اليمين الملتبس واليسار المستجد
عماد شيّا
على هامش الحديث المستجد عن اليسار والحنين للعودة الى الارث المنثور في غياهب عقود القرن الماضي، يدفع الفضول والاهتمام بالمستجدات الى التساؤل عن اي يسار يجري الحديث اليوم، و بوجه اي يمين مفترض يجب ان تتكاتف الجهود، في زمن اختلطت فيه الاوراق ولم يعد اليسار يساراً ولا اليمين يميناً.
من حيث المفهوم، اليسار يعني رفض الواقع المعيش او النظام القائم والعمل على تغييره او اصلاحه. ومن اجل بلوغ هذه الاهداف تتوزع القوى داخل اليسار بين الاصلاحيين والثوريين، بين من يؤمن باعتماد الوسائل الديمقراطية والبرامج الاصلاحية وبين القوى التي تعتمد العنف الثوري للوصول الى اهدافها. وفي المقابل، تتركز اهداف اليمين على حماية النظام القائم والعمل بشتى الوسائل على عدم تغييره او المس به. وكما في اليسار كذلك في اليمين هناك قوى وتيارات محافظة ومتطرفة تسعى الى تحقيق غاياتها بأساليب ووسائل مختلفة.
تاريخيا، شهد لبنان في الماضي ولفترات طويلة صراعا مريرا بين قوى اليسار التي كانت غالبيتها من المسلمين وتسعى لاصلاح او تغيير النظام اللبناني الذي كانت تتحكم بمفاصله الامتيازات المسيحية المارونية، وبين قوى اليمين التي كانت غالبيتها من المسيحيين، وتسعى للحفاظ على تلك الامتيازات الموروثة من الانتداب الفرنسي. ولعل مرحلة سبعينيات القرن الماضي كانت من اكثر المراحل تعبيرا عن ذلك الصراع الذي بلغ ذروته بين احزاب الحركة الوطنية التي كانت تمثل قوى اليسار والجبهة اللبنانية المتكونة من احزاب اليمين.
الصراع العنفي المرير بين اليمين المسيحي واليسار الذي ارتدى الطابع الاسلامي، توقف في اوائل التسعينات مع اتفاق الطائف، ليهيمن مكانه الصراع الذي بدأ بين اجهزة الوصاية السورية الامنية والسياسية، وبين التيارات المسيحية السيادية والاستقلالية، هذا الصراع الذي اتخذ اشكال القمع الامني والاضطهاد السياسي الذي مارسته اجهزة الوصاية السورية ضد التيارات السيادية.
اذا، مع بداية مرحلة الطائف حل عنوان جديد للصراع سيادة/ وصاية مكان الصراع التقليدي بين اليمين واليسار. ومع انجاز مصالحة الجبل في آب عام 2000، بدا الميزان يميل لصالح التيار السيادي الذي بدأ يضم المسلمين الى جانب المسيحيين، هذا التيار الذي بلغ ذروته في 14 آذار2005، اثر اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه. ولقد قيض لثورة الجماهير اللاعنفية في 14 آذار، ان تحقق اهدافها وتسقط النظام الامني المشترك وتجبر النظام السوري على سحب قواته من لبنان بعدما كان هذا النظام قد فرض وصايته الامنية والسياسية على لبنان قرابة ثلاثة عقود.
مع انسحاب القوات السورية من لبنان، واجتماع القوى والمجموعات الحليفة لها في 8 آذار، تحت شعار “شكرا سوريا”، وبالتزامن مع استمرار مسلسل الاغتيالات ضد القوى الاستقلالية، بدأ الصراع في لبنان يتخذ عنواناً آخر بين قوى 14 آذار التي تدعو لاستكمال مسيرة الاستقلال والمطالبة بحصر السلاح بيد الدولة المسؤولة عن أمن الوطن والمواطن، وبين قوى 8 آذار المصرة على التمسك بثنائية الدولة ـ المقاومة واعتبار لبنان جزءاً أساسياً من محور الممانعة.
اربع سنوات من الصراع القاسي بين قوى 8 آذار التي لم توفر وسيلة عنفية وتعطيلية الا واستخدمتها بوجه قادة وجماهير 14 آذار التي واجهت مسلسل العنف والاغتيال والتعطيل بالصمود اللاعنفي، هذا الصراع الذي لم يستطع حسم ايّ من المسائل المطروحة، ولا سيما تلك التي سبق وحصل الاجماع عليها في طاولة الحوار الاولى: المحكمة والسلاح الفلسطيني خارج المخيمات وترسيم الحدود بين لبنان وسوريا، ناهيك بسلاح حزب الله والاستراتيجية الدفاعية ومسؤولية الدولة في حماية الوطن والمواطن.
مما تقدم، يتضح ان اليسار الذي غادر مسرح الاحداث منذ زمن مع دخول القوات السورية ومباشرة اجتثاث قادة هذا اليسار وكوادره، هو موجود اليوم بالاسم من خلال مجموعات غير مؤثرة وتابعة هنا وهناك، في حين يزيد الامر التباسا عند محاولة تحديد مفهوم اليمين وهويته، لاسيما وان قوى اليمين التقليدية التي كانت تدافع عن مواقعها في النظام وامتيازاتها الموروثة هي اليوم بمعظمها في موقع آخر، ومنقسمة على بعضها بشكل لم يكن بالامكان تصوره من قبل، حول خيارات استراتيجية تتعلق بلبنان الدور والموقع والكيان.
لهذه الاسباب وغيرها قد تبدو الدعوة للعودة الى اليسار فيها نوع من السوريالية والضبابية التي تحتاج الى الكثير من التفسير والتحديد لا سيما وان الناس معظم الناس لا يزالون منهمكين وقلقين على ما ستؤول اليه المسائل المفتوحة والمطروحة منذ اربع سنوات، وفي مقدمها هاجس الامن والاغتيال الذي عاد واطل برأسه امس وقبل ايام، من بكفيا والمية ومية.