ثقافة «الحروب الوهمية» وواقعيتها
نظام مارديني
لم يكن من الصعب فهم هجوم مصطلح «الفدرالية» على منطقة الهلال الخصيب وبقية العالم العربي، بعد سقوط الاتحاد السوفياتي في العام 1990، وبداية تكوّن نظام أحادي القطبية وخلق واقع دولي جديد، قد تكون تداعياته خطيرة على هذه المنطقة، من خلال تعزيز الصــدام المذهبي (نظرية هنتنغتون)، وسيناريو الطـــرق أسفل الجدار الاثني (نظرية بريجنــسكي)، واللعب بالمتحدات الاجتماعية القائمة لخلق بلبلة فكرية وثقــافية، بعد إيهام الجماعات المذهبية والاثنية بـ«هويـــات» و«جغرافيات» و«تواريخ» خاصة بهم.
لا شك بأن فشل السيناريوهات الأميركية في العراق، وانتصار المقاومة في لبنان (تموز 2006) وغزة (كانون الثاني 2009)، أسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي كان يراد من خلاله تطبيق هذا المصطلح (الفدرالية) في المنطقة، وأعاد للاعتبار أهمية ما طرحه المفكر أنطــون سعادة في نظــــريته عن المتحدات الاجتماعية في المجتمع الواحد.
إن التيار الذي سوق لمقولة الصراع الثقافي أو «صراع الحضارات»، هو تيار كان قد أصبح نافذاً وبدرجة كبيرة في الإدارة الأميركية، وخصوصاً بعد 11 أيلول/ سبتمبر 2001، الأمر الذي يشير إلى أن في المخيلة الأميركية والغربية إرهاصات تاريخية مختزلة عن العالم العربي، ولهذا السبب جاءت تفجيرات أيلول تأسيسية في استعادة تلك الإرهاصات السلبية المعادية للعرب والمسلمين. ولكن كان هناك عوامل مساعدة للإرهاصات الغربية، وهي التي تتمثل ببعض النخب المروّجة والمسوّقة للإسلام على أنه دين عنف، وهذا شكل عاملاً ثقافياً خطيرا جداً، إذ يشير إلى علاقة مباشرة بين الثقافة والدين الإسلامي والعنف، الأمر الذي جذر الفكرة والرؤية المعادية للعرب والمسلمين، وعليه أصبح صوت جون اسبوسيتو، المدافع عنهم، ضعيفاً وغير مسموع، فيما صوت برنارد لويس وصل إلى أقصى مد في التهويل من مخاطر العرب والمسلمين.
هذا الواقع يؤكد دور أن العامل الثقافي أصبح أكثر أهمية في المخيلة الأميركية والغربية كما في المخيلة العربية والإسلامية، وبدا وكأن هناك إجماعا على أن هذه الحرب ضد الإسلام والمسلمين، وأن الإدارة الأميركية والنخبة النافذة فيها لم يكن لديها إدراك معرفي بخطورة هذا العامل، لم يفهموا أن سياساتهم أمدت وأعطت ذخيرة أيديولوجية للتيارات المتطرفة وأيضاً ذخيرة معادية للديموقراطيات العربية والإسلامية التي تبحث لها عن موضع أو موقع تحت أشعة الشمس، وهذه السياسات أدت إلى حشد أيديولوجي وإلى قناعة بأن ما يجري في فلسطين والعراق وأفغانستان وإيران هو حرب ضد الإسلام والمسلمين، وهذا في الحقيقة أضر العملية السياسية في العالم العربي. كما يفسر أسباب ظهور أصوات ما يسمى بـ«الاحتياط الاستراتيجي» على ساحة صناعة السياسة في واشنطن لتوصل فكرة أن الديموقراطية غير مناسبة في العالمين العربي والإسلامي. ويوردون عوامل عديدة لتأكيد وجهة نظرهم، وأهم تلك العوامل تتمحور حول ثلاث نقاط وهي:
1ـ إن العالم «العــربي والإســـلامي»، مقسم إلى جماعات غير متجانسة و«هويـــات» متعددة لا تلبي الشروط الأوليــة لقيام الديموقراطية المؤسسة على المواطنة.
2ـ إن ثقافات «العالمين العربي والإسلامي» غير مناسبة للديموقراطية.
3ـ إن الديموقراطية ستشكل ضرراً على المصالح الأميركية في العالمين المشار إليهما، كما أنها ستهدد أمن «إسرائيل» (وهو ما يعتبر خطاً أحمر في واشنطن).
أنت هذه العوامل جزء من منظومة كبيرة من الموضوعات السياسية التي طرحتها بعض الدوائر الغربية الداعمة للديموقراطية في العالم العربي خلال السنوات الأخيرة، وذلك كاستجابة استراتيجية بعيدة المدى «للإرهاب». ورافقت هذه السياسة قناعة كبيرة لدى تلك الدوائر بأن الديموقراطية صالحة لكل زمان ومكان، وفي هذا الخصوص يقدم الباحث لي سميث فرضيته ومفادها أن أفضل ما يمكن أن يصل إليه أي بلد في العالم العربي في مجال الديموقراطية هو تقاسم السلطة عن طريق المحاصصة الطائفية والإثنية والجغرافية (كما يحصل الآن في العراق بعد احتلاله)، ويقدم نموذجه الأفضل في هذا الإطار لبنان! ويتحدث سميث عن هذه الطريقة في الحكم ويصفها بـ«التعددية» التي تبنى على أسـاسها الديمــوقراطية. ولكن لمـــناقشة هــذه الفرضية يمـكن قــراءة الرؤية التــالية:
إن التعددية كما تطورت كمفهوم في العلوم السياسية وفي الدراسات الديموقراطية التي تشير إلى التعددية السياسية القائمة على الهوية المدنية للأفراد وليس الدينية أو الإثنية. والهوية السياسية تنتظم على أساس الأفكار والمصالح التي يلتقي عليها مواطنون لا طوائف في دولة ما. ولكن السؤال الذي لا بد من طرحه: ما الذي يريده سميث، كما هنتنغتون وبريجنسكي ولويس، من الدعوة إلى بلقنة العالمين، العربي والإسلامي وتحويلهما إلى جماعات متناحرة؟ هل هي هذه الديموقراطية التي ينادون بها؟ ثم لماذا عندما يتحدثون عن العالم العربي يقولون إنه منقــسم على نفسه ولا يــــمكن تطويره ديموقراطياً بدون الاعتماد على تفتيته؟
الولايات المتحدة الأميركية وبقية المجتمعات الديموقراطية، تتكوّن من عناصر دينية وإثنية متعددة، ولكن هذه العناصر غير معتمدة في العملية السياسية في هذه المجتمعات حيث تقوم الأنظمة القانونية والحقوقية والسياسية بصياغة علاقات الأفراد على أساس المواطنة القائمة على المساواة أمام القانون. فلماذا لا يطبقون هذه المعايير التي يحاولون تطبيقها وإنجاحها في العراق؟ ثم لماذا تعامل الغرب مع العراق على أساس مذهبي وإثني وجغرافي؟
الإجابة عن هذه التساؤلات من البساطة بحيث لا يستأهل الكثير من التفكير، إنهم بوضوح لا يريدون خلق دولة مدنية في العراق بعد «فدرلته» وإنهاء دولته المدنية، بل يريدون جعله أنموذجاً لكل دول المشرق العربي تحديداً، (وأيضاً لكل من إيران وتركيا، الدولتين اللتين تعيشان أزمات متشابهة مع بعض الاختلاف في طبيعة النظامين السياسيين. فالأول ديني والآخر علماني وأنهما يتشابهان بتنوع عناصرهما المذهبية والإثنية)، وفي هذا ما يفسر هوس الطروحات الفدرالية في لبنان خلال السنوات الأخيرة، لا سيما من الجماعات التي خاضت الحرب الأهلية في منتصف السبعينيات من القرن العشرين على أساس هذا المشروع التقسيمي غير القابل للحياة، ولذلك تحمّل النخب الثقافية والمدنية العربية، الغرب مسؤولية أخلاقية لانزلاق المنطقة إلى أتون التطرف المذهبي والإثني.
وما يمكن فهمه من تشجيع المعايير التقسيمية أن المؤسسات الأكاديمية الغربية تتحرك دائماً بدوافع استشراقية ـ استعمارية (كان يحذر منها المفكر الفلسطيني ـ الأميركي إدوارد سعيد)، عبر تطبيق نظريات الأنتروبولوجيا على شعوب الشرق الأدنى التي عليها أن تتحول إلى «حيواتات» اختبار، وما يؤكد ذلك مرافقة علماء أنتربولوجيا للقوات الأميركية خلال احتلالها للعراق وهو ما أدانته جمعية علماء الأنتربولوجيا في الولايات المتحدة.
إن كل ما يحدث راهناً في المنطقة هو مجرد صدام مذهبي بحسب العقل الغربي كما أفصح عنه الكاتب البريطاني البارز مارتن وولاكوت أخيراً في صحيفة «الغارديان»، وذلك في مقال له بعنوان: «كيف أساء الغرب فهم الشرق»؟ إذ يفسر وولاكوت ما يحدث في المنطقة، من المقاومة العراقية للاحتلال الأميركي، إلى المقاومة اللبنانية للاحتلال «الإسرائيلي» والصراع المذهبي القائم في لبنان بعد انسحاب الجيش السوري، مروراً بخلافات إيران «الشيعية» مع أميركا «البروتستانتية»، وكل ذلك يقودنا إلى نظرية «التدمير البناء» التي أطلقها المدير التنفيذي لمركز واشنطن لدراسات الشرق الأدنى روبرت ستالوف وتبنتها الإدارة الأميركية والتي تدعو إلى تفجير البنى الاجتماعية العربية، ليس لبناء الديموقراطية فوق أشلائها، بل لتأييد الحروب الأهلية المذهبية والإثنية «غير البناءة» فيها. والجدير بالذكر أن مركز واشنطن للشرق الأدنى مركز يهودي، يعتبر لوبي ليكودي داخل الولايات المتحدة.
([) كاتب سوري
السفير