط الأعراف القديمة والقوانين الحديثة صار حاجزاً بينهما وعقبة تحول دون نمو ما هو عقلي وأخلاقي في الأعراف القديمة، بفعل ما هو أخلاقي وإنساني في الإسلام، إلى قانون وضعي حديث. ينتج من ذلك أن الأعراف القبلية والعشائرية والشرائع الدينية صارت منظومات مغلقة ومتيبسة ومتخارجة انغلاقَ البنى الاجتماعية، ما قبل الوطنية، وما قبل المدنية، وتيبسًها وتخارجًها. هذه الوضعية تلخص مأزق المجتمعات “الإسلامية”، وتفسر ضعف الروابط الوطنية، في كل منها.
بل لعلّ قسمة الإسلام عقائدَ وعباداتٍ ومعاملاتٍ هي أساس هذا المأزق، إذ العقائد متصلة بضمير الفرد فقط، في حين ترتدي العبادات طابعاً جماعياً أو جمعياً واجتماعياً، وليس بوسع أحد أن يحكم في ما إذا كانت تعبيراً عما في ضمائر الأفراد. أما المعاملات، التي هي التعبير الفعلي عن الضمير، والتي تدل دلالة واضحة على الأسس القانونية والأخلاقية التي يقوم عليها المجتمع، فمتناقضة مع العقائد، ومنفصلة عن العبادات ومستقلة عنها، وذات جذور عرفية خالصة، ما جعل العرف يفوق “الشريعة” قوة ونفوذاً، حتى يومنا. (يعرف أبناء جيلي، على الأقل، أن المنازعات بين الأفراد والجماعات غالباً ما تحل وفق الأعراف والعادات والتقاليد، لا وفق الشرائع الدينية، ولا وفق القانون الوضعي، بل إن اللجوء إلى القضاء كان، ولا يزال، إلى حد بعيد، في منزلة العيب وسبباً للعداوة. ويمكن التحقق من ذلك بدراسة القضاء في البيئات البدوبة والريفية، وحيثما يسود الإنتاج الكفافي، الزراعي أو الحرفي، كما يمكن دراسة دور الوجهاء في فض المنازعات بدلاً من القضاة. وفي أيامنا هذه تقوم الأجهزة الأمنية بوظائف القضاة، وتملي على هؤلاء أحكامهم في كثير من الأحيان، وتحول دون تنفيذها في أحيان أخرى. لقد باتت هذه الأجهزة، في غير مكان، سلطة تشريع وتنفيذ وقضاء).
في البلدان المتأخرة بوجه عام لا ينظر الأفراد إلى القانون على أنّه تجسيد لحرّيتهم الموضوعية، وعلى أنه وضع من أجلهم، إذا لم نقل إنهم هم الذين وضعوه من أجل تنظيم حياتهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
كما أن الموقف من الآخر لا يزال محكوماً بمنطق ” ونشرب إن وردنا الماء صفواً، ويشرب غيرنا كدراً وطيناً “، أي بمنطق العشيرة، منطق الغلبة والقهر والاستبعاد والإقصاء، وإقامة مبادئ الحق والأخلاق على الاقتناع الذاتي، لا بمنطق “فلا نزلت علي، ولا بأرضي، سحائب ليس تنتظم البلاد”، الذي يعبر عن إرادة الخير العام، ويكشف عن حقيقة الروح الإنساني، الذي يسري في الدين، ويتحوّل إلى واقع أخلاقي في القانون الوضعيّ.
القانون، في العلوم الوضعيّة، هو المتكرر في الظاهرات. والقانون، بمعناه الحقوقي والأخلاقي، تعبير عمّا هو عام ومشترك بين جميع أفراد المجتمع المعني، وبين جميع مواطني الدولة المعنية، بغض النظر عن اختلاف معتقداتهم وأديانهم ومذاهبهم ولغاتهم وأصولهم العرقية، وبغض النظر عن سائر الاختلافات الأخرى. ذلكم هو ما يجعل القانون الوضعي تجسيداً للحرية الموضوعية، لأن الحرية هي ماهية الإنسان وجوهره. وذلكم هو أساس تساوي جميع المواطنين أمام القانون، أساس المساواة السياسية، التي هي الشرط الضروري والمقدمة اللازمة للعدالة. وذلكم هو مغزى كون القانون الوضعيّ ماهية الدولة السياسية، أعني الدولة الوطنية، وجوهرها.
الدولة لا تفرض ولا يحقّ لها أن تفرض على أحد أن يكون مسلماً أو مسيحياً، متديّناً أو غير متديّن، متعصباً لمذهبه وعقيدته أو متسامحاً. الدولة لا تفرض على مواطنيها شيئاً سوى ما يفرضه المواطنون أنفسهم على أنفسهم حين ينتخبون أعضاء المؤسسة التشريعية ويوكلون إليهم سن القوانين أو تعديل ما يحتاج منها إلى تعديل أو إلغاء ما بات منها معيقاً لنمو المجتمع وتطوره ومقيداً لحرية المواطنين. والدين الذي يعترف بتساوي جميع البشر أمام الله حريّ به أن يعترف بتساوي جميع المواطنين أمام القانون.
الدولة لا تستطيع أن تكون سوى دولة سياسية، بحكم ماهيتها، لا بمقتضى الرغبة والشعور
موقع الآوان